المقاله تحت باب قصة قصيرة في
15/12/2008 06:00 AM GMT
1 ـ عيد ميلادي. رسموا وجهي بالشيكولاتا والحليب المخفوق على لوح كعكة الميلاد، ولم يكن حسناً بالنسبة لي قطع وجهي بالسكين، لم يكن امراً سعيداً ابداً. أعطيت حنكي وجزءاً من شفتي السفلى الى زوجتي. واعطيت الجبهة الى أبنتي مع غزارة من شعر الكاكاو، وهذا ما احبته كثيراً. قطّعت وجهي على الضيوف، واكلت انا عيني البراقة، التي ظلت تحدق بي طويلاً حتى بعد اكلها، مثل من يحدق في مرآة.
2 ـ نزيل الفندق الفخم هناك أمكانية دائماً لأن تجد على باب غرفتك في هذا الفندق فتاة نائمة على سجاد الممر الداكن، وأنت تعود أخر الليل مع مشروب دافئ، كأن يكون القهوة بالحليب، لتمسح آثار الويسكي، أو ترى ثلاثة عشر شبحاً مرسوماً على باب جارك وهو يخبرك كل يوم بوجودها، ولا تراها إلا في هذه الساعة المتأخرة من الليل، حيث تريد الاحتفال بشيء يجري في حياتك. ها هنا المغنون في صالة الفندق يتذكرون أمهاتهم، وأنت تعطي روحك لشيطانٍ بوجهٍ جديد، خرج من الخدمة منذ خمسة عشر قرناً. وفي الهواء المشبع بالبخار على باب الفندق، يقف السائق التنزاني ببدلته البيضاء، مثل جندي من المستقبل، وأنت تسحب باب السيارة، وكأنك تهرب من الحياة. تدخل بسيجارك الكوبي، نصف ميت، ونصف بريء. تمسح عن شعرك نساء البار الايرلندي، في (آيريش فيلج). تضع الدنانير العربية في المنفضة الحديد فلا يصلّ شيء ولا يصدح. تفترق عن الحياة التي تتسع، وتقضم من الطريق الأقل من القليل. تعود الى الغرفة وتدخل بين جدرانها غير المكسية بالذكريات، لكي لا تقول الوداع لأحد. الأشجار التي نفضت أوراقها على الباحة الخرسانية، والأشجار التي لم تترنح، ولم تسقط بعد. ستنثر أوراقها ايضاً. ستكون نائماً حين يحدث كل هذا، هناك في العالم الذي يتسع ويقضم الطريق بأقدام الآخرين. تستيقظ بجوار الفتاة التي وجدتها عند باب غرفتك. تتقلب على السجاد النظيف وتلمس جفافه، ورطوبة ذارعها. وتترك باب الغرفة لعامل التنظيف الهندي. يركل خاصرتك خطأً، في طريقه الى إقفال التلفزيون في السادسة صباحاً.
3 ـ اليوم الأخير من حياتي. كنت رجلاً شريفاً، أؤمن بأن القدر ما يصنعه احدنا وليس ذلك المسطر في علم الغيب، وبسبب ذلك ربما اتيح لنفسي ان اسخر صباح كل يوم من فتاحي الفال وقراء الطالع المنتشرين في شوارع العاصمة، ومثلما افعل في هذا الصباح ايضاً، الذي كان رائقاً ويحمل برودة واهنة تخفف من وطأة الملابس الثقيلة التي ارتديتها، ولم اعرف أنه يومي الأخير. ولكن تأخر باص الموظفين ـ وهو سبب تافه طبعاً ـ جعلني أغير قناعاتي واجلس الى غجرية مسنة تفتح الفال وتقرأ الطالع قرب محطة توقف الحافلات. أخبرتني بخمس دقائق خلاصة حياتي، وأخبرتني أن المتبقي من حياتي هذه لا ينفع للقيام بشيء كبير. ـ شرب استكان شاي مع أصدقاء قدامى، أو التسكع قرب النهر، القيام بأمر لم تشبع منه سابقاً. قالت ذلك وهي تلخص لي أقصى ما يمكن أن افعله خلال هذا اليوم، أو خلال الساعات المتبقية لا أكثر. ولم استطع مقاومة الشعور بأنها، مع كلامها الغريب، قد لخصت فعلاً حياتي الرتيبة والعادية جداً، والخالية من أي شيء ملفت. كيف سيتذكرني الآخرون؟ وماذا سأفعل خلال المتبقي من حياتي حقاً؟ هل سأشرب الشاي مع الأصدقاء أو أتسكع قرب النهر ؟ تساءلت مع نفسي لبرهة، واكتشفت انني لن اترك خلفي شيئاً عظيماً ولا تافهاً، سأختفي مع موتي فجأة. في هذه الاثناء توقفت سيارة الموظفين أمام موقف الحافلات. وأستطاع زملائي الصامتون مشاهدة ما كنت افعله في تلك اللحظات. طرحت العرّافة الغجرية على ظهرها، ومع المفاجأة التي عقدت لسانها ضاجعتها على الرصيف، خلال الوقت الوجيز المتبقى من حياتي.
