سليم مطر: «اعترافات رجل لا يستحي»

المقاله تحت باب  منتخبات
في 
24/11/2008 06:00 AM
GMT



ما يكتبه سليم مطر (١٩٥٦) في «اعترافات رجل لا يستحي» (دار الكلمة الحرة ــــ بيروت) قد لا يمثل سيرته الشخصية وحدها، بل هو تلخيص مثالي لسير حياة مثقفي العراق خلال نصف قرن. هذه «السيرة الروائية العراقية» كما يصفها هو، تمثل تقلبات أجيال متتالية من المثقفين وعذاباتهم وانهياراتهم وأحلامهم وكوابيسهم، ينجح هو في رسم صورة ذاتية تعبيرية تلخّصها أو تختصر فصولها اللانهائية. أكثر من ذلك، لا يقدّم صاحب «امرأة القارورة» (1990) في هذا الكتاب اعترافاته كشاهد فرد، بل يبدو كأنه يعترف نيابة عن الآخرين. بالطبع هناك تفاصيل كثيرة يرويها عن نفسه لا تتطابق تماماً مع ما عاشه مجايلوه أو من الأجيال الأخرى، لكن الصيغة الكلية التي يمكن تأملها في النهاية: صورة مثقف من الشرق مرّ بفترة اختبار طويلة على الصعيدين الاجتماعي والذاتي ليصل إلى فهم ماهية وجوده.
وعلى رغم أنّ سليم يؤكد في تقديمه للكتاب أنّه يحب الحقيقة والصراحة التي تبدأ مع الذات، إلا أن الكثير مما يورده، قد لا يمثل تجارب فردية بل هو إعادة لأفكار شائعة في علمي النفس والاجتماع. ففكرة الأجنبي الأبدي التي يذكرها عن نفسه في الفصل الأول وملخصها أنه تكوَّن في رحم أمه من دون رغبتها، وهو منذ إدراكه لوجوده يعاني من شعوره بأجنبيته وغربته عن المكان، وبأنّ أهله في طفولته كانوا يسخرون منه قائلين إنّه ليس ابنهم بل وجدوه في إحدى المزارع. هذه الفكرة التقليدية لم تعد معقولة في زمن الاغتراب العربي، ولم تعد تؤرق عشرات الملايين من المهاجرين الذين يبحثون بلا جدوى عن أوطان أخرى.
هذا ما يمكن قوله أيضاً بشأن صورة أبيه التي يرسمها بكل تناقضاتها وأبعادها المتداخلة حيث يعتقد أنه من نسل «جلجامش» جدنا الملك الأسطوري. ذلك الأب الظالم الجبار الرحيم الحنون الذي التحق بأول أفواج الجيش العراقي وقضى شبابه مع الإنكليز ورجالات الدولة، أمثال نوري السعيد وبهجت العطية، وكانت له ألعابه مع النساء، وكان يدير حانوتاً قرب مديرية الأمن بناه بصورة فانتازية من مواد عجيبة. ومن خلال تردده على الزنازين المعتمة لينادي على بضاعته، يشير سليم إلى أنه رأى الكثير من السجناء ومنهم صدام حسين نفسه.
إن صورة الأب هذه هي الصورة المتكررة في تراثنا، تتماهى مع صورة الحاكم والكائن الأسمى ثم تتلاشى تفاصيلها تدريجاً حتى تختفي ظاهرياً، لنكتشف أنّ سلطته الحقيقية كامنة في الداخل. ويتساءل سليم: «ترى هل هي مصادفة أن يموت أبي في الوقت الذي غادرت فيه بلادي والشرق كله، وقررت الاستقرار في أوروبا؟ ها أنا قد غدوت رجلاً، هجرت إلى الأبد أبي وحانوته العجيب، أأكون قادراً حقاً أن أولد من جديد، بعمر جديد وحانوت جديد، وأن أكون أنا ذاتي، أباً لذاتي؟».
وبالطريقة نفسها، يعيد صاحب «الذات الجريحة» رسم صورة موجزة لأمه. فهو لسوء حظه كما يقول عانى من سوء علاقته بأمه وأبيه وهذا يعني سوء علاقته مع الدنيا بأكملها. إذ يرى أنّ الإنسان الذي عانى من سوء علاقته مع جانبه الأنثوي يظل طوال عمره يعاني من سوء علاقته مع الرموز الأنثوية التي تتمثل بالحياة والأرض والوطن والنساء. وإذا كان يعاني من سوء علاقته مع جانبه الذكوري، فسيظل يعاني من سوء العلاقة مع الرموز الذكورية التي تتمثل بالسلطة بمختلف تعابيرها السياسية والأخلاقية والدينية.
أما الفصل الذي يسميه «حكايتي مع الله... صديقي الطيب الجليل» فيتضمن فكرة الاعتراف المركزية التي أرادها أو اقترحها منذ البدء، وهو بذلك يختلف جوهرياً في تسلسله وفي صياغته عن فصول الكتاب الأخرى. وفيه يروي حكايته مع الإيمان التلقائي الذي تختلط فيه صورة الله مع صورة الأب، وكيف تماهى مع صورة النبي إبراهيم وقرر أن ينتظر رسالة النبوة من السماء.. لكنه بعد حين عاد لصيد العصافير، وطلب من ربه أن يؤجل «شغلة» النبوة. ثم كانت لحظة الشك التي ظلت تتسع تدريجياً حتى وصل إلى إعلان إلحاده وهو في الخامسة عشرة، وكان تعلقه بالفكر الشيوعي ورحيله إلى خارج العراق... ليعود ثانية وبعد تجربة مريرة من الضياع والألم والإصابة بالسرطان إلى الإيمان. لقد أصبحت علاقته مع الله مباشرة، بلا وسيط، يناجيه في كل زمان ومكان وفي معابد جميع الأديان.