فاضل الربيعي في فلك الأساطير |
المقاله تحت باب مقالات و حوارات يعتقد الكاتب العراقي فاضل الربيعي أنّ الأساطير ملأى بالتاريخ، عكس ما يقال إنّ التاريخ مليء بالأساطير. هذه القاعدة دفعته، وهو يبحث في نصوص الطبري والمسعودي وابن الأثير، إلى تفكيك العلاقة بين الخبر التاريخي والأسطورة. فالمؤرخ القديم كان يمزج بين حقائق التاريخ والأساطير. وعندما يسجّل واقعة، كان يتصرّف كأنّه يروي أسطورة. ومهمة المؤرخ المعاصر هي إعادة الفصل بين مادة الواقع ومادّة الخيال. ذلك ما يفعله في كتابيه “فلسطين المتخيّلة: أرض التوراة في اليمن القديم” (دار الفكر ــــ دمشق) و“يوسف والبئر، أسطورة الوقوع في غرام الضيف” (دار الريس ــــ بيروت) متوصلاً الى استنتاجات قد تثير الكثير من الاعتراضات. لكنّها رغم تطرّفها ومعارضتها للثوابت التاريخية والفكريّة، بل للمعتقدات المقدّسة، تبدو قابلة للمناقشة والتصديق، خصوصاً إذا نُظر إليها كنتاج لتأمّل وبحث علمي يعتمد على وثائق ومصادر أعيدت قراءتها وتحليل نصوصها.
في الكتاب الأول، يرى الربيعي أنّ “المسرح الحقيقي لأحداث التوراة كان في اليمن، وأنّ السبي البابلي لليهود لم يكن من فلسطين، وأنّ العبرية هي إحدى اللهجات العربية القديمة لأهل اليمن، وإن هيكل سليمان أعادت بناءه القبائل العائدة من الأسر في البطاح اليمنية”. أما في الكتاب الثاني، فيرى أنّ يوسف هو إله الخصب العربي، وأن البئر تكشف مأساة النبي كما تكشف سر المعبود القديم. أما أسطورة الخلود عند العرب فهي إعادة رواية لوقائع موغلة في القدم، والأسطورة هنا تقوم بإعادة سرد حلم القبيلة القديم عندما تسعى القبيلة إلى التخلص من غرائزيتها. يضيف: “كتاب “يوسف والبئر” ولد في سياق البحث عن بنى المقدس في الثقافة العربية القديمة، لذلك أعتبره نصاً مركّباً يقع في منتصف الطريق بين الفكر والأسطورة. وهو فصل في مشروع إعادة كتابة سردية عربية جديدة عن التاريخ والأسطورة والثقافة”. يشير الربيعي إلى أنّه يعمل على مشروع ضخم خاص بعلم الأساطير. “نحن حتى الآن ننظر إلى الأسطورة على أنّها خرافة، أو نتاج لعقل بدائي، في حين تُدرس الأساطير في جامعات العالم ضمن علم له آليات بحث متطورة”. لكن إلى أين سيؤدي ذلك؟ “أعتقد أنّ ما قمت به سيقدّم خدمة للباحثين الذين يدرسون مجتمعاتنا العربية المعاصرة بأدوات مبتورة، لأنّهم لا يجرؤون ــــ أو لا يمتلكون القدرة ــــ على التوغّل في أعماق الثقافة القديمة. كما سيعرّف القراء إلى الدلالات العميقة لما يقرأون من قصص وأساطير. وهذا هو أحد الطرق لاكتشاف الذات، ومعرفة مَن أنا”. وماذا لو تعارض ذلك مع المعتقدات الدينية؟ يجيب: “على مرِّ التاريخ، وفي كل الأديان، لم يحدث تعارض بين الأساطير والشرائع الدينية. النصّ الديني يتألف في الأصل من سطحين: تشريعي يحدِّد الحلال والحرام، وآخر يشتمل على القصص والمرويات. في التوراة مثلاً، لا يوجد مقطع إلا ونلاحظ فيه اندماجاً بين التشريع الديني ورواية أساطير عن حروب وفرسان ومدن تبدو متخيّلة للوهلة الأولى. ما أقوم به ليس مصمَّماً لإحداث تماس عنيف بين الأسطورة والدين. ومثل هذا الإحساس أمام ما أكتب، يعني تدنّي المعرفة وقلة الإدراك والتعصب”. لكن بعض تفسيراته يمكن وصفها بالتطرف! يرد صاحب “شقيقات قريش”: “أنا لا أبحث عن طريقة لإنتاج الحقائق، هذا ليس عملي، بل أشتغل على التأويل، وبعض الذين تباغتهم تأويلاتي، يرتعبون من تغيير قناعاتهم، ولديهم الحق في ذلك. لكن ما الضرر في التأويل؟ الإنسان البدائي عندما حاول تفسير ظواهر الطبيعة لجأ إلى التأويل. علماء الفيزياء والطبيعة في العصر الحديث لجأوا إلى تفسير الظواهر الغامضة بالتأويل. وفي هذا الحقل لم أكن وحدي، سبقني إلى ذلك صديقي المفكر السوري تركي علي الربيعو وآخرون خصوصاً في المغرب وتونس. أفكارنا وتصوّراتنا ما زالت تثير الكثير من النقاش، لكن أعتقد أنّ الوقت مبكر لإحداث سجال حقيقي حولها”. هل يحدث ذلك بسبب التابو الديني والاجتماعي؟ “ربما، لكن على الأغلب بسبب النقص المعرفي. هناك مَن يخاف السجال مع أساليب جديدة في التفكير والرؤية. وهناك مَن يرى أنّ هذه الأفكار قد تحدث خللاً في البنية الاجتماعية. هناك أيضاً مَن يبشر بها من دون معرفة حقيقية. شخصياً أعتقد أنّ النقاش سيتطوّر تدريجاً ليصل إلى دراسات جادة عن بنى التاريخ والمجتمع. في مشاريع كهذه، ليست هناك حاجة لأتباع ومريدين... بل ينبغي أن تكون هناك حركة تحديث متصلة. المهم أن نزعزع أسس المعرفة القديمة، ونبتكر أساليب فهم جديدة لكل ما يحيط بنا”. الربيعي الذي جاء من عالم الأدب والنقد الأدبي، لا يرى أنّه ضاع في عالم الأسطورة. إذ إن الميثولوجيا والقص أو السرد القصصي تخضع لبنى متماثلة. في الرواية، يحاول الكاتب تحطيم المنطق الزمني وسياق الأحداث وتسلسلها، وبالتالي يقترب من الحلم. وذلك ما يحدث في الأسطورة أيضاً: “الفيلسوف وعالم النفس الاجتماعي أريك فروم كان يعتبر أنّ بنية الأسطورة والحلم واحدة. ولم أجد نفسي غريباً في عالم الميثولوجيا، بل ازداد اقتناعي بأننا لن نفهم مجتمعاتنا بعمق إذا لم نذهب إلى الثقافة القديمة ونعيد تفكيك الراسب الثقافي”. لافتاً إلى أنّه «على الكاتب أن يحافظ على نوعه من الانقراض مثل حيوان السمور» لكن هل سينتهي به المطاف إذاً إلى كتابة رواية معاصرة تستفيد من التاريخ والأسطورة؟ “لدي عمل طويل بعنوان “بغداد والمطر”، أنجزت منه حتى الآن 300 صفحة، يتضمن الكثير من أفكاري عن هذا العالم، ويتعلق بكشوفاتي التاريخية والأسطورية، وهو دليل على أنني لن أهجر عالم الأدب مطلقاً. بين الأدب والسياسة والتاريخ فاضل الربيعي (1952) الذي ينتمي إلى ما يسمّى بجيل السبعينيات في الثقافة العراقية، عمل محرراً لسنوات في جريدة “طريق الشعب” الناطقة بلسان الحزب الشيوعي، قبل مغادرته العراق. كما عُرف كاتباً للقصة القصيرة، وأصدر خلال تلك السنوات كتاباً في القصة القصيرة بعنوان “أيها البرج يا عذابي” (1976). ثم دخل في مرحلة من الهجرات المتواصلة منذ عام 1979، متنقّلاً بين تشيكوسلوفاكيا آنذاك وسوريا واليمن وقبرص ويوغسلافيا سابقاً... وصولاً إلى هولندا حيث يقيم منذ منتصف التسعينيات. وخلال ربع القرن الأخير، أصدر عدداً من الكتب القصصية والروايات منها “القيامة” (1984)، ورواية “عشاء المأتم” (1986). ثم انتقل الى مستوى آخر في البحث والتأليف، إذ أصدر عام 1996 ــــ بعد سلسلة من الكتب السياسية ــــ كتاباً بعنوان “الشيطان والعرش ــــ رحلة النبي سليمان إلى اليمن” (دار الريّس). كما أصدر عن الدار نفسها “إرم ذات العماد، البحث عن الجنة” (1999)، و“كبش المحرقة: نموذج مجتمع القوميين العرب” (2000)، ثم “شقيقات قريش” (2001). وقدّم في كتاب “قصة حب في أورشليم” (دار الفرقد، دمشق ـــ 2005)، ترجمة جديدة للنص العبري من نشيد الإنشاد، وروى في الكتاب غرام النبي سليمان بالإلهة العربية سلمى. وعلى صعيد التنظير السياسي أصدر: “الجماهيريات العنيفة ونهاية الدولة الكاريزمية” (دار الأهالي، دمشق ــــ 2005)، و“الخوذة والعمامة” الذي يبحث في موقف المرجعيات الدينية من الاحتلال الأميركي (دار الفرقد ــــ 2006). كما أصدر عن “مركز دراسات الوحدة العربية” في بيروت عام 2007 كتاب “ما بعد الاستشراق، عن الغزو الأمريكي للعراق وعودة الكولونياليات البيضاء”. وأخيراً أصدر كتابين هما “فلسطين المتخيّلة، أرض التوراة في اليمن القديم” ( دار الفكر ــــ دمشق) ويقع في مجلدين من 1300 صفحة، و“يوسف والبئر، أسطورة الوقوع في غرام الضيف” (دار رياض الريّس ــــ بيروت). بعد هذه الرحلة الطويلة، يرى الربيعي أنّ مشروعه ما زال في بدايته، وهو يحتاج إلى جهود استثنائية لإغنائه وتأكيد خواصه العلمية. |