عن جرائم قتل المسيحيين وتهجيرهم : هذا العار الجديد |
المقاله تحت باب في السياسة ماذا تقترحون من اجل رفع هذا العار الجديد عن كاهلنا؟
من جديد أثبتت الحكومة أنها تعيش في ظلام عما يحدث في العراق، فهي لا تتوقع الاحداث، وغير مستعدة لها، وبطيئة إذا ما استجابت تحت ضغطها وايقاعاتها السريعة. فما حصل في الموصل فاجأ الحكومة على الرغم من أن جيشها ما زال هناك ينفذ ما تبقى من عملية ام الربيعيين. من هنا يحق لنا أن نتساءل: ماذا كان سيحصل لو لم يكن جيشها هناك اصلا ؟ لقد أشار الناطق باسم الحكومة الى أن ما حدث في الموصل موجه ضد الحكومة . وحقا انه موجه ضدها بمعنى من المعاني لأنها لا زالت موجودة في الموصل، ولأنها خاضت حربا ضد التكفيريين وجماعات العنف هناك، وقتلت من قتلت، وسجنت من سجنت، وشعرت بأنها حققت الكثير من أهدافها التي خططت لها، ولابد إنها تعلمت شيئا عن تركيبتها الاجتماعية والسياسية. فما الذي حدث إذن؟ كيف تركت المواطنين المسيحيين المسالمين وغير المسلحين يواجهون قدرهم وحدهم أمام قوى حاقدة لا شرف لها؟ لم تكن العمليات الاجرامية الموجهة ضد اخوتنا المسيحيين خاطفة، بدأت وانتهت في ساعة واحدة، بل انها استغرقت اياما كان يمكن للحكومة فيها ان تعرف لتبادر وتحسم الامر، الا انها كما يبدو لم تسمع شيئا، وقواتها التي رأت أغمضت عينيها، لأنها لا تجيد التصرف خارج سياسة الحملات المسيطر عليها. وأرجّح أن الحكومة سمعت عن الاحداث من خلال الاعلام العربي والعالمي الذي كان اسرع استجابة واكثر ايجابية وتضامنا مع مواطنينا المسيحيين. والحال اننا ازاء مشكلة توصيف بسبب الحالة السياسية التي غيرت الكثير من المعايير المعتادة، فنحن لا ندري حين نتكلم عن الحكومة ما إذا كان يجب ضم السلطات المحلية في المدينة اليها، أو ان نخرج هذه السلطات من مسؤوليتها بسبب حالة مفككة بائسة وضعت لها اسماء سياسية ممتازة كالفيدرالية او اللامركزية. ودعونا نخمن : فلربما كان على الحكومة المحلية ان تخبر حكومة بغداد عن الكارثة الا انها تقاعست لسبب من الاسباب، أو لأنها أضعف من أن تتخذ اجراءات سريعة، أو لأنها منقسمة مثل حكومة بغداد بين وزارات شيعية ووزارات سنية ووزارات كردية ووزارة بيد شيوعي لا يحل ولا يربط ، ولربما كانت تدري مثل الاطرش بالزفة الا انها فضلت أن تشيح بصرها. أعترف انني لا امتلك اجابات محددة بسبب غرابة النظام السياسي الحاكم الذي لا تدري يده اليسرى ماذا تفعل يده اليمنى، والذي لم يعد يعلم حقا بما يحدث في المحافظات بسبب قادة محليين غير مدربين تقودهم قوى سياسية مناطقية وطائفية انعزالية. (ابهؤلاء تبنون الفدرالية التي تحتاج الى الكثير من الذكاء والحصافة والتدريب؟) والحال إن الحكومة في بنائها العام نتاج عملية سياسية كرست نظاما سياسيا هزيلا عليه أن يأخذ في الحسبان ما يريده قادة الطوائف والاثنيات في كل صغيرة وكبيرة بصرف النظر عن المصلحة الوطنية ، في حين ان هؤلاء القادة يعملون بالخفاء على اطلاق ارادة عنيفة للسيطرة والتأثير على الناس وابتلاع الموارد . إن الدولة في وضعية كهذه تتحول الى مجرد بقرة حلوب للمتنفذين . والحال إن ما أنقذ الحكومة حتى الآن من التأثيرات المباشرة والصادمة لهذه الوضعية التي نتجت عن المحاصصة السياسية في اسوأ صورها، هو وجود جيش وشرطة ومخابرات اخضع أفرادها الى تدريب تقني وسياسي جديد بعيدا عن تأثير القوى المحلية عن طريق قوات الاحتلال، مع وجود رئيس وزراء يتصف بالحزم. بيد إن هذه الحالة غير مضمونة، وقد تتبدد، تحت ضغط المصالح الضيقة للقوى الطائفية والاثنية بالتضافر مع القوى الاقليمية. والحال إن هناك قوى لا تخفي مغبونيتها في التمثيل داخل المؤسسات العسكرية والامنية والاستخبارية، وهي تريد حصة اكبر . ومن يدري قد تمرر المحاصصة بنفس الشروط السيئة الى هذه القوات لكي يتم عبرها تحطيم العراق الموحد نهائيا ! لقد أخبرني عدد من المسيحيين أنهم يعيشون في خوف دائم لأنهم واثقون من أن لا احد يستجيب لشكاواهم أو ينتبه لمخاوفهم وهواجسهم، وأن السلطات بطيئة ومشغولة وفي حالة دفاع عن النفس على نحو دائم ، وتقف ازاء المسيحيين بوصفهم عبئا اضافيا عليهم وهم لا يرون فيهم غير قوم مختلفين عنهم في الدين وينتمون الى الغرب! فضلا عن ذلك أخبرني هؤلاء المواطنون بالفم الملآن : نحن لا نستغرب كل هذا من سلطات تطيع قادتها الطائفيين سواء كانوا سنة او شيعة او كردا. إن وطنية السلطات في مناطق المسيحيين تتمثل بالشعارات، وجل افرادها لا يؤمنون بها وغير مؤهلين سياسيا وانسانيا واخلاقيا على تبنيها في التطبيق. والحال إن التدريب الحالي للمليشيات والقوات الخاصة وجماعات القاعدة والتكفيريين ومسلحي الحكومات المحلية السرية والعلنية قائمة على الحقد واستخدام النفوذ والمال من اجل المزيد. إن توقع انسانيتها وتفهمها في ظروف الازمات والصراع يعد ترفا. الأمر المثير الآخر الذي اخبروني به هو ان قادتهم الروحيين ينصحونهم دائما بالتعقل والانسحاب وإحكام اغلاق ابوابهم ما يضاعف من مخاوفهم. أما قادتهم السياسيون فقد أضاعت الحلبة السياسية في مدينة الموصل صوابهم في حين اضطر من يناضل في البرلمان "البغدادي" الى الدخول بتحالفات هزيلة تعرضه للابتزاز والاذلال. استمرارا لهذا قال لي احدهم انه سأل رجل دين في منطقتهم عن امكانية أن يتسلح المسيحيون للدفاع عن انفسهم والرد على بعض الاعتداءات، فطلب منه ان ينسى هذه الفكرة المجنونة ، بل انه قال له الكلمات المخيفة الآتية : عندها سنعطي حتى للقوى الصديقة الحجة بذبحنا جميعا ! هذا الكلام الذي سمعته من أصدقاء مسيحيين أشعرني بالخوف والعار ، وجعلني قلقا وغير واثق من حقيقة المشاعر التي يحملها ابطال شعارات الديمقراطية ودولة القانون، بعد ان اختبرنا بطئهم وتشوشهم في قضية عادلة لمواطنين راحوا يشعرون ان الجميع تآمر عليهم وهم من هم : اقدم عراقيةً من خطباء البرلمان والحكومة واكثر مسالمة وتحضرا. علينا أن نشير الى أن المسيحيين منذ بداية