عشاء مع أورهان باموق وسبعينيات اسطنبول بتناقضاتها في روايته الجديدة |
المقاله تحت باب مقالات و حوارات (في الصورة : اورهان باموق ونجم والي )
كان يجب أن نلتقي أولاً قبل 3 سنوات، على هامش صدور الترجمة الألمانية لروايته "ثلج" في قراءة مشتركة نظمتها "الحدادة القديمة"، مؤسسة ثقافية عريقة في فيينا، لكن اللقاء فشل، بسبب تهديدات بالقتل تلقاها أورهان باموك آنذاك، كان عليّ أن أنتظر حتى خريف العام الثاني، لكي نتعرف على بعضنا في حفل عشاء نظمته "هانزير" دار نشرنا المشتركة على هامش حصوله على جائزة السلام التي يمنحها معرض فرانكفورت للكتاب سنوياً. أتذكر، أنني قلت له، "ها أنت سبقت بلدك تركيا بالدخول للإتحاد الأوروبي"، فأجابني ضاحكاً، "كالعادة الأدب يسبق الحياة".
في ذلك الوقت، حضر باموك وحضر معه حرس شخصي سدّ باب الصالة، كان عليه التعود على المشهدا، هو الذي عرف التنقل اليومي في شوارع أسطنبول، يقطع يومياً طريقه من البيت حتى ورشة عمله التي تطل على مضيق البوسفور، التعود على ذلك، قال في حينه، لا يدري في الحقيقة كيف سيقضي أيامه الجديدة، خصوصاً أن محكمة إنتظرته عند عودته لإسطنبول، التهمة "إهانة القومية التركية"، حديثه بدا مقتضباً في تلك الأيام، ليس لأنه كان يعاين الساعة من حين لآخر، لأن رجال الأمن وضعوا له الخطة التي عليه السير عليها، بل لأن عليه حساب كل كلمة تصدر منه كي لا تُستخدم ضده في المحكمة، صوره اللاحقة وهو يخرج من المحكمة ورمي شباب قوميين له بالبيض والطماطم رآها المشاهدون في مختلف العالم على شاشات التلفزيون، ومن كان يعتقد بأن التحريض بالقتل ضده سينتهي: أولاً بعد تبرئة المحكمة له، وثانياً بعد نيله جائزة النوبل للآداب عام 2007 سيخيب ظنه، على العكس، فما بدا أمراً يمكن أن يجد حله في يوم، تحول إلى تهديد أبدي، طالما أن أيدي أنصار أتاتورك المتعصبين ما تزال تشرف على خلط الأوراق في تركيا، وطالما أن الأيدي "السود" هذه ما تزال تسيطر على جهاز الشرطة والجيش والأمن هناك. حادثة إغتيال الصحفي الأرمني هرانت دينك أرتنا إلى أي مدى يذهب القوميون في وحشيتهم، وأن كلمات التهديد التي يطلقونها، ليست خراطيش فارغة، وأن شهرة ما لن تنقذ الهدف الذي يسعون إلى تصفيته. الرسالة وصلت إلى باموك، وقبل أن يتسلم جائزة النوبل من يدي الملك السويدي غوستاف، قرر البقاء في منفاه الإختياري "نيويورك" لبعض الوقت. ومن يعرف باموك، يدرك أنه سمكة لا تستطيع العيش خارج مياه أسطنبول، ذلك ما جعله يعود من أستوكهولم مباشرة إلى اسطنبول، لكن دون قرع طبول وحفل إستقبال، رئيسا الدولة التركية والحكومة وقفا موقف المتفرج آنذاك، كأنهما أرادا المشاركة في حفلة تنكر البلاد لإبنها. سبعينات اسطنبول بتناقضاتها في روايته الجديدة... أورهان باموق يأسر المرأة المعشوقة في «متحف البراءة»
تبدو اسطنبول عام 1975، مكاناً حافلاً بالتناقضات، ولكن بالانطلاق أيضاً. ففي الوقت الذي كان يمكن رؤية الفقر في كل مكان، بدأ نجم طبقة تركية ثرية بالصعود. ومن انتمى الى العائلات القادمة من هذه الطبقة التي مارست التجارة مع الغرب، انفتحت أمامه كل مجالات الحياة. كان من النادر ألا تجد إبناً من هذه الطبقة لم يسافر للدراسة في أوروبا. الأولاد فضلوا السفر الى الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا للدراسة هناك، أما الإناث ففضلن الذهاب الى باريس. أمر واضح، باريس في النهاية هي عاصمة الملابس الحديثة والعطور. كان الغرب إذاً هو المثال الأعلى الذي تغنت به الطبقة هذه في كل شيء، حتى في الشراب، أو في شراء أحدث الأجهزة الخاصة بالأدوات المنزلية، بل حتى في استيراد الأفلام الاباحية، التي كان يدبلجها في تركيا أشهر الممثلين والممثلات. في السنوات تلك، التي تصاعد فيها أيضاً الصراع بين اليسار المتطرف والقوميين وحوّل اسطنبول ساحة معركة حقيقية لا يمر يوم عليها فلا تنفجر قنبلة أو يحصل إطلاق نار، في السنوات تلك، حصنت الطبقة الثرية هذه نفسها في صالات الفنادق الفخمة وفي مطاعم الخمس نجوم، تقيم الحفلات وتسهر حتى الساعة الأولى من الفجر، وفي الشارع تقود سيارات فارهة فخمة. كانت البورجوازية الصاعدة هذه كثيرة التفاخر بما تملكه، تفرط في الشراب والسهر وإقامة الحفلات. بل كان التقدم بالنسبة لأبنائها وبناتها يعني أيضاً الحرية الجنسية قبل الزواج، ولا بأس أن يقيم الخطيبان علاقة حميمة قبل الزواج. تلك هي علامات الحضارة، ذلك ما يبدو ظاهرياً، لأن نظرة متفحصة الى الحياة اليومية لهذه العائلات ترينا، كيف أنها وعلى عكس ما كانت تدعيه، لا تزال تعيش متلاحمة بعضها مع بعض، تلعب رابطة الأخوة والقرابة والتقاليد عندها الدور الكبير. في ذلك الجو العائلي «المتناقض» عاش كمال، بطل رواية أورهان باموق الجديدة «متحف البراءة» التي صدرت حديثاً في ترجمتها الألمانية بعيد صدورها بالتركية قبل شهرين، أنه توقيت جيد على أية حال، بخاصة أن تركيا هي البلاد التي حلت ضيفاً على معرض فرانكفورت هذا العام. وعلم أن باموق لم ينته من كتابة الرواية حتى شهر أيار (مايو) الماضي، وراح يسلمها الى المترجم الألماني فصلاً تلو فصل لتصدر بالألمانية في بداية المعرض. كان الروائي التركي المشهور عالمياً، يكتب ويعمل تحت ضغط كبير بسبب الظروف الصعبة التي مرّ بها منذ تسلمه جائزة السلام عام 2005 والتي يمنحها سنوياً معرض فرانكفورت للكتاب، أي قبل تسلمه نوبل بعام، وكان عليه وبسبب التصريحات التي أدلى بها للصحافيين حيال قضية إبادة الأرمن في تركيا، أن يعيش في نيويورك مدة، قبل أن يعود الى اسطنبول ليعيش تحت الحراسة. لكن باموق كما يبدو، لم يبتعد عن مدينته أبداً. فها هو يعود اليها في هذه الرواية من جديد، بعد أن فارقها فترة قصيرة وذهب الى مدينة «قارص» الحدودية في روايته «الثلج». هناك بعض الكتّاب لا يمكن فصل إبداعهم عن المدينة التي يصرون على العيش فيها، أنها حاضرة في كل أعمالهم. تلك هي حال دوستويفسكي مثلاً، فمدينة سانت بطرسبورغ حاضرة في الكثير من رواياته، أو حال نجيب محفوظ وعلاقته بالقاهرة، أو باموق... ومن الصعب القول إذا كانت المدينة هي التي صنعتهم أم العكس، أم أن تكرارهم الكتابة عن المدينة خلق مدينة جديدة، أو نوعاً من يوتوبيا مغايرة للصورة الواقعية التي تبدو عليها المدينة. في روايات باموق تختلط الصورتان، حتى من الصعب التمييز بين الاسطنبولين. جيمس جويس كان يعتقد، أن عليه الابتعاد عن دبلن كي يكتب عنها، عليه أن يكرهها، كي يعود اليها ويحبها من طريق الكتابة. لم يخلّد كاتب ايرلندي آخر العاصمة الايرلندية مثل جويس في حالة باموق، يمكننا قول العكس، المدينة ابتعدت عن الكاتب، وهو في رواياته، لا يفعل سوى أن يجرها الى صفه، كي يخلقها على الصورة التي عشقها بها. هذه المرة تحضر اسطنبول من طريق الأشياء التي جمعها بطل الرواية. قصة حب «متحف البراءة» تبدو للوهلة الأولى قصة حب، يرويها بطلها، كمال، الذي هو ابن عائلة غنية يدير مع أخيه «عثمان» مصنعاً للنسيج ورثاه عن الأب. كمال «المودرن» (باموق أيضاً ينتمي الى عائلة غنية ملكت مصانع) الذي ذهب مدة سنة للدراسة في أميركا (باموق درس أيضاً مدة سنة في أميركا)، والذي يحب فتاة من عائلة غنية أيضاً، (زيبيل) التي ذهبت للدراسة في باريس، يقع فجأة في علاقة حب غير متوقعة بفتاة تربط أمها قرابة بأمه (فوسون)، ومتى؟ بالضبط في الأسبوعين اللذين سبقا حفلة خطوبته بزيبيل. فوسون التي بلغت للتو الثامنة عشرة من عمرها، وتصغر كمال بإثني عشر عاماً، تنحدر من عائلة فقيرة، أمها خياطة بسيطة، وابوها متقاعد في البيت، بعد أن كان معلماً في مدينة «قارص» (يعود باموك في روايته هذه أكثر من مرة الى رواياته القديمة). لكن فوسون فتاة جميلة جداً، سبق لها أن اشتركت في مسابقة جمال سببت لها الكثير من المشكلات، ليس لأنها فشلت في تلك المسابقة، بل بسبب القيل والقال، ولأن فتاة فقيرة مثلها كان عليها أن تنسى أمر الجمال وتجلس في بيتها بانتظار العريس المناسب. يتعرف كمال على فوسون في محل لبيع الاكسسوارات والحقائب الجلدية للنساء. يقع الاثنان في الحب مباشرة. وما بدا أولاً علاقة عابرة يتطور الى تعلق غامض، الى عشق، على رغم أن كمال لا يقطع علاقته بخطيبته الغنية. وبعد حفلة الخطوبة التي يصفها باموق بدقة وتحتل في الرواية بترجمتها الألمانية التي قام بها في شكل رائع غيرهارد مايير، خمساً واربعين صفحة. ومع الوقت يكتشف كمال أنه يحب إمرأة واحدة أسمها فوسون. يحبها أكثر من كل شيء في العالم. فيقرر الانفصال عن زيبيل، لكن اكتشافه هذا يأتي متأخراً، لأن فوسون كانت قد تزوجت خلال في هذا الوقت رجلاً آخر هو فريدون، مخرج سينمائي شاب وعدها بأن يصنع منها نجمة ذات يوم. وعندما يعثر عليها كمال، ويعرف أنها تقيم مع زوجها في بيت أهلها في الحي المتواضع جوكورسوما، يبدأ بزيارة العائلة كل ليلة، وعلى مدى ثماني سنوات، يسعى الى كسب حبها من جديد. أربع مرات أو خمساً في الأسبوع يجلس مع العمة نصيبة والعم طارق في صالون البيت يشاهدون التلفزيون بحضور فوسون. في كل الزيارات تلك وقبل خروجه يسرق كمال كل ما لمسته فوسون... أعقاب السجائر التي مرّت على شفتي فوسون وأشياء أخرى لها علاقة بها من حلى وأدوات منزلية وملابس، بل حتى الأشياء المستخدمة كديكور البيت، الكلب المصنوع من السيراميك الصيني الذي تضعه العائلات التركية فوق جهاز التلفزيون... وتتطور الرواية تدريجاً حتى الوصول الى كاتلوغ المتحف الذي يحوي شروحاً للأشياء الموجود في «متحف البراءة»، الذي يحلم كمال بتحقيقه لتخليد حبيبته. لكن الرواية التي تبدو قصة حب مستحيل بين شاب غني وفتاة فقيرة، بين مجنون ليلى تركي معاصر وفتاة فقيرة بعيدة المنال، هي الواجهة الخارجية لبناية المتحف الذي أراد باموق بناءه، وقد صرح باموق للصحافيين أنه يبحث عن متبرعين سبونسير لتحقيق فكرة المتحف في بيت اشتراه لهذا الغرض في اسطنبول. ومن يتفحص الكاتالوغ الذي قدمه بطل باموق، أو من يقرأ التصريحات المكملة للرواية التي صرح بها باموك في حواراته الصحافية، ويرى الأشياء التي جمعها الراوي في ورشة عمله، يتعرف من طريق الأشياء على تاريخ مفقود لأسطنبول في السبعينات. طبقة تركية ومن الصحيح القول أيضاً، إن «متحف البراءة»، بقدر ما هي قصة حب جميلة وحزينة، هي بانوراما شاملة لطبقة ثرية تركية، اسطنبولية على وجه الخصوص في فترة السبعينات، تبدو في نظرتها للعالم وعاداتها، غربية ظاهرياً، وهي لا تختلف عن نظرة الطبقات الغنية في البلدان العربية في السبعينات، خصوصاً في لبنان والقاهرة ودمشق وبغداد، لكنها في العمق، وعندما توضع على المحك، تكشف عن وجهها الحقيقي، وجهها التقليدي الذي لا تختلف ملامحه عن ملامح بقية المجتمع، الذي ينتج الكثير من المفارقات، ومن المواقف الضاحكة والكوميديا السوداء. حتى الراوي، بطل الرواية كمال، لا يقول لنا أو على الأقل يوضح، لماذا فوسون بالذات؟ هل أحبها لأنها جميلة وحسب؟ هل لأنها «بريئة» قادمة من الضواحي، لم يلوثها جو المدينة الكبيرة اسطنبول على رغم انها لم تتردد في تسليم بكارتها له؟ بالتأكيد بحث كمال عن وهم يشده الى حياة أخرى، بعيداً من المجتمع المخملي الذي انتمى اليه، المجتمع الذي حصن نفسه في اليخوت وفي فنادق النجوم الخمسة، لكي يقول ان لا علاقة له بما كان يحدث في شوارع اسطنبول من قتل وتفجيرات ودمار، وصراع بين اليساريين والقوميين. حتى عندما ينفّذ العسكر انقلابهم في 12 أيلول (سبتمبر) 1980، تصمّ الطبقة هذه آذانها على ما سيحدث من تضييق للحريات وسجن ومطاردات، على يد العسكر ضد الذين عارضوا الانقلاب. كان يهم كمال حبه لفوسون أكثر مما كان يهمه مصير البلاد والطبقة التي ينتمي اليها أو مصير المصنع الذي كان يديره مع أخيه، الذي بعد الخسارة التي يتعرض لها ينفصل عنه ليؤسس مصنعه الخاص به. أمر مفهوم، الحب كقضية فوق كل القضايا «الكبرى» الأخرى، ولكن ألم يكن أنانياً في حبه؟ هل فكر بحبيبته، بحياتها؟ ربما أراد أورهان باموق في روايته هذه، من خلال سلوك بطله والطبقة التي ينتمي اليها، أن يلقي مسؤولية ما وصلت اليه البلاد لاحقاً، أو ما وصلت اليه مدينة مثل اسطنبول عندما يفوز بها لاحقاً رئيس بلدية من الاسلاميين، على الطبقة الغنية هذه. فالخراب يعمّ في أكثر من مكان، واسطنبول اليوم ليست اسطنبول الأمس. الجميع يعرف ذلك. في مشهد معبر في نهاية الرواية تقريباً، وقبل أن تذهب فوسون الى مصيرها، مثل مصير غريس كيلي في فيلم «على سطوح نيتزا»، التي عشقتها وحلمت أن تصبح نجمة سينمائية مثلها، لكنها لم تنجح في تقليدها إلا في المشهد الأخير من الفيلم، عندما تقود سيارة شوفروليه مفتوحة من طراز 1956، تقودها بسرعة هائلة، وهي تنعطف في استدارة حادة على الطريق السريع، في المشهد ذلك وقبل أن تصعد فوسون الى السيارة، تقول لكمال شاكية بعد أن وافقت على الزواج منه: «فريدون (زوجها السابق) وأنت منعتماني بتعمد، من أن اصبح ممثلة سينمائية», وهي على حق، فإذا كان الأول سجنها في البيت، ليخرج كل ليلة الى الحانات ويلتقي الممثلات، فإن الثاني لم يكتف بأنه أرادها ألا تخرج من البيت، بل أن تظل هناك كل ليلة تجلس معه في الصالون، تتطلع معه الى شاشة التلفزيون، مثلها مثل أي قطعة ديكور في البيت، بل أنه يحولها الى فكرة معلبة للأبد، سواء عندما يقوم بكل ما في وسعه لتأجيل الزواج منها، عندما تصبح حرة بعد الطلاق، أو عندما يشتري بيتاً ويحوله الى متحف للأشياء الخاصة بها. هكذا تبدو الجملة التي يقولها كمال لأورهان باموق بعد أن يكلفه كتابة قصته: «على الجميع أن يعرفوا، بأنني عشت حياة سعيدة». جملة ذكورية خالصة، إزاء ما حصل لفوسون. لا المتحف سيقدم عزاءً لها، ولا المتحف الذي أراده أن يفوق متاحف العالم. فالفتاة «البريئة» الجميلة تلك، لم تعش السعادة التي تحدث عنها كمال. كان عليها أن تدفع بسبب جمالها ثمناً باهظاً، هو التنازل عن حلمها في أن تصبح ملكة جمال ونجمة سينمائية، والتسليم بالعيش مثل سجينة في البيت، او التنازل نهائياً عن الحياة لكي تعيش «مرتاحة» وخالدة في كل ما يضمه متحف من أشياء لها. متحف البراءة قصة حب حزينة، لكنها في المقام الأول قصة تخص الفتيات «البريئات». |