4 ـ عزلة الملائكة. كانت كاملة جداً، حتى أني شككت في كونها تتبرز أو تطلق ريحاً داخل الحمام، ولهذا كان من الصعب العيش معها. كانت تحتاج الى دفعة صغيرة من كف ميتافيزيقية لكي تغدو ملاكاً صرفاً، وكان من المقنع الادعاء بأنها لا تأكل أو تشرب شيئاً. حتى تنفسها هو جهد يحسب للهواء وليس لرئتيها. لذلك تركتها، وتزوجت من فتاة كمبودية قصيرة غير متعلمة صادفتها في الطريق، وعشنا سوية في أحدى مزارع القمح الاسترالية مدة ثلاثين عاماً، مع خمسة من الأطفال، ومع أمل مشكوك فيه بتحسين حياتنا، أو العودة الى الوراء للعيش في بلداننا الأصلية أو اللقاء بصور من الحلم والذاكرة. وكان ذلك يمثل أنموذج الحياة العادية السائدة، الأمر الذي منعني من الشعور بالعزلة مع ملائكة يمكن أن تختفي في أي لحظة.
5 ـ فوضى مريحة. حين أكون في الباب الشرقي لا أعرف نفسي جيداً. أسير بمحفظة ورق جلدية، وأحلم مثل رجل أكبر مني بثلاثين عاماً، احلم أنني اصغر بثلاثين عاماً، فأكون سعيداً بتحقق هذا الحلم في هذه اللحظة، وأنا أسير في هذه البغداد التي لا اعرفها، والتي امنع نفسي من رؤيتها وأنا واقف، حتى لا يتحرك العالم من حولي ويتركني، وأظل أسير بمحفظتي الجلدية، بين الباعة ورجال المرور، ولا أحفظ وجوههم ولا ما يقولون، ولا أصل ابداً الى النقطة التي انطلقت منها ابداً. أقف قبل العبور الى سوق الهرج، وافشل في تذكر صورتي وأنا طفل. أين وقفت أول مرة، ومتى فكرت بأني سأرى هذا السوق مرة أخرى، وهل أنا حلم يتحقق في هذه اللحظة، أم أنا رجل على شفا الحلم بسوق أخر أسفل باب حجرية تعود الى العصر العباسي الوسيط، عند الجهة الشرقية من العاصمة. في بغداد أخرى لا تدخل الحكايات ولا تخرج منها، ولم تكن يوماً قفصاً مريحاً بأبواب مفتوحة لعصفور لا يرغب بالطيران.
6 ـ مواجهة النظام. ألقى بكتب تعلم اللغة الاسبانية في نهر دجلة، اثناء انحدار الشمس الى المغيب، واتجه مع اصدقائه السائرين على الجسر الى "خضر الياس". امام النهر هناك وبعد اسوداد الماء بالليل كان يدخن ويطلق الدخان في الهواء المتحرك بهبات فجائية رعناء. ألقى بعقب السيجارة الى النهر، واكتشف حشداً من اعقاب السجائر تحت قدميه، ترتد ثم تتقدم مع المويجات التي تحملها طافية مثل متدربين على السباحة. تأمل أصدقاءه الذين كانوا يثرثرون حول النتائج النهائية للامتحانات، وكانوا يشعرون نوعاً ما بانه يثرثر معهم في الموضوع نفسه، إلا انه تكلم فجأة شاتماً التدخين. ألتفت اليه الجميع، في اللحظة التي ضغط فيها بيده على علبة الـ"الگولد كوست" ثم رمى بها الى النهر ايضاً. قال لهم وهو يبحث بنظره عن موضع سقوط علبة السجائر، انه لا فائدة من تعلم الاسبانية، لن يتحدث بها ابداً. لا احد في سوق الشورجة امام مخزن الاقمشة العائد لوالده يتحدث الاسبانية. لا توجد اقمشة اسبانية في الشورجة. لن يفتتح والده فرعاً لمخزنهم التجاري في اسبانيا. لن تكون اسبانيا في الشورجة ولن تكون الشورجة في اسبانيا، ولن يكون هو في أيٍ من المكانين ابداً. قال ذلك، ثم نزل بحذر على الضفة المرصوفة بالقرميد بحثاً عن علبة سجائره، لأنه شعر برغبة شديدة في التدخين. غطس في الماء، وعاود اصدقاؤه الحديث عن الامتحانات.
