كلام في البرية عن القاضي والبصرة الفدرالية !

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
05/01/2009 06:00 AM
GMT



"لقد قلت وخلصت نفسي – ماركس"

لم أستوعب أفق ما يفكر به السيد وائل عبد اللطيف حقا بشأن مشروعه الفدرالي الا بعد أن استمعت اليه في ندوة فضائية الحرية. فلأنه كان في حالة جدالية، وربما سجالية، أطلق العنان لمخيلة لا تصلح لقاضي بل لسياسي من هذه الايام يهرب الى امام بالاستناد الى أمثلة تاريخية. لقد اكتشف لمشروعه الفدرالي سندا تطبيقيا ونظريا عند الامام علي بن ابي طالب وعمر بن الخطاب (رضي الله عنهما). لا مفاجآت في هذا الزمن الذي يوصف انه لا اديولوجي حتى باستخدام تنظيمات ادارية من الطراز القديم لم تدم طويلا لتبرير الفدرالية الحديثة.
إمعانا بتفقيه مشروعه الفدرالي أخبرنا القاضي عن البصرة الولاية العثمانية التي شكلت مع بغداد والموصل العراق الحالي . أظن لو منح القاضي فرصة للحديث عن الأدلة التاريخية لحدثنا عن دولة المشعشعين ، أو لحدثنا مطولا عن قيام أحد التجار بشراء ولاية البصرة من والي عثماني كفر بالعراق وأهل العراق، أو أشار بالتفصيل الى طلب نظيره عبد اللطيف المنديل من الانكليز الارتباط بالادارة الانكليزية في الهند بدلا من الارتباط ببغداد الهاشمية. لعلّه يمكن سرد كل هذه الوقائع بكتاب يتضمن كذلك شيئا عن فقه البصرة الذي يختلف عن فقه المدينة في الحجاز كما يختلف عن فقه المدارس البغدادية. لا أشك في انه يعرف كل هذا الا إنني احب أن امضي معه في استرداد ما لا يسترد.
إن تقديم الأمثلة التاريخية عن استقلالية البصرة الاداري في العهد العثماني الذي دام اربعة قرون لا يثبّت مكانتها الا في حدود المقاييس السائدة ومصالح السلطة آنذاك، لكننا نعلم علم اليقين بغياب دور البصرة الحضاري وسقوطها التاريخي في غياهب التخلف والاستبداد العثماني ، شأنها في ذلك شأن بغداد. في ما عدا ذلك أرى أن الامثلة الأخرى إما مجرد افتراضات وإما أحداث لها تعابيرها ومبرراتها الخاصة غطّاها التاريخ الحقيقي.
يفاجئنا سياسيو هذا الزمان بتواريخهم، والقابهم، وطوائفهم، ولحاهم الخفيفة، ومشاريعهم، وأحاديثهم الممتعة عن الشفافية والديمقراطية. بالنسبة لليبرالي مثل القاضي وائل (هذا ما يشيعه عن نفسه في البصرة التي ضجت من القيادات الدينية) سيكتفي بتاريخ مدينته، ثم آهليته الشخصية بوصفه قاضيا. هذا يكفيه شخصيا بل ويكفينا. لكن ثمة تفصيلا صغيرا يجب ان نتعرف عليه، فالقاضي الذي عدّ سياسيا لا نعرف تاريخه السياسي حقا. حبذا لو نعرفه لكي نكون على ثقة ودراية بصاحب المشروع. لا يستهدف هذا الطلب التشكيك بل التوضيح بالاقتران مع حالة مدوّخة، فجميع النواب يعتبرون انفسهم سياسيين، وتعاملهم الصحافة على أنهم كذلك، بصرف النظر عن تاريخهم الشخصي ومهنهم الأصلية، وبصرف النظر عن قصر المدة التي عرفوا فيها. ومعروف انه ظهر بعد 9 نيسان 2003 آلاف السياسيين والمحللين وخبراء الاعلام والمستشارين من دون أن نعرف عن ماضيهم شيئا. وهاهم اولاء أنفسهم، قبل أن نتعرف عليهم جيدا يغامرون بنا وبالبلد بمشاريع كبرى. قبل أن نحصي الجثث والأحياء، قبل أن نحوز على أرقام صلبة عن الحياة والاقتصاد والتعليم والثقافة والتقنية ، قبل أن نحصي الارباح والخسائر ، يقررون براحة بال ، وبضمير لا تزعجه الشكوك ولا حقائق واقعنا الرث،  المصير السياسي للبلد. وقبل أن نعرف شيئا عن الحاضر يرهنون مستقبلنا .      
