المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
19/11/2008 06:00 AM GMT
على كل ما حصل في العراق من قصص عجائبية، فقد عجز الكاتبون عن أن يهتدوا الى بينّة من أمر حكاياته،فهي أشبه بسرد عتيق عن عصور تتجول غيلانها ووحوشها بين السطور، وتقفز صرخات الفزع فوق حروفها،ويبحر راويها في عالم سوريالي يسّطره الواقع كل يوم. كتاب العراق القصصي لم يكتب بعد، فهو يحتاج فنا يعبر حواجز الأزمنة ،ويطوي لحظات الذهول ويقتنص اللباب منها.قصاصون جدد ومن مختلف الأجيال يحاولون الاقتراب من الذي عاشوه وخبروه من ماضي الأيام القريبة وحاضرها، ولعل فنونهم تظهر غرائب المبادلة بين الحادثات الحقيقية وما تنكتب به من صيغ، وما تتمتم به من أقوال. ومن بين الكتّاب الذين يظهر في كتاباتهم هذا الجانب، لؤي حمزة عباس الروائي والناقد وكاتب القصة القصيرة.
وفي مجموعته الاخيرة (إغماض العينين) دار أزمنة ـ عمان،يحاول تصّور الموت العراقي على نحو ناعم ومخملي ورقيق. موت هو نفسه ينسّل مثل أفعى،لينفلت من كل تعيين.فالراوي «يسجل» الواقع من حيث مكوثه في لحظته الراهنة،بين أسرار المخاوف وألغاز الخراب الذي يلف البصرة مدينة لؤي، وموطن قصصه. لايمكننا ونحن نقرأ قصص وروايات لؤي حمزة عباس سوى إسترجاع تلك الاصداء البعيدة لنص محمد خضير، على ما يبدو عليه من إمتناع عن التقليد. العوالم التي تقف بين الغموض والإفصاح، الشخصيات الفريدة، واللمسات التي تزيد غربتها عن محيطها،إبهام معرفتها بنفسها. في المجموعة الجديدة (إغماض العينين) تبدو المرايا التي ينظر فيها السارد الى جسده في القصة الأولى وكأنها تشكل صدمة الاكتشافات لرحلة الذات وشخصياتها العجائبية،فهو يرتاد فنادق الدرجة الاولى في القاهرة، ليسير في غرفها ويجلس عاريا منقبا في زوايا جسده ، عما يجهله. وفي شارع بعيد عن مكان القصص التي يرويها، وفي مدينة مثل القاهرة، تعج بحكايا الذاكرة القصصية، يبدو الراوي وكأنه يكتب نصا واحدا تتداخل حبكاته وإزمنتها. فالمجهول الذي يبقي الحوادث خارج التوقع، لا يتعين بمعرفة مبتسرة، فهناك حيث يعيش الطفل حادثة أولى مع خالته التي يعشقها، يرى جمال جسدها ممعنا في الحب أو الخطيئة، دون أن يعرف سرها الى النهاية: هل هو الموت أو المباغتة التي أخفتها في مركب مع مجموعة من العبيد؟. من هنا تطل البصرة (( عالم من مدن وهمية وصافرات وسفن، سفن كثيرة تجيء، ووجوه غريبة بسحن دبغ جلودها هواء البحر ومنحها ماؤه مسحة طينية سريعا ماتزول بعد استقرار السفن على الضفة لتعود الى تلوّنها البشري. )). يرحل السارد حول حكايات الأماكن، فالرحلة هي عماد المجموعة التي تبدو كأنها رواية ضل راويها طريقه اليها.انه يحكي عن تلك الايام المعلومة التي تقع بين حروب واحتلال وقمع،ولكن الزمن في تلك الحكايات مرصود في لحظة واحدة من وجوده. فليس هنالك من أفعال كثيرة في مجموعة كبيرة من تلك القصص، سوى فعل واحد مرئي، يمهد له ببضعة حركات: إطلاقة في الرأس، جثة طافية على وجه غدير، قاعة مشرحة، رجل يميل برأسه على شجرة الحديقة الخلفية. واخر يشحب لونه ويكز على اسنانه، قبل ان يتلقى جبينه الرصاص.رجلان يركعان الاسير على ركبتيه وهو معصوب العينين، ثم يطلقان من خلفه. هناك اماكن تصحب سفر الرواي الى مدينته الاولى: بغداد والقاهرة وطرابلس وكردستان، ولكنه يجد نفسه يدور حول تلك المحطات ويعود الى نقطته الاولى. القاريء هنا غير موجود في المكان الذي يضعه الوصف الواقعي، نقطة العودة والبدء التي يتوجه بها اليه تبدو غامضة، كل ما يتركه القص هو الايحاء. غبش الذهن وانسداد حواسه. الاشخاص يعرضون انفسهم، ويهمون بقول،ولكن مكانهم في التفاضل بين لحظة واخرى، يتحدد ببرهة القتل، فهي تقفل على موضوع التجربة حين تمحي انسيابها وحركتها بسكون وصمت . وإذ تتسرب تلك اللحظة الى الحياة اليومية، تحاول معالجة ديناميكية المكان،بتقسيمه الى ميكانيكية الفعل : يذهب ويجيء من المكتب والبيت والسوق والعيادة. ولكن ذهنه يسكن عند حركة واحدة (( بقيت الجثة ممدة وقد جفت بركة الدم الى جانبها، كما ان حذاءها أخذ يبدو مع الوقت أكثر إتساخا، كأنها تواصل المسير على طريق مترب، ولاحظ الناس خلال حركتهم ان البطانية تشبعت بدم خفيف الإحمرار. )) تحتاج العين الى وقت كي تتفاوت سرعتها في نقل الانطباع، فهي لاترى الجثة دفعة واحدة،انها تنتقل من جزء الى آخر كي توزع مجال الرؤية على حياة ساكنة. وهي على هذا الإساس لاتثير الانفعال العاطفي، فهي تبقى في حيز الرؤية الهامشية للناس المتجمهرين حولها (الذين رأوا الموت وسمعوه). القتيل يبقى مجهولا،لأن تتابع لحظات الرصد بدأت قبل قتله مباشرة،وهو ما ساعد على القطع وبث الانطباع الساكن بدل الانفعال.لذا يصبح الطفل في قصة أخرى هو المنفعل مع مشهد القتل في حديقة دارهم، فقد حسب الاشجار في تحولات مواسمها تنتج موتى، وجثثا فاغرة الأفواه. تنقل العين مشاهد القتل وكأنها تزيحها الى حيز يخص فعل القتل وحده، ولا يخص حركة الحياة التي تمضي بين مخاوف تهوّم على المكان، وليس هناك من معادل لفداحة المشاهد سوى الرحيل،الحركة داخل المدينة المقفلة وخارجها. عبثية الموت في هذه المجموعة، تجعل (علاماته) بلا مدلول،انه غير قابل للتأويل، فهو يحل في السياقات النصية ،كفعل استطراد،كمصير حتمي للحياة التي تمضي على إيقاعه.
|