7 ـ الآخرون هم الجنة. كان يشارك في أي حديث يفتتح، في المقهى، او البيت، او عند طرف الزقاق، او في السيارة التي تقله من عمله الى البيت او بالعكس. كان يشعر بمسؤولية عرض وجهة نظره التي يراها صادقة نوعاً ما على الآخرين، وحتى لو كان هناك من يتحدث بوجهة نظر مشابهة لما يعتقد به، فأنه يهتم بإضفاء بعض التفاصيل، ويصادر ـ من دون أن يدري ـ المتحدث الاصلي. كان يحرص تبعاً لذلك أن يكون آخر المتحدثين، لأنه فهم منذ زمن بعيد، ان اخر المتحدثين هو من يحسم النقاش لصالحه. سيتعب الآخرون، وهذا ما يمنحه فرصة الاجهاز عليهم، دون ان يستطيعوا فعل شيء. في بعض الأحيان ـ أيام الجمع وحضر التجوال ـ يسبب الصداع لزوجته، ولمن في البيت، لأنه يريد مستمعين، وينهي رصيده في الهاتف آخر الليل بمكالمات لا مبرر لها، لهذا الصديق او ذاك، من اجل تزويدهم بآخر الانباء. او للتعليق على حدث تم الاعلان عنه في التلفزيون. وفي العمل، يعرف الزملاء أنه ماكنة لكلام لا ينتهي، لهذا تعود الجميع ـ من اجل العودة للعمل ـ ان يوافقوه على وجهات نظره، مهما بلغت من الغرابة والتطرف، وهذا ما كان يشعره بالرضا. إن احداً غير قادر على دحض نظرياته وآرائه. هكذا كان يتصور. ذات ليلة استيقظ محموماً، بسبب كابوس ثقيل، كان يجلس في قنينة زجاجية ويرتد اليه صوته حين يتكلم بصليل حاد. ثم بدا وكأنه يتجول في شوارع خالية، وبيت خال. كانت السيارات واقفة ومهجورة. لم يكن في المدينة من حياة سواه. قطة تقطع بتمهل الشوارع العريضة دون خشية او وجل، أشجار تتمايل في الهواء وليس من شيء أكثر. كان يريد الحديث مع شخص، والنقاش مع احدهم حول هذه الحالة الغريبة. هل هاجر السكان كلهم؟ من سأخبره بهذا الحدث الهام والغريب يا ترى؟ فكر بذلك داخل النوم متألماً، ولكنه استيقظ أخيراً، بلسان متخشب من العطش، عطش للماء.. والثرثرة.
