3 سنوات على رحيل يوسف الصايغ شاعر التشرّد المتعالي |
المقاله تحت باب مقالات و حوارات (معبد يزيدي في الموصل - الصورة لا علاقة لها بالموضوع )
شكلت قراءة يوسف الصايغ لدى الجيل الأخير من المثقفين العراقيين حدثاً صادماً ومؤثراً: لغته العذبة من دون حدود، أفكاره الغريبة المتطرفة، توسلاته المجروحة المشاعر، غرائزه المكشوفة، يأسه المذيب من دون أن ترشح منه قطرة أمل واحدة، وهنالك أيضاً الندم الإنساني القاهر، والضعف المحكوم بأن يفضي إلى طغيان، والقسوة التي يمارسها الأبطال بلا مشاعر حيال الأشياء التي يواجهونها... هكذا كانت كتبه: قصائد غير صالحة للنشر (1957)، اعترافات مالك بن الريب (1972)، ديوان سيدة التفاحات الأربع (1976،)، المعلم (1985)، ورواية اللعبة (1972)، ورواية المسافة (1974)، ومسرحية الباب (1986)، ومسرحية العودة (1987)، ومسرحية ديزدمونه (1989). واعترافه الأخير وهو سيرته الذاتية.
غير أن تعرضه بعد العام 2003 إلى هذا الكم الهائل من المقالات الفجة والخائرة في شتمه وتسفيهه، يبين كم خضع هذا الشاعر، الذي عاش نوعاً من العزلة القاسية، إلى تعميم كاسح وظالم. عاش الصايغ في بلاد ملتبسة، فرضت عليه قيوداً صارمة، ولم تكن الخيارات ممكنة، غير أن الآخرين كانوا يظنون أنه عاش نوعاً من السيادة المطلقة وقرباً من الدولة المتسلطة كقائد أو طاغية وهو أمر شائن ومضحك... كل الذين عرفوه يدركون أنه أمضى حياته الأخيرة في التعويض عن خسارة مربكة، خساراته هو... ومن يعرفه حقاً يدرك أن لا طموح ولا استيهام في شخصيته اللاهية والعابثة والخائفة، والتي لا تسمح له بالتقرب بصورة ثابتة ومتواصلة من السلطة، فربما هو الأكثر ذعراً منها! وهكذا جرب يوسف الصايغ طوال حياته داخل العراق نوعاً من التشرد المتعالي الذي لا تظهر فيه القيم جلية، ولا الهويات راسخة، ومن قرأ كتبه يدرك جيداً أن كل ما كتبه كان يقوم على أساس تجربة متناقضة، تجربة مجتمع متغير، كان الصايغ يسعى فيه لإيجاد قيم متعددة ومتغايرة، ومن يعرفه يدرك أن شخصيته تقوم على تناقضات فادحة، وتحولات لا نهاية لها... فهنالك مزيد من التبعية في شخصيته، ومزيد من احتقار الذات، ومزيد من الخوف، ومزيد من التهدم، ومع ذلك علينا أن نقر بأنه على رغم الذعر السياسي اللافت في شخصيته، لكنه، وعلى خلاف الخائفين الآخرين، واصل تأمله في تجربة الخيانة، وتغيير الذات، والتحول. والذين طمسوا موهبته يدركون جميعاً أنه في النهاية أبرز من أن يغفل وأشد موهبة من أن يقصى. فربما استخدم من فئات سياسية بعينها، وهو أمر لا ينكره أحد، لكنه في المقابل كتب أدباً لا ينسى، وستبقى رواية «اللعبة» في ضمائر أجيال من الشباب، ولكن ذاكرتنا الوطنية المجروحة لا تتضمن أدنى مقدار من التسامح. عاش الصايغ ضائعاً وهو يجاهد كي يجد هويته، ووسط التناقضات وجد نفسه (وهو بموهبته الفذة) عرضة للابتذال والتحقير والهزائم، وجد نفسه هكذا: مسيحياً وسط مسلمين، وشيوعياً وسط مجتمع يحكمه البعثيون، وقادماً من الموصل إلى بغداد، فقيراً، منفياً، غريباً، مثقفاً، محباً للحياة. وفوق ذلك كان متناقضاً إلى أقصى الحدود، يتصف بضرب من التطرف يصعب تجاهله، وبالغلو والإسراف في كل شيء، وإسرافه هو قوته التي أراد بها إخضاع العالم المتصلب لرغبته. هكذا ترك الشيوعيين والتحق بالبعثيين، فهل حصل هذا الخاسر الأبدي على السكينة التي كان يبحث عنها؟ الهدوء والسكينة هما آخر ما حصل عليه، والسلام والغبطة المتهم بهما لا أحد يؤكد أنهما تحققا في حياته أبداً. أما الحقد والقسوة وتصفية الحسابات القديمة فقد شعر بها بالتأكيد في أيامه الأخيرة. إن التهم التي تلصق اليوم بيوسف الصايغ هي شتى، مع أن أحداً لم يثبت إلى الآن تورطه بإيذاء الآخرين، والكل كان يجاهد بأن يوحي بأنه مخبر وشرير، فهل كان كذلك؟ رأيته ثلاث مرات: مرة عندما كنت في الثالثة عشرة، ذهبت بصحبة عمتي إلى قاعة كبيرة في بغداد، فجاء ليقرأ قصيدته «انتظريني عند تخوم البحر» بعدما ترك الشيوعيين والتحق بالبعثيين، وكان الجمهور، وغالبيته من الشيوعيين، غفيراً جداً، وحدث ما يشبه الاضطراب والتمرد، فقد أعاد الصايغ الى الشيوعيين تجربة السياب حينما غادرهم نحو القوميين وهم في ذروة الصراع والتنافس، وكان هو أقرب إلى الانهيار النفسي. المرة الثانية في التسعينات من القرن الفائت جاء ليقرأ مجموعة من قصائده القصيرة، في قاعة صغيرة شبه مظلمة في بناية تاريخية في شارع الرشيد، أمام جمهور أكبر من أن تتسع له القاعة، وقد تزوج من زوجته الثانية وأعلن إسلامه! وهو في غاية الارتباك والتلكؤ... لقد جره خوفه العصابي في دولة بوليسية الى أن يعيش ويشعر ويخلق من الكابوس مبدأ جمالياً ويتواءم معه. وفي المرة الثالثة رأيته بعد العام 2003 بقليل، وهو يجر قدميه جراً، وقد خبت عيناه تماماً، وفي الصحف كلها كانت هنالك حملة ضارية تتهمه بأنه لعب في زمن صدام ما لعبه غوبلز في زمن هتلر (يوسف الصايغ غوبلز!)، لم تكتف الحملة بما فعلت وهو في أيامه الأخيرة، فالدولة التي آمن بها انهارت، والجيش الذي كتب له ديوانه «المعلم» انهزم سريعاً، والمدينة التي لم يفارقها كانت على حافة الحرب الأهلية والفوضى، بناياتها حطمتها القذائف وشوارعها مسودة بالغبار والدخان، وهو يسير على عكازه في شارع حيفا حيث كانت شقته، عيناه منطفئتان، ويداه ترتجفان، ولحيته البيضاء ذابلة وقذرة، والسيجارة لا تفارق شفتيه. كان يشتري حاجاته ويهرب سريعاً ليختفي عن الأنظار، هكذا عاش يوسف الصايغ قبل هربه إلى دمشق ومن ثم موته. شعرت به في مشهده الأخير كأنه يحاول أن يبرز في تلك الليالي السوداء - وهو ينتظر رصاصة الرحمة - مشهد الموت الوحيد، ذلك المشهد الذي لا ينيره سوى صدى صوته ملقياً «اعترافات مالك بن الريب»، قصيدته الأثيرة. كتب سعدي يوسف بعد موته أن يوسف الصايغ مغرم بالواجهة، وأن الواجهة في الشعر ليست وجهةَ الشعر، وهذا أمر فيه من الظلم قدر كبير، لقد نظر سعدي يوسف إلى شعر يوسف الصايغ من المنظور السياسي، وهو أمر محزن، نظر إليه نظرة استياء وسخط. لا أحد يعرف أين جهة الشعر حتى سعدي نفسه. لا أحد يدعي ذلك. ولو كانت للشعر جهة واحدة لذهب الشعراء اليها وانتهينا. لكن للشعر جهات مختلفة ومتعددة، وقد اختار يوسف الصايغ جهته الخاصة، وهو عمد على نحو مذهل، ومنذ كتاباته الأولى، الى أن يعزز موهبته الفنية ولغته المسيحانية البعيدة أشد البعد عن البلاغة الباقلانية التي اتصف بها الأدب العربي في شكل عام. كانت كتابته العربية ذات البلاغة التوراتية تمزج ما هو أرضي بما هو روحاني، وترتكز على لغة متميزة ومنحازة في شكل متطرف. دفع يوسف الصايغ الثمن باهظاً في حياته وفي مماته، لقد أنكر عليه كل شيء، خوفه الإنساني وتبلبله، عدم ثباته واختلاقاته، شجاراته وندمه، توسلاته وأخطاءه، مع أن المنصف يدرك أنه أبقى على معارضة قاسية داخل نفسه. هذا الشاعر المذهل اختار طرد نفسه بسبب حياته الخاصة وتعمد ذلك. جعلته حياته الخاصة، وتجارب حبه الفاشلة، وعوزه، وشعوره الأقلوي - والتي كانت من الشدة والخصوصية - بأن يدفع ثمناً باهظاً ومذلاً في حياته ومماته. أما الذين شتموه فقد حكمتهم التصورات الباهتة غير الحكيمة، وأضفى عليهم الجهل الحقد والتشفي والانتقام. ولم يتراجعوا وهم يروه ضحية للعزلة والغربة الواضحة، ضحية لحياته التراجيدية التي شكلتها المازوشية والنرجسية معاً، بل فريسة أبدية للحب الطاحن وللشعر. عن "الحياة"
|