على ماذا يعولون؟على دستور كتب على عجل والماضي الدكتاتوري ما زال نديا - كتب على اصوات الانفجارات والتفخيخات مع التخويف والتهديد والظلام الدامس. وهل يجوز التعويل على افكار عامة عن العراق الغني الذي أفقر، عن عدالة قديمة، عن أمثلة خارج سياقها التاريخي والموضوعي؟
كان النزاع يجري، والدم يسيل، والامريكان المخادعون ، الذين لم يعرفوا شيئا ، أو عرفوا وأرادوا مقتلنا، طبقوا علينا مقاييس نموذج يدعى ما بعد النزاع Post- conflict، كأننا رومانيا والتشيك وسلوفاكيا وهنغاريا التي خرجت من المعسكر الاشتراكي لتنزلق نحو تجربة السوق الرأسمالي والديمقراطية. كانوا مخلصين لأعمال التصنيف وتشكيل النماذج النظرية وغير مخلصين  للواقع ، وقد جرّبوا على العراق بموازاة هذا النموذج سياسة العلاقات العامة كلية السخف والتجريد. أما جماعتنا السذج فقد قادوا هذا النموذج بتبني مشاريع مستقبلية، ما دمنا بتنا دولة انهت تماما النزاع، أي انهم قفزوا فوق المقياس الامريكي نفسه، وقبل ذلك بزوا الامريكان بالتجريد. 
 لقد استدخل القاضي هذه الافكار الطليعية ببساطة. ولكي يثبت انه ليبرالي وسياسي أشار، مع شيء من لهجة التنبيه والتهديد، الى امكانية حصول انقلاب عسكري إذا ما جرى عدم الالتزام بالدستور. من أين له أن يعرف ؟ أهي علاقة ظرفية بين عدم احترام الدستور وحدوث انقلاب عسكري؟ هل توجد علاقة حتمية بين هذه وتلك ؟ هذا معقول من الناحية النظرية ، لكنه ليس معقولا من الناحية الفعلية ، حتى لو كان هناك من يريد ان يجرب حظه فعلا. هل يشجع الامريكان مثل هذا الانقلاب؟ هل السيد رئيس الوزراء سيقوده أم وزير الدفاع ام ضابط من رتبة كبيرة؟ هل الجيش العراقي كاف لضبط العراق الذي لم يضبطه الامريكان؟ ما دام الامر يتعلق بامكانية فهذه الاسئلة واردة من دون رغبة منا بالغمز من قناة القاضي أو اثارة المصاعب عليه واحاطته بالشكوك. إذا كان القاضي يعرف بوجود مثل هذه المخاطر فليقدم لنا المعلومات والتحليلات الكافية لكي نتثبت من الأمر، وقد نصطف معه. لكن القاضي يخوفنا أو يخوف نفسه لكي يبرر مشروعه الاتحادي ويقوي دفاعه عن الدستور الفدرالي الذي كلنا نعرف انه لم يحصل على الاتفاق الوطني الاّ  بوعد تغيير عدد من فقراته !   
هناك ثلاثة ظواهر غريبة ظهرت بعد الاحتلال ضمن هذا السياق:
- الأولى أن المشاريع التي تقع في أفق الزعامات المحلية هي التي تطرح بقوة ويدافع عنها بحماس مع أن أطرها السياسية والتنظيمية والمالية غير متوفرة ، أما المشروع الوطني في بناء الدولة العراقية على أسس غير طائفية ولا اثنية، أي على اسس مدنية ووطنية، فلا أحد يتحدث عنه بحماس كاف في حين أنه الأساس لكل المشاريع العقدية الاخرى بصرف النظر عن ميزاتها وتكلفتها ، ومنها الفدرالية بالطبع. 
- الثانية أن البعض يصرّ على ( المبادئ ) ويراها أو يتخيلها واقعاً. فمن الناحية الواقعية ليس في العراق دولة حقيقية بعد، بل هو لا يمتلك وزارات ومؤسسات تقوم بربع واجباتها حتى نعتبر ذلك انجازا لها، ثم نسمع بين الحين والحين أساطير عن كارثة ( دستورية!) سيقترفها جيش العراق بقيامه بانقلاب يطيح بالديمقراطية والدولة الفدرالية.
- الثالثة تضع الدولة القوية في كفة ميزان مقابل وضع الفدرالية في الكفة الثانية، مع عدم الاشارة الى المؤسسات الوسيطة كالبرلمان والقوانين والدستور والعرف، اي المبالغة في التجريد، ووضع الاشياء على التخوم واحاطتها بالفراغ من اجل الحصول على شائعات ترقى الى مستوى البداهة والتخويف منها. في حين أن الدولة الحالية من حيث البنى والوظائف والموقع السياسي لا تشبه بأي حال من الأحوال الدولة الشمولية السابقة المستثمرة من قبل حزب واحد، من هنا يعد الحديث عن الدولة وفي ذهننا تلك الدولة احتيالا وديماغوجية. والحال إن هذه الظواهر – المزاعم كلها قد تصدر عن جهة واحدة  في آن واحد حسب تقلبات الامور، وحسب ما يراد تمريره من تخويفات وأكاذيب. ومن الواضح إن الناس في وضع متعب جدا الى حد انهم لم يعد يدققون او يبالون أو يفهمون. لقد استغل بعض السياسيين اسوأ الظروف لتمرير ألعابهم .
تعلن الديماغوجية الجديدة خوفها على الدستور من جيش غير مهيأ لا لحماية الامن الداخلي ولا حدودنا الخارجية، كما تتخوف على الفدرالية من الدولة المركزية مع انه لا توجد دولة حقيقية حتى هذه الساعة . فضلا عن ذلك فإن من يدير المحافظات حاليا هي النخب السياسية المحلية المنتخبة وليس جماعات معيّنة من بغداد كما كان يحدث سابقا. ومعروفة الكيفية التي جرى فيها انتخابها، والتدخلات السافرة التي ترقى الى التزوير التي حدثت في ذلك. إن هذه الحقيقة قد تكفي للاستنتاج أن هذه النخب المحلية المسيّسة حتى العظم، والناشطة الآن على نحو استثنائي بسبب قرب الانتخابات هي التي تريد توسيع حصصها باسماء وحجج مختلفة. لكن لم العجلة ايها السادة؟ إذا ما امعنتم النظر، عن حسن نية ومن دون خداع،  لوجدتم أن مشروع بناء الدولة الحديثة والقوية والديمقراطية مهم جدا لأي مشروع سياسي وتنظيمي واداري جديد. هذا هو درس الفدراليات الديمقراطية، حيث النظام الاتحادي الجديد لا يظهر غريبا عن العقد الاجتماعي الاول بل ينبعث من داخله عند الضرورة مثلما هو يعزز أفق العقود الأخرى ، شاقا الطريق الى بناء ديمقراطية واسعة أقل جدلاً نيابياً فيما يتعلق بتوفير الحاجات الاساسية للشعب وأقل ثرثرة فيما يتعلق بالبديهيات.
إذا كان السيد وائل لا يعرف هذا، فلن تكون حججه التاريخية سوى غزل غير بريء مع القوى المحلية التي أساءت الى البصرة، ولن تعدو ليبراليته سوى مرحلة ينتقل بعدها الى حكومة (بصرية) تتقاسمها النخب المحلية الحالية أو بعضها بكل ما تتميز به من عدم كفاءة وانحياز فظ الى احزابها السياسية  ناهيكم عن نزعتها الطائفية.
لا توجد اليوم دولة واضحة المعالم تسمح لنا أن نسميها بثقة دولة اتحادية او ديمقراطية أو مركزية او لا مركزية. بالمقابل ما زالت  الذاكرة الجمعية السياسية تحتفظ بذخيرة من تجارب الانظمة السياسية التي ركبت الدولة وحطّمتها قبل أن يبددها الاحتلال نهائيا - تجربة يحولها البعض الى مقياس سلبي لكي يبرر عرض المظالم مع حلول متعاظمة تثير الانشقاق الوطني وتكلف الدولة الجنينية المتاعب. نعم لا توجد دولة واقعية بينما يوجد دستور، وهذه الحقيقة الملتبسة لا تبدو غريبة لأصحاب المشاريع الإتحادية على الرغم من أنها تذهب بهم الى ما يشتكون منه ويتخوفون: انحطاط الحالة القانونية كلها، ضعف الجهاز التنفيذي ، تفكك العلاقة بين الاعلى والادنى في جميع الاجهزة. لا حاجة للقول إن هذا يعني توفر امكانيات غير عادية لحدوث خروقات دستورية خطرة تؤثر على حياة الناس في أمنهم ولقمة عيشهم وحرياتهم المدنية. ومعروف أن البصرة التي خادعت نخبها السياسية المهيمنة المركز طويلا ضربت الرقم السياسي بخرق الدستور لكن بعزلة وصمت وفرته الادارة المحلية الخائفة والمشتركة بالسوء. ومن المؤسف ان الحكومة التي ادارت عملية عسكرية هناك صمتت هي الاخرى ووفرت من جديد الغطاء لعودة صامتة للسيئين. 
منذ أن أقرّ الدستور جرى خرقه مئات المرات، ليس لأنه سيء أو غير كاف بل بسبب طبيعة علاقات القوى والثقافة السائدة وعدم وجود تقاليد ديمقراطية، فضلا عن وجود حالة استثنائية بسبب العنف والإرهاب بالإقتران مع عدم وجود دولة تراقب وتحاسب. في البصرة التي كان القاضي محافظا لها كانت القوى المتنفذة تسرق وتنهب وتعذب وتغتال وتقتل النساء : الا يشكل هذا خرقا للدستور ؟ لكن – يا للسخرية - هذا هو الخرق الدستوري الحقيقي الذي لا تترتب عليه (انقلابات عسكرية) ولا (فضائح دستورية) ولا يستدعي التحقيق والفضح العلني والإحالة الى المحاكم، لأنه عادي جداً، يومي جدا، قديم جدا، ويجري بين أحباب ومتواطئين، ومتوفر بكثرة في السوق المحلية ، وكنا ولا نزال نبتلعه يائسين مستسلمين. 
ماذا يعني وجود دستور بلا جسد تنفيذي (دولة)؟ أدعوا الجميع الى تأمل هذه الحالة الغريبة، وسيرون انهم بلا دولة مجرد قوى تعمل بغرائزها مضطربة تخاف من بعضها البعض. أدعوا هنا بوجه خاص اولئك الذين حاولوا اضفاء الشرعية على النظام السياسي الميكانيكي الذي أقيم في البداية، وواصل العمل في شكل نسخة متطورة منه متخذا نفس مبادئه (المحاصصة). أرى أن بناء الشرعية عمل معقد لا تصنعه الانتخابات ولا الدستور بل وجود نسق من الترابطات والسياقات وأنظمة الربط والتنسيق ما بين هذين العنصرين وكيان دولة حرة معترف بها قادرة على فرض الزاماتها وقوانينها ودستورها في الداخل وتحظى بالاعتراف الدولي والاقليمي. اليس من الأفضل والمعقول انتظار تقوية هذه الروابط الديمقراطية، ورسوخ الديمقراطية كممارسة وثقافة وسلوك، واستتباب الامن، وضبط حدودنا، والتفاهم مع جيرننا على قضايا الامن على نحو ثابت يضمن حقوق بلدنا وأمنه ويمنع التدخلات المشينة بشؤؤنه الداخلية،  قبل الذهاب الى التفكيك والتحليل والأنظمة المبتكرة؟ 
عند هذه النقطة نصل الى العقدة الاساسية التي تمسك بالقضايا العقدية كلها بما فيها الفدرالية. لننبه: قبل أن نستوفي حقوق الشرط الوطني والسسيولوجي يصبح التقدم بمشاريع ادارية معقدة وغير مفهومة أمر سابق لأوانه جدا ويثير الانشقاق .