8 ـ من يصدق ذاته يا ترى؟! اليوم هو يدعي أنه شخص آخر. لم ينزل من الحافلة عند ساحة عبد المحسن السعدون. ولم يدخن في الحافلة اصلاً. لم يخرج يده بالسيجارة المشتعلة من النافذة حتى لا يزعج بالدخان الجالسين بجواره. ولم يدس رأسه المتمايل في كتاب او جريدة. ظل صامتاً مثل عجوز أحيل على التقاعد صباح هذا اليوم، وهو عائد الى بيته مثل تائه. مرت السيارات وعربات الخيل وباعة السمك الحي في العربات الخشبية، مر كل شيء تقريباً، كل ما كان يراه دائماً ولا يثير اهتمامه، مر من أمام الصيدلية، ولم يلتفت ويدقق في العمق بحثاً عن تلك الصيدلانية المسيحية التي تشبه نيكول كيدمان. لم يفعل أي شيء من هذا، فلو فعل لما غدا شخصاً آخر. لكن اليوم مر بشكل سيء، فالزحامات قطعت عليه استغراقه الرومانتيكي، وشتت الزعيق المتواصل لسائقي السيارات المحشورة كل أفكاره. لم يتذكر إلا بعد منتصف النهار انه شخص آخر، وحينها عاوده ذلك الاسترخاء الرومانتيكي، ولم يدقق في زيف مشاعره من صدقها. دخل الى مطعم "ركن العسل" عائداً من الشوارع الخلفية الى نقطة البدء، فها هو ذا تمثال عبد المحسن السعدون المزيف يلوح بكتلته المعتمة تحت الشمس وكأنه رجل مرور إلهي يريد تنظيم حركة السيارات بعبث لا طائل من ورائه. دخل الى المطعم وطلب غداءً استثنائياً. تجاهل الحمية التي التزمها مع نفسه حماية للقلب من الكولسترول، وطلب علبة مشروبات غازية مثلجة. أكل طعام الآخرين كما تخيل ذلك، ودفع الحساب الباهظ من جيبه، ولكن من دون أي شعور بالخسارة، وكأنه يمثل دوراً بنقود مزيفة أو مستلفة من المخرج. حين خرج من باب المطعم كانت في ذهنه خطة محددة، لن يسلك هذا الشارع اليوم، ولا ذاك الشارع. ليس كل الآخرين يسلكون هذا الشارع وذاك الشارع، سيمر بجوار وزارة التعليم العالي الخربة، وينطلق من هناك الى الگراج الموحد في الباب الشرقي. مسافة طويلة تمر على شوارع كئيبة ومتربة، ولكنه طريق للآخرين ايضاً. ما أن تجاوز شارع الأطباء حتى صادفه وجه مألوف، حاول ان يلتزم خطته المعتوهة ويتجاهل هذا الوجه المألوف دون ان يشغل نفسه كثيراً بمحاولة التذكر. اين شاهده، ومن يكون؟ امسك به هذا الغريب من كتفيه فارداً وجهه بابتهاج كبير. تعانق معه وهو يصهل ضاحكاً، وثرثر معه بسرعة ذكرته بكل المواقف التي كانت له مع هذا الغريب. لقد كانا معاً في وظيفة واحدة أو خدمة عسكرية او سجن او منفى او أي شيء قبل عقد من الزمان. ولكنه الآن شخص آخر، ولا موجب للإمعان باستعادة ذاته التي تركها صباح اليوم على السرير بجوار الزوجة النائمة. حاول التملص منه، ولكن هذا الغريب الذي يعرفه ظل يذكره بمواقف مرا بها سوية، ثم حاول جره الى مطعم مجاور، ولكنه اعتذر بأنه تناول غداءه منذ قليل. ـ طيب.. شاي؟ استكان شاي؟ قال الغريب وكأنه أحس بضعف مشاعر الحفاوة التي توقع ان يجدها من صديق قديم. وقفا عند عربة شاي، وأخذا شاياً ساخناً، وقبل ان يرشفا من الشاي قال هذا الغريب، وهو يتملى وجه رفيقه بنظرات توحي بمن يتذكر اشياءً قبل ان ينطقها: ـ كنت دائماً تقول بأنك شخص آخر. هل ما زلت شخصاً آخر؟ كم شخصاً أصبحت الآن. وقبل أن يرد عليه بشيء أكمل هذا الغريب: ـ أنت الآن شعب بكامله. أليس كذلك؟ ضحك الغريب وظل يرشف من شايه الساخن ويضحك، حتى من دون مشاركة من رفيقه القديم. ثم وكأن هذا اللقاء ارتبط بشكل محدد بهاذين الشايين، فما ان أنهى استكانه ووضعه على اللوح المعدني لعربة الشاي، قال للصديق القديم إنه يريد اللحاق بأمر ما، واعتذر منه، وشكره على الشاي، ولم يعده باللقاء مرة ثانية، ولم يخبره بروتينه اليومي وأين يتواجد في العادة، وحين ظل رفيقه القديم ساكتاً، شعر بأن دوره قد حان لرد الكرة الساخرة التي مررها باتجاهه قبل شرب الشاي. ضغط على يده بقوة مودعاً ثم فسّر موقفه قائلاً: ـ أنا شخص آخر كما قلت لك سابقاً. لذا لن اعرف ما الذي سيجري لي يوم غد او بعد ساعة ابداً، أنا أصلاً لا أعرفك ولم اشرب معك الشاي قبل دقيقة. ضحك بقوة. وابتسم الغريب فاتحاً فاه مثل أبله تائه. وعرف مع ضحكته القوية، بأنها ليست له، وانها دليل على تحوله خلال هذا اليوم الى شخص آخر فعلاً، فمن يصدق بأنه يضحك بهذه القوة.