الحكم الوطني 1921 ما كانوا يمثلون قيمة سياسية تذكر . كانوا مندمجين في مجتمع لا يمتلك مواطنوه تقريبا حقوقهم السياسية ، ما جعل قضايا حقوق الاقليات ثاوية تحت مجموعة كبيرة من القضايا ولاسيما قضايا الحرية والديمقراطية والتنمية وعلاقتها بطبيعة النظام السياسي. من الناحية الاجتماعية كان المسيحيون جماعة ريفية فقيرة عانت من فقر الريف العراقي واضطرابه الاقتصادي الدائم، وقد وجدت في الهجرة الى العاصمة ومن ثم الى الخارج ، ولاسيما الى الولايات المتحدة حلا لفقرها. وبوجه عام لم تطرح قضايا الحقوق والتنظيم المدني والسياسي على المسيحيين الا بعد نيسان 2003 بعد ان ضعفوا عدديا بسبب الهجرة، واجتماعيا بسبب انقسامهم الطبقي الواضح. من هنا لا يشكل المسيحيون في السياسة العراقية الحالية الغارقة بمشكلات كبيرة وخطرة أهمية خاصة ، فلا قوات الاحتلال ولا الحكومة حمتهم من الارهابيين والمليشيات وجماعات الجريمة المنظمة ما اضطر الكثير من سكان المدن منهم الى الهجرة الى دول الجوار على امل الانتقال النهائي الى اوربا او امريكا بمساعدة مفوضيات اللاجئين. لنعد الى الحالة الراهنة والوقائع المعروفة عنها : ففي الظاهر بدأت ازمة سياسية من الغاء مادة رقم 50 من قانون الانتخابات المحلية والمحافظات . لماذا الغى البرلمان العراقي هذه المادة؟ كل ما سمعته عن اسباب حتى الآن يبدو غامضا ومليئا بالمغالطات الوقحة. الأمر الواضح، والذي استطيع أن اصدقه، وأود أن اصدقه حتى لا اظلم أحدا، هو حدوث سهو. نعم .. سهو ، وسبحان من لا يسهو! لكن ما حصل بعد ذلك يحتاج الى امعان النظر. فالمسيحيون تظاهروا دفاعا عن المادة 50 ، ورفعوا شعارات من اجل اعادتها، واكدوا انهم مع الديمقراطية، مع اعطاء الحقوق للجميع ، وعلى الجملة مارسوا حقهم في التظاهر والاحتجاج والتنظيم. فهل أغضب هذا التحرك المنظم من هم سريعو الغضب، أو أغضب اولئك الذين اعتادوا خلط الاوراق لكي يتسللوا وينفذوا مآربهم؟ ربما حصل هذا. بيد ان الاعتداءات على المسيحيين بدأت قبل هذا التاريخ ، قبل العيد بأيام على وجه التحديد حسب بعض المصادر. وهو ما يجعلنا نشير الى مسؤولية الحكومة، ومسؤولية السلطات المحلية في الموصل. لقد شعرت بمخاوف اصدقائي المسيحيين عندما سألتهم عمن يتهمونه بقتل اكثر من 12 مواطنا ، وحرق خمسة من الدور ، وتهجير اكثر من الف عائلة مسيحية. ولماذا الخوف من تشخيص القتلة؟ قال لي احدهم: لأن القتلة يتظاهرون بأنهم ليسوا هم! وأضاف: هل فهمت؟ فهمت ولم أفهم. إنني اكره الالغاز مع ادراكي لماذا نلجأ اليها. من كثر الالغاز لم نعد نعرف من هو الصادق والكاذب، من نحن ومن هم، وما معنى هم ازاء نحن. إن العراق مليء بانقسامات تشير الى من هم هناك ومن هم هنا. اليس غريبا أن شعبنا بات اكثر تلغيزا من قبل ؟ كانت الدكتاتورية تجعلنا نتحدث بالرموز ، أما الان فهم يتركونك تتخبط بالتكهنات، وعندما تيأس تشعر أن محدثك المخادع يقول لك بالاشارات انك غبي لا تفهم. وعندما تلح تتأكد أن محدثك يخاف وانك غبي لأنك لم تخف بعد او انك ربما تتظاهر بالغباء من دون ان تدري. كيف نفهم ما جرى؟ رئيس اساقفة الكلدان في كركوك وصف حملات «التصفية» التي يتعرض لها المسيحيون في العراق بأنها تجري «وفق مخططات اقليمية وداخلية» . إنها كلمات واضحة لكنها تردد ما هو شائع . حتى الحكومة حين لا تريد ان تسمي بوضوح ما يأتينا من بلاوي جيراننا تلجأ الى كلمات من مثل: مخططات اقليمية أو قوى اقليمية، اما (الداخلية) فهي تحصيل حاصل. وأوضح الاسقف لويس ساكا «لا استبعد ان تتم تصفيتنا وفق خطط إقليمية وداخلية لانها جزء من مشروع الفوضى الذي يراد للعراق الذي تحول وللاسف الى ساحة للتصفيات بحيث الوضع بات معقدا للغاية وشديد التداخل». وحذر من ان «استمرار الانتهاكات واستهداف المسيحيين في العراق والموصل خاصة ستعبث بالوحدة الوطنية التي نسعى جميعا الى بنائها لاسيما وان العراق ما يزال تحت الاحتلال». واضاف «ما نتعرض له من اضطهاد وملاحقة وبطش اهدافه سياسية». وتابع «ان من يستهدفنا يبحث عن مكاسب والهدف هو اما دفع المسيحيين الى الهجرة او اجبارنا على التحالف مع جهات لا نريد مشاريعها». إن كلمات الاسقف الموقر تنفتح على الحقائق السياسية السائدة اليوم ، وعلى الشروط التي يصبح فيها الجميع منقسمين بين ان يكونوا حلفاء وبين ان يكونوا اعداء، فالانتخابات على الابواب، وبعض القوى العراقية التي استفادت من تجربة الفاشية بأن قلدتها واخترعت لها طرقا دنيئة اخرى ، تخطط الآن وتفكر بمغالبة لا تحب ان تكون الخاسر فيها حتى لو لجأت الى القتل والتهجير. الم يفعلوها؟ الم تفعلها "القاعدة" وما زالت ؟ الم يسابقوها في الاستهتار بأرواح المواطنين؟ والآن ما الذي يفعله المسيحيون بين فاشيين جدد تعلموا من فاشيين قدامى غير ان يصبروا ويقفلوا ابوابهم باحكام، أوأن يصمتوا، أوأن يمارسوا الحذر، وأن لا ينغمسوا بأي اهتمام سياسي يعاقبون عليه، أو أن يهاجروا الى أبعد من سهل الموصل، بل الى أبعد بكثير؟ أنا لا انصحهم بهذا، لكن من ينصحهم بغيره، كأن ينصحهم بمواصلة النضال الديمقراطي من اجل حقوقهم من دون ان يعدهم بالحماية ولا بالنجدة انما يريد ان يكرر الهزيمة السابقة القديمة للديمقراطية العراقية التي لم يسمح لرشيمها الصغير بالنمو. هل تتذكرون ايها السادة الديمقراطيون؟ الم تتعلموا بعد؟ .. لكن هاهو الاسقف يطالب رعاياه بـ«عدم الانجرار والانصياع لقوى الشر والظلام». علينا أن نفهم وظيفة هذه النصيحة، مع انني لست متأكدا من قيمتها الفعلية في حياة قوم مسالمين لا ينجرون ولا ينصاعون ولا يوجد في تاريخهم ما يشير الى انهم اعتدوا او تآمروا او حتى طالبوا شيئا لا يعود لهم، في مكان قديم استنزفته الفاشية، وحوله الامريكان والسياسيون الثرثارون وقادة المليشيات والتكفيريين الى مكان خاو من الحب والشهامة والاحترام. ماذا تقترحون من نصائح بشرط ان لا تؤدي الى القتل؟ وماذا تقترحون من اجل أن نرفع هذا العار الجديد عن كاهلنا؟ |