ما زالت الدولة الوطنية الحديثة في حالة بناء، بيد إن المشكلة أن هذا البناء يتكفل به نظام سياسي يعيش مآزق البداية السياسية الخاطئة والعجولة التي ظهرت في ظروف غير عادية وغير عادلة من الاحتلال الأجنبي والعنف والإرهاب والانقسام. إنه مأزق مضاعف لأن هذا النظام صنع بنفسه أدوات تعطل ارادته التنفيذية وتشتت جهوده، ولاسيما أن القوى السياسية المشكلة له تمثل تركيبات طائفية بما يجعلها دائمة الدوران حول مطالبها، متعصبة ، تأخذ بيد ما تعطيه بيد اخرى، وتحاول الاستفادة من الخطأ والصواب متحججة بالدستور ومبدأ التوافق لإعاقة كل ما تعتقد انه يضرها في عملية البناء هذه. لقد ضيّع هذا النظام السياسي على نفسه وقتا ثمينا بسبب التنافس على تقاسم الموارد والوظائف وتحويل الدولة الى بقرة حلوب.
ما الذي يجري؟ لدينا قوى ترغب في تقاسم الدولة وتحويلها من جهاز قادر على بث صورته العقلانية في قلب النظام السياسي، الى جهاز ذليل مقلم الأظافر ترجّه المحاججات النيابية والمصالح الضيقة وتفتته المجتمعات المحلية باسم خصوصيتها أو باسم توزيع المهام الادارية. وعلى الجملة توجد تصيرات فعلية تريد أن تنتهي عند نظام سياسي قائم على تبادل المنافع بين القوى السياسية الممثلة للطوائف والاثنيات، تصيرات تبدو اكثر وضوحا واندفاعا من مشروع بناء دولة ديمقراطية حديثة. إننا ولاشك نتحدث عن نظام سياسي يلصق صورته المترجرجة على الدولة ، يتسلقها، يركبها، يستنزفها، يحطم بناءها ووظائفها العقلانية الشاملة، محولا وظائف الخدمة العامة الى أدوات حزبية. ( هل تريدون ان نسرد ما يجري للمواطنين للحصول على وظيفة تافهة؟) هذا هو في الحقيقة أفق السادة الذين يمارسون الحكم حاليا للاسف – نظام سياسي قائم على المحاصصة ابتداء من الوظائف السياسية وانتهاء بوظائف الخدمة العامة، كان السيد وائل عبد اللطيف واحدا ممن أسهم فيه ودافع عنه، ثم تشكى منه ومن انعدام فاعليته، وقد يظن انه يهرب منه بالفدرالية. ( عندما يشيدون فدراليتهم قد يتظاهرون بانهم انقذوا البصرة من الطائفية والحكومة المركزية السيئة – الا نعرفهم ؟!)
ثمة حقيقة مثيرة تبدو هي صلب المشكلة العراقية كلها يعرضها القاضي كأنه يقدم لائحة اتهام باسم مدينته: البصرة فقيرة جدا بينما هي تقف على ثروة هائلة. هل يجوز هذا؟ أجيبه: لا.. لا يجوز . (من قال يجوز نخرجه من الصف!). لكن لماذا اشعر أننا ازاء دعوة سافرة لتشكيل فدراليات على قدر المدن التي تقف على ثروة هائلة بينما تعيش ببؤس، وفي العراق مدن عديدة كهذه لو أمعنا النظر وقمنا بجردة حساب تفصيلية لا تغشنا فيها ثروة النفط؟ المشكلة في الحقيقة أعقد، فالبصرة ليست فقيرة وبائسة حسب بل ومتخلفة اجتماعيا وثقافيا وصحيا وخدميا وتقنيا واداريا، ولكي ننقذها سيكون علينا أن نجيد لغة الاقتصاد والتنمية أولا( قبل لغة الدعاوى السياسية المعسولة، واللغة النقدية المغرضة التي تحتفظ بالنتيجة مسبقا مثلما يحدث الان من قبل الديماغوجيين على اختلاف مراجعهم) أي أن نخطط ونضع الموارد المالية والبشرية في خدمة تنمية مستدامة بكلف تنظيمية قليلة وواقعية. ومفهوم إن هذا يستدعي قرارا سياسيا، وبفضل الدستور والانتخابات والوعود الديمقراطية فإننا قطعنا اكثر من نصف الطريق لتوفير هذه الارادة فضلا عن القدرة على مراقبتها وتطويرها.