9 ـ التفكير مثل نوري السعيد. كنت أفكر بالخيل الملكية، والإسطبلات الواسعة التي تمرح بجوارها نساء القصر أثناء فترة ما بعد الظهر، حين تنام العائلة المالكة قيلولتها المعتادة، فتذهب الخادمات الى الهواء الطلق، وفي الخلف، على هامش الصورة، أو في البعيد، حيث تغدو صور الأشخاص مجرد أشباح ظلية، أو لطخات لون من دون تفاصيل، كان الفقراء من مؤيدي الثورة، يروحون ويغدون حاملين الماء من النهر بأواني مخسفة، أو يجلبون الوقود لكوانينهم من العشب البري اليابس والشائخ، والذي يغدو هشاً وكثيفاً، ويتكور فوق رؤوس النسوة الجنوبيات الهاربات من الإقطاع الى العاصمة. أفكر بالثورة التي قامت في الخلف، خلف الصورة المشرقة والزاهية لصيف عراقي داخل القصر الملكي، حيث حطم الثوار في غيبة وعي كبرى تمثال الملك، وسحلوه في الشارع، وتحدث البعض منهم آخر الليل عن الدماء التي سالت من التمثال وصبغت الشوارع، وظلت لزجة لثلاثة أيام، وما بين مصدق ومكذب غدا الخوف مثل شرطة مسرحين من الخدمة دون رواتب او مهلة بالعودة، فر الخوف الحكومي والرسمي وغدا خوفاً أليفاً يسكن في البيوت جميعاً، تلك المبنية من الطابوق الجمهوري في العهد الملكي، أو المبنية من الخوص والصفيح وأقمشة الچوادر العسكرية. وشربت نساء القصر الملكي ذلك النهار آخر استكان شاي في التاريخ. سقطت الأواني على الأرضية المرصوفة بالطابوق الفرشي ولم تتحطم، وظلت الظهيرة ملتصقة بالأجواء كأنها لن تزول حتى مع قيام ثورة أخرى.
10 ـ قبل التلاشي. في أحيانٍ كثيرة، وحين يسوء وضعي تماماً، أجد شيئاً ما على الأرض، حتى بدأت أؤمن أن عناية غيبية تتدخل في اللحظة ما قبل التلاشي لإنقاذي. وجدت خاتماً ذهبياً، وهناك كلمة مكتوبة عليه " سيرين ". وجدته على الرصيف. لقد أفلت من إصبع إحداهن. حركة فجائية من اليد جعلت الخاتم وسيرين يفرّان. اليد نحلت وضعفت بسبب القلق والغيرة. الخاتم يرتخي. الخطيب يصفع سيرين. بينما ألف الخاتم بالمنديل؟، واضعه في جيبي.
أربعة آلاف دينار أمام النادي التركماني. إنه مساء ما قبل الحرب بشهرين. نقود نظيفة، اقلّبها ثم أدسها في جيبي بسرعة. نقود نظيفة، وذات أرقام متسلسلة، نقود فاخرة، شخص فاخر، يسهر في النادي التركماني، شخص لديه نقود كثيرة، يستيقظ في العاشرة صباحاً، وينام متأخراً. شخص لا يعمل في الليل ولا احد يزعجه صباحاً. ولكن ما الذي سينقذني الآن، وأنا احني بصري خلال هذا الليل ولا اعثر على شيء. أدفع هذا الجسد مثل عربة مشتريات فارغة، وأفكر، هناك على الرمل الأبيض الهش لما وراء هذا العالم، بإمكاني أن اشعر بدفق الدماء في أقدامي. أسير على الساحل المكسي برمال بيضاء ذائبة تحت حرارة الخطوات، ولا انظر الى الخلف، فهناك من سينقذني قبل التلاشي دائماً، دون أن يطالبني بالإيمان به. أعبر بجوار "مدينة الطب" في الباب المعظم، وارتقي بخطواتي على الجسر باتجاه النهر، لقد ساءت الأمور حقاً هذه المرة، سأخلص هذا الجسد من إساءة الاستخدام، سأصل الى النهاية بتصميم كامل، وعيني ترقب ذلك الذي سيلقي أمامي شيئاً ثميناً قبل التلاشي (عن موقع كيكا)
|