المقاله تحت باب قصة قصيرة في
02/12/2008 06:00 AM GMT
أخبرت ياسمين صديقتها شهرزاد بأن خطيبها رياض العبيدي، الذي قدم من العراق الى لندن مع وفد رسمي، سيلقي محاضرة في منتدى «وادي الرافدين»، عنوانها «حذلقات الفلاسفة». وحضتها على حضورها في صحبتها، لأنها تحب ان تعرّفها بخطيبها. وأكدت لها بأنها قررت، هي وأمها، دعوتها مع رياض إلى عشاء في بيتهم، بعد المحاضرة. وألحت عليها بالحضور، لأنها تريدها ان تكون في ناصرها لإقناع رياض بترك المستنقع العراقي، ليتسنى لهما عقد قرانهما خارج العراق. كان رياض العبيدي في منتصف الأربعين، ناحل الجسم بعض الشيء، وأميل الى الطول، وتلوح عليه مخايل ذكاء، وذا عينين زرقاوين شأن العديد من العبيديين. وكان يضع نظارات، وحليق الشاربين، وذا ابتسامة حيية لا تفارقه. وقد قدمه سكرتير منتدى «وادي الرافدين» بأنه مستشار في وزارة الثقافة العراقية، وهو متخصص في الفلسفة من جامعة لوفان البلجيكية، ويُلم بأربع لغات، الى جانب العربية، هي الإنكليزية، والفرنسية والإيطالية والفلمنكية. عندما أُعطي رياض المايكروفون، حيا الحضور بكلمتي «مساء الخير»، ثم قال فوراً: أرجو ان لا يخيب ظنكم في الفلسفة، كما يومئ الى ذلك عنوان المحاضرة. لكنني مع ذلك لن أعطيكم انطباعاً رائعاً عنها في كل الأحوال. الفلسفة مؤسسة فكرية جليلة الشأن، لكنها لا تخلو من تهويمات فارغة ما أنزل الله بها من سلطان. وهي أفلحت في إعطاء انطباع عنها بأنها فن الغموض والوعورة، هذا الغموض شيء مفتعل، يصطنعه الفلاسفة لكي يغطوا على جهلهم بالأفكار التي يطرحونها. وهذا يسري على أكبر الفلاسفة. ضحك المستمعون، وأرهفت الأسماع الى المحاضر. قال، بعد أن مسح نظاراته بقماشة تنظيف العدسات: كانْتْ؟ الفيلسوف الكبير، الذي ربما كان أكبر فيلسوف بعد أفلاطون وأرسطو، إن لم يكن نداً لهما. اسمعوا ما قاله عن كتابه الشهير «نقد العقل المجرد» مترجمه الى اللغة الإنكليزية: «حاولت قراءته، بيد أنني وجدته عصياً على الفهم تماماً، لكأنه كُتب باللغة السنسكريتية». ويقول شوبنهاور، وهو من كبار الفلاسفة الألمان، كما تعلمون: «إن محاكاة كانْتْ أصبحت بدعة. كان فختة أول من سار على الدرب، لكنه أعاد النظر في موقفه في ما بعد. وسار شيلنغ على هذا النهج. ثم فاقهما في ذلك جيش من الكتّاب ممن يفتقرون الى الذكاء والصدقية». ثم يقول شوبنهاور: «لكن أكثر هذه الكتابات وقاحة في اجتراح الهذيان، في لفْق نسيج من الكلمات التافهة والجنونية، مما لا يُسمع إلا في بيمارستانات المجانين، ظهر أخيراً في كتابات هيغل». وضجت القاعة بالضحك. لكن رياض العبيدي استدرك قائلاً: «لا شك في ان هذا الكلام لا يخلو من حسد مهنة، لكنه لا يخلو من صحة ايضاً». ثم أنهى العبيدي محاضرته قائلاً: «والآن، إذا سألتموني من هو أحب الفلاسفة إلي، لقلت إيمانويل كانْتْ، على رغم انه كان أول مشرّع للغموض في الفلسفة!» وضجت القاعة بالتصفيق والضحك. وقالت شهرزاد لصديقتها ياسمين: «آه، يا إلهي، ما أظرفه!». بعد انتهاء المحاضرة، تقدمت ياسمين من المنصة، فاستقبلها رياض بالعناق. ثم قادته من يده الى حيث تجلس شهرزاد، وعرّفته بها: «رياض، أقدم لك صديقتي العزيزة، الدكتور (في الفيزياء) شهرزاد المقدادي». فمد إليها يده، وقال: «فرصة سعيدة، دكتورة. هل أنت ابنة الدكتور هشام المقدادي؟». «نعم». «أرجو أن تنقلي إليه إعجابي الجم بكلمته الجميلة عن الصفر». «سأنقل إليه ذلك». في الشقة التي تقيم فيها ياسمين مع أمها وداد، قالت وداد لشهرزاد، بعد العناق: «أعددت لأجلك، يا عزيزتي شهرزاد، وجبة عراقية شعبية. هل يعجبك التشريب، حبيبتي؟». تساءلت شهرزاد: «التشريب؟ ما هو التشريب؟». «آه، أنا أنسى انك وُلدت في الغرب، وأمك لبنانية». فقالت شهرزاد: «للأسف، خالة، لم أسمع بالتشريب قبل الآن». «إنها وجبة سومرية، كما تعتقد ياسمين، تُعد من لحم الخراف بعظمه، والبصل غير المقطّع، والحمص، واللايم المجفف، وعصير الطماطم، أو من دونه. ويمكن إضافة الباذنجان ايضاً. ويُسكب ذلك كله بمرقه على أقراص الخبز العراقي المقطّعة، ويؤكل ثريداً». قالت شهرزاد: «يبدو لي أنه وجبة شهية». «انا واثقة انها ستعجبك». ثم قالت: «إنها فرصة سعيدة ان تشرفينا بحضورك الى بيتنا للمرة الأولى، ونحمد الصدفة، أو المناسبة، التي جاءت برياض الى لندن، ليتسنى لنا ان نعرّفك بخطيب ياسمين. هل أعجبتك المحاضرة»؟ «جداً». «هذا فخر لنا ولرياض». ودار الحديث عن الفلسفة، التي أكدت شهرزاد انها كانت على تماس بها منذ صغرها، لتخصص صديقة أخيها بها. وذكرت أن أول فيلسوف تعرفت إليه منذ تلك السنوات هو بيركلي، لأنه كان موضع اهتمام ابيها وأخيها المختصين في الرياضيات، لأن بيركلي كان يعتبر الرياضيين كفرة! فضحك مستمعوها. وازداد رياض إعجاباً بشهرزاد وارتياحاً إليها. واستطرد معها في الحديث عن الفلسفة والفيزياء، بحكم ارتباطهما ببعضها ارتباطاً وثيقاً (ميكانيك الكم، مثلاً، ومبدأ اللاحتمية). بعد هذا، أخذت وداد دفة الحديث، وقالت: «والآن، أرى ان ننتقل الى موضوع رياض. سأشكو همي الآن، وهمّ ابنتي ياسمين، الى رياض في حضور صديقتها المقربة شهرزاد». ونظرت في عيني رياض «أنت لا تسمع بكاء ياسمين إلاّ عندما تلتقيان. أما انا فأسمع نحيبها كل ليلة. نعم، كل ليلة. فياسمين تعتبر نفسها أرملة حتى قبل ان يتم قرانها برياض، لأن رياض محكوم عليه بالموت مع سبق الإصرار، من ألف جهة. هناك خطة لتصفية الكوادر التي تأتي بعد الوزير». الوزير، في أي وزارة، له حراسة قوية، ويسكن في المنطقة الخضراء. لذلك يبقى في مأمن من الخطر. أما الآخرون فلا يتمتعون بمثل هذه الحراسة المنيعة. لذلك يتهاوون الواحد بعد الآخر». ثم سألت رياض: «هل هذا صحيح، أم لا»؟ «صحيح». «طيب»، واصلت وداد كلامها «وأنا سأكون صريحة مع رياض، فليس هناك ما يدعوني الى الصمت... في ضوء هذا يمكن اعتبار رياض ضيفاً عابراً عندنا، وعند أمه، وأحبائه، وفي هذه الدنيا. إنه بين المرصودين، وينتظر دوره فقط، وهو لا يجهل ذلك، كما اعترف هو بنفسه. ولم يبق أحد لم يبصّره بهذه الأخطار. كنا، ولا نزال، نقول له: رياض، أترك العراق. لم يعد العمل فيه لأمثالك آمناً. اترك العراق، يا حبيبي، من أجل عيون أمك، وإخوتك، وخطيبتك، وأحبائك، ولا تجعلهم يحزنون عليك يوماً ما، ويبكونك. فهل ستصغي الآن ايضاً»؟ ثم وجهت كلامها الى شهرزاد: «عفواً، حبيبتي شهرزاد، أرجو أن لا أكون كدرتك بهذا الكلام». قالت شهرزاد بارتباك: «لا، خالة، ابداً، أنا لم أتكدر من هذا الكلام، الذي أقدر خطورته تماماً. إنه يبدو لي شيئاً يقف له شعر الرأس. لكنني لا أريد ان أصمّ أدني عن شيء يخص صديقتي العزيزة ياسمين. لذا، أرجو ان تأخذوا حريتكم في الكلام في حضوري». «شكراً، حبيبتي». قالت وداد «وأنا وياسمين نأمل بأن يصغي رياض الى صوتك، الذي لا نشكك في انه سيكون في ناصرنا... والآن، ما قولك، يا حبيبي رياض»؟ ابتسم رياض بارتباك، ونزع نظاراتيه، وأخذ ينظف عدستيها بقطعة قماش أخرجها من غلاف النظارات، وقال: «هذا موضوع معقد... معقد جداً بالنسبة إلي، مع انه يبدو واضحاً وضوح الشمس بالنسبة إليكم جميعاً... أنا أحب العراق حباً يصعب تصوره. أنا أعشق ناسه الأبرياء، وأبكي لهم. تسبيني النساء العراقيات الشعبيات بعباءاتهن المذهلة. النساء العراقيات الشعبيات يمزقن نياط قلبي بتحملهن كل هذه المآسي، وببراءتهن الجميلة. إنهن لوحات أجمل من لوحات آنغر، ورينوار، وفان غوخ. انني أعبد بساطتهن، وبراءتهن المذهلة. عندما أشق طريقي في سوق شعبي، أشعر أنني أسير بين أحب الناس إليّ. هذا جنون، ربما. أنا كنت محروماً من هذا المشهد في أيام النظام السابق. والآن صار في وسعي أن أعيش معه... انعدام الأمن؟ انفجارات؟ اغتيالات؟ عمليات اختطاف؟ هذا كله صحيح. لكنه لم يحُل بيني وبين الوجه البريء للعراق...». قاطعته وداد، قائلة: «لكن البلد، يا حبيبي رياض، في دمار مستمر، فماذا ترجو من عملك وسط هذا الحريق الشامل»؟ ضحك رياض، وقال: «أنا لا أؤمن بالكليات. أنا أؤمن بالجزئيات. وربما يجعلني هذا الاعتقاد ألتقي مع مفكري ما بعد الحداثة». فكرت شهرزاد بكلام رياض بذهول: هذا الهيام الغريب بعباءات النساء الشعبيات، التي يفضلها على أجمل اللوحات في العالم، شيء ظريف حقاً، لكن كيف يتحمل الفوضى، والأقذار، والغبار الخانق، والأجواء الملوثة، وانقطاع الكهرباء، والحواجز الإسمنتية المشوهة لمنظر العاصمة، وفلتان الأمن، من اجل عباءات النساء الشعبيات؟ وماذا سيتبقى لياسمين المسكينة، غير هيامها بعيونه الجميلة؟ وما هو موقعها عنده؟ هل يفكر في همومها؟ هل يحبها؟ لكن لماذا وعدها بالزواج إذا لم يكن يحبها؟ والمهم، ما هي أهمية هذه الجزئيات امام هذا الخراب؟ وكأن وداد قرأت ما دار في دخيلة شهرزاد، فسألته: «ما هذه الجزئيات يا حبيبي رياض»؟ قال: «انا أكون سعيداً عندما أُقنع وكيل وزارة زميل بأن إقامة الشعائر الدينية، كالندب على الإمام الحسين، في مقر الوزارة غير صحيح». أطلقت وداد زفرة، وقالت: «أوه، رياض، أنت تُضحك الثكلى. البلد أعيد الى الوراء مئات السنين، طائفياً، وتخلفاً، ودماراً، وأنت تحاول إقناع موظف جاء به نظام المحاصصة الكريه، بأن من غير الصحيح إقامة الشعائر الدينية في مقر الوزارة». قال: «هل أتركه يقيم الشعائر في الوزارة»؟ «نعم، أتركه، وعد الى جامعة لوفان وإلينا، لأنك لا تستطيع، انت وبضعة مخلصين من أمثالك، الوقوف في وجه هذا الطوفان الكاسح». قال: «نحن نختلف، يا عزيزتي وداد. أنا أعتقد ان العمل خطوة خطوة لا بد من أن تظهر ثماره في آخر المطاف». «وما قول عزيزتنا شهرزاد في هذا»؟ فقالت شهرزاد: «أنا مع رأيك، خالة وداد، مئة في المئة». إلا أن رياض رد قائلاً: «أنا آسف. أنا أشعر أنني انتمي الى العراق بكل وحله، وخرابه، وآلامه، أكثر من انتمائي الى جمهور المحاضرة التي ألقيت فيها كلمة بطرة. أنا أريد ان أشارك ابناء وطني في القضاء على هذا الطاعون الذي حل به. ينبغي ان لا نترفع على أبناء وطننا ونتركهم يصارعون قدرهم وحدهم». «وأنا، هل تريد ان تسحبني معك الى هذا الخراب»؟ قالت ذلك ياسمين، وبكت. «نعم، ياسمين، إذا كنت تحبينني». وبكت من دون ان تجيبه. بعد مضي أسبوع على هذا اللقاء، تلقت شهرزاد نداء تلفونياً من صديقتها ياسمين، تخبرها وهي تبكي وتشرق بكلامها، بأن رياض قُتل بمسدس كاتم للصوت من ملثمين أوقفوا السيارة التي كانت تقله من الوزارة التي يعمل فيها، وهو في طريق عودته الى البيت الذي كانت أمه تنتظره فيه على الغداء. فتساءلت شهرزاد: «ترى، هل كان رياض ينوي الانتحار»؟ * كتبت هذه القصة بوحي من النهاية الفاجعة لحياة المثقف العراقي كامل شياع.
|