موضع التعجب |
المقاله تحت باب مقالات و حوارات في كتابه الجديد ''أوراق الخريف ـ دراسات وترجمات نقدية'' يعالج الدكتور عبدالواحد لؤلؤة موضوعات شتى يغلب عليها طابع المقارنة والمثاقفة عبر الترجمة خاصة، وبأسلوبه الذي يقرن بين الدقة الأكاديمية والملاحظة الثقافية ممتزجتين بالنوادر والأمثلة المعززة لأفكاره وهو الشاهد على عصر الترجمة الذهبي الذي دشنه أستاذه وصديقه الراحل جبرا إبراهيم جبرا، وقدم فيه لؤلؤة للمكتبة العربية مؤلفات وترجمات فريدة لشكسبير وإليوت وآردن وطاغور، ومتون نقدية لافتة فضلا عما ترجمه إلى الإنجليزية أيضا. لكنه هنا يعيدنا إلى أسئلة الترجمة كمعرفة وعمل المترجم كثقافة، وبهذا تنتقل جدوى الترجمة وضرورتها، وما يحف بها من محذورات وصعوبات، إلى أفق معرفي ليس محدودا بالترجمة كعمل لساني أو نقل من لسان لآخر. يرى لؤلؤة أن ثمة شروطا ثلاثة لابد من توافرها في المترجم، أو الناقل لتكون النصوص المترجمة مفهومة ومستساغة، أولها المعرفة الدقيقة بلغته وباللغة الأجنبية، وثانيها المعرفة بثقافة اللغتين وتاريخهما، وآخرها الذي يسند إليه لؤلؤة أهمية خاصة هو توافر معرفة (طيبة) ببعض اللغات التي تتصل باللغتين المترجَم منها والمترجَم إليها، ممثّلا لذلك باللغات الأوروبية التي تحدّرت منها اللغة الإنجليزية أو تأثرت بها، كاللاتينية والإغريقية والفرنسية والإيطالية، مبررا هذا المطلب الذي يبدو عسيرا في ظروف عصرنا وفضاء ثقافتنا بأن الإنجليزية (كانت تتزين بعبارات أو مصطلحات) من تلك اللغات عبر تاريخها الطويل واستخدامها المتعدد الجوانب. وإذا كانت تلك الشروط خلاصة معايشة الدكتور لؤلؤة للعمل الترجمي وممارسته له وتدريسه ونقده فإن ملاحظاته الذرّية ذات دلالة وهو يبوبها علميا وميدانيا، فيقف عند ترجمة الأعلام مثلا فلا يرى ضرورة لترجمتها حرفيا، ويقترح ترجمة الأماكن أو المعالم بمسمياتها الأصلية دون تعريبها، ويورد طرائف عن أخطاء الترجمة الحرفية التي يستند فيها المترجم إلى القاموس دون معرفة بتداولية الكلمات أو الأمثال في ثقافة اللغة التي يترجم منها. يهمني هنا ما يخص ترجمة الشعر إلى لغتنا، فهي لا تزال تلك الضرورة الممتزجة بحذر الخيانة، حيث يحصل غاليا ما رصده الجاحظ قبل قرون ملامسا الشعرية في أدق مكامنها بما اسماه (موضع التعجب) الذي يسقط بالنقل، حين قال في ''الحيوان'': ''الشعر لا يُستطاع أن يُترجم ولا يجوز عليه النقل، ومتى حُوِّل تقطّعَ نظمه وبطلَ وزنه، وذهبَ حُسنه، وسقط موضع التعجب فيه''. وربما كان هذا شعور النقلة العرب الأوائل، فأرادوا ترجمة الشعر بالشعر، فجاء النص شيئا آخر بعد أن تعرض لإكراهات النظم الفنية المحاصرة بالضرورات، فضاع تماما ذلك الموضع الذي رصده الجاحظ في الشعر. بصبر وذكاء يتعقب لؤلؤة ترجمات عكسية ـ إلى الإنجليزية ـ ويجد فيها مفارقات يدعو بعضها إلى السخرية ولكن يعيد التفكير في مستقبل الترجمة وآفاقها وتلقيها.
|