على هذا المستوى من التحديد نفكر بالمركز – بغداد – العاصمة. فهل يظن أن هذا المركز أخذ حصة الاسد وأبقى المحافظات الاخرى في تخلف لا يرجى الخلاص منه الا بحل فدرالي؟ لكن دعونا نفحص النتيجة الماثلة على الارض : فبغداد الحالية هي أسوأ مدينة في الخدمات والامن والتأمين الصحي والاجتماعي. إنها في الحقيقة مدينة كارثية ، تهيم في البرية ، ريفية أسوأ من الريف نفسه، امتدت طولا وعرضا ولا تستطيع أن توفر الخدمات الاساسية لسكانها لا في الطول ولا في العرض، بنى ارتكازية مهشمة، فقر، جوع، اهتراء في النسيج المعماري والمدني، وجلّ معاملها متوقفة. هذا هو المركز الذي يخافون منه، ضعيف حضاريا ومدنيا وانتاجيا، يتحكم فيه الريفيون في غذائه وخدماته ويستورد كل طعامه ويستهلك اسوأ انواع السلع. إن وجود الحكومة في المركز لا يجعله مزدهرا، وتنظيف شوارعه حتى الآن لا يعدو اخفاء تفسخه الداخلي. علينا أن ندرس الواقع العراقي من دون عزله عن صورته المروعة بعد هزيمة الدولة على يد الامريكان والرعاع والتي أدت الى أن يكون المركز هزليا ومستباحا وخطرا واعتدائيا ولا يطاق. هذا المركز الذي كان فخرنا، وفخر الحركة الوطنية، وموقعا لانجازات الثقافة، ضربوه ضربا مبرحا من الاعلى ونهبوا حياته ومفاخره من الاسفل، ليتحول الى اكبر سوق للسيارات واستهلاك الطعام والقبولات السياسية والثرثرة وبناء الاوهام وتقاسم الوزارات والمؤسسات. والآن ماذا عن ديالى، والرمادي، والعمارة؟ العراق كله غارق في التخلف والفساد. لكن هذا العراق ( يا لسعادتنا عندما نجد حلا من فم فدرالي ينقّط عسلا) ليس الا صورة اخرى، أكثر اتساعا، لمثال ازدواج الغنى والفقر في مكان واحد. العراق الذي راح الجميع يحبه، ويتغزل به، الا يقال انه قوي بعمقه الحضاري والثقافي، أي انه قوي من مسافة بعيدة، من عمق لا يقاس بالامتار، عمق خفي، صوفي .. الخ الا ترون كيف إننا التقينا بمثال البصرة الغنية من الاسفل والفقيرة من الاعلى. لا أمزح. ها هي ثروة حضارية في العمق ونحن الفقراء الذي جرى إذلالنا بالحروب والدكتاتوريات والاحتلال والقسوة والعنف والفقر والفساد والاكاذيب نطوّف فوقها خجلين.
ايها السادة : ما الذي نحصل عليه من  افكار عامة وسهلة غير افكار عامة وسهلة؟
الآن وقد جمعت التواقيع للفدرالية، ماذا يقال بعد، فكأن البصرة مدينتي التي سقط فيها رأسي اختارت ، وكأننا اخترنا، وكأن الدستور يظللنا ويحمينا من كل عسف، وكأن مخاطر الانقلاب العسكري تراجعت، وبالطبع بالطبع خلصت الحكاية وعشنا عيشة سعيدة في عراق السؤدد والخصب والحضارة .. والفدرالية!