اسعد الغريري: الشعراء الجادون يفتقدون وسيلة الاتصال |
المقاله تحت باب مقالات و حوارات لعل أبرز ما يقف أمام المتابع لكلمات الشاعر العراقي أسعد الغريري، الإحساس اللغوي العالي والمفردات التي تصوغ المشاعر بسلاسة وعذوبة في صورة شعرية تدخل إلى القلب من دون استئذان، لأنها خرجت من مستوى الصدق نفسه.. إحساس يعيد إلى المخيلة صوت مياه «دجلة» تتدفق بعذوبة ونقاء.. والملامح الطيبة لوجوه العراقيين في انتظار بارقة الأمل التي تعيد وجه بلدهم المشرق بالحضارة.
ولأن أسعد نبرة عراقية صادقة.. كان بديهياً التقاؤه مع صوت يغني على «الموجة» الفكرية والإنسانية نفسها.. فانطلق إبداعه مع كاظم الساهر في مجموعة أغاني «سلام عليك»، «سيدة عمري»، «فرشت رمل البحر»، «استعجلت الرحيل»، «أراضي خدودها»..وغيرها.. مع أن أسعد عُرف بين أصدقائه بأنه يعرف كثيرا ويبوح قليلا.. إلا أنه قرر «البوح» بصراحة: * في ظل أكبر محنة تعرض لها بلد عربي في التاريخ المعاصر.. هل ترى للشعر تأثيراً أم أن دوره محدود وهامشي؟ - للأسف أقول إن المُنجز الشعري في هذه المرحلة محدود وأكثر قرباً من الهامشية.. لدينا قيمتان تتصارعان الآن في العراق.. الأولى قيمة «الدولار» في مقابل «المنظومة القيمية»، كلاهما ليس له أن يلتقي مع الآخر.. الدولار لا يلتقي مع منظومة القيم عند الإنسان العراقي، ومن يقبل الرضوخ له حتما ستسقط هذه المنظومة داخله.. هناك من تمسك بالمنظومة راضيا أن يعيش على «الفتات».. تصوُري أن الشاعر الذي لا يستطيع الارتقاء بفكر الإنسان العراقي، ويعطيه حقنة الوعي المطلوب في هذه المرحلة الدقيقة التي يمر بها العراق إما أن يكون «مغفلا»، أو «كاذبا».. للأسف بعضهم عاجز عن هذا الدور، لأنه هو نفسه يفتقد هذا الوعي بدليل تمسّكهم بالخطاب الطائفي البغيض في كتاباتهم. هذا القصور في الخطاب يعود حتى إلى الفترات الماضية.. كنا أكثر الناس علما أن الفتنة الطائفية موجودة وتعيش بيننا، لكنها كانت نائمة، ولم نستطع- كصفوة- كبح جماحها وقتلها في المهد، والآن نسمع الأصوات تلعن من أيقظها ولا نحاسب أنفسنا على تقاعسنا في القضاء عليها مبكرا، خصوصا أنها- في الأساس- «وجود غير موجود».. هي كذبة اخترعناها وسلّمنا بها للأسف. شعراء العراق لديهم منجز إبداعي غزير لكن يفتقدون وسيلة إيصال هذا المنجز، إذ إن المتاح حاليا عبارة عن مجموعة فضائيات مشبوهة، وتصل نسبة الشبهة فيما تعرضه إلى 99%، لو راجعنا على مدى خمسة أعوام ماذا قدّم الفنان العراقي لقضية بلده، أو هل استطاع أن يعكس روح القضية، أو يشير بأصابع الاتهام -صراحة- إلى الدمار الذي أحدثه الاحتلال، هل نجح المثقف العراقي في طرح قضية العراق أمام المحافل الدولية، أو أن يُفعّل هذه القضية باتجاه الدفاع عن قضايا الإنسان العراقي على أقل تقدير؟.. هذه الأسئلة تجيب عن مدى تأثير الشعر وباقي الفنون في هذه المرحلة. لا أستطيع إنكار وجود إشراقات تلتقي مع الهامش أكثر من المحدود. هناك مفردات جديدة فرضت نفسها على الشعر العراقي يندُر وجودها سابقا.. كالحنين إلى الوطن وعذابات الغربة! لا أرى الغربة بهذا المستوى من السوء.. كنت أرى العراق من الداخل، إلا أنني بعدما غادرت أصبحت أراه من الخارج في نظرة أكثر شمولية وأعم، وأطلّ على وطني كما قال الشاعر يوسف الصايغ: أنا لا أنظر من ثقب الباب على وطني بل أنظر من قلبي المثقوب وأفرق بين الغالب والمغلوب ثم إنني أدمنت وعشت كل تفاصيل الغربة منذ الصبا، حين أدّت بي تجربة حب طفولية إلى الانفصال عن أهلي لفترة طويلة، وكانت أول تجربة غربة عشتها، وبعدها بدأت تأسيس مشروع خاص بي-كأسعد الغريري- للغربة وأنا داخل العراق.. حتى على نطاق المحيط الإبداعي.. تواصلت مع الإبداع وليس المبدعين.. كنت أتابع الحادث من دون أن أدخل إلى قلبه. كما أحمد الله على نعمة الخيال التي وهبني إياها.. من دون مبالغة كثيرا ما أكون سائرا في شارع التحرير في القاهرة، وأتخيل للحظات أني أتمشى في شارع السعدون في بغداد.. وأذكر حين كتبت العام 2000 أغنية «سلام عليك»، لم أستحضرها من وجداني الخاص كمشاعر غربة، لكن استلهمت أحاسيس 300 مليون عربي، لأنها كانت مشروع نشيد وطني للعراق.. بعد ثمانية أعوام تغيّرت الحال، بدأت مع كاظم الساهر نرى الأغنية بمنظور آخر، وقررنا إضافة مقطع جديد على الأغنية يمثل مشاعرنا الخاصة- العامة: أصلي لأجلك في كل حين وأمسح عنك غبار السنين لماذا أراك حبيبي حزين وعينيك تقطر دمعا ودم هذه الكلمات أضفت هاجساً ذاتياً على الأغنية، وهو ما ينطبق على باقي الأعمال. لكن لو كانت حاضنتي خارج حدود الوطن الأم- العراق- غير عربية لكان أثر الغربة علي أشدّ وأقسى، لذا اخترت دائما دولاً عربية كحواضن لي لكسر حاجز الغربة، وهو سبب تواجدي في القاهرة. * الصدمات والفوضى غالبا ما تخلق خصائص اجتماعية وفنوناً تعكس ملامحها.. إلى أي مدى ينطبق هذا على بعض ما تعرضه الفضائيات تحت مسمى أغنية عراقية ظلما؟ - هذه قنوات لا تُعنى إلا بالمكاسب التجارية، ولا تضع أدنى اعتبار للمستوى الفني. من أهم مشاريع الاحتلال غير المنظورة، إفساد الإنسان العراقي، لذا نجد أن بعد الاحتلال ظهرت العديد من القنوات التي تعتني بهذا الأمر.. صحيح أن ما تقدمه فقاعات لكني أخشى من بقاء تأثيرها.. على الأقل في ذاكرة الطفل، وهو ما ينطبق على ظواهر أخرى مثل إغراق السوق العراقية بالمخدرات -وكلاهما يعمل على قتل وعي وتذوق الإنسان العراقي- قد ينتهي الاحتلال.. لكن الآثار السلبية ستبقى مدة أطول مما نتوقع، لأنها عند بعضهم أصبحت جزءاً من موروثهم الفكري.. صحيح النخلة العراقية ستبقى شامخة، ولا أخشى من أي شيء عليها.. وهو ما لا يمنع وجود مخاوف من «الحشرات» التي تحاول نخر جذع هذه النخلة، لذا لا أسلط الضوء على الحالات الإيجابية، لأنها كذلك فعلا.. تؤدي دورها -وهو المفترض منها- في هذه المرحلة.. لكني حاليا معنيّ بتشخيص الأمراض والعلل التي أخشى أن تضعف هذه النخلة الشامخة.. فإذا لم نتصد لمثل هذه الإفرازات الاجتماعية والفنية قد تستفحل.. لعل أقرب مثال لما أعنيه.. أني لا أخشى على الإسلام كدين، لأن الله سبحانه سيحفظه.. إنما أخشى من المذهبيين الذين لا دين لهم.. وهو ما ينطبق على فنوننا وثقافتنا. * الصداقة التي ربطتك بكاظم الساهر هل تجعل من الكتابة له المنفذ المفضّل لإطلاق كلماتك؟ - حتى لو كان الأمر «ربما» كذلك.. هذا صحيح.. كاظم يمتاز بخصائص إنسانية أفتقدها عند الكثير من المطربين، إضافة إلى أني حين أتعامل معه في نص شعري معين، فأنا أتعامل مع شاعر من طراز آخر اسمه كاظم الساهر، ما يسهّل «كيمياء» التقائي معه على الصعيد الإبداعي والإنساني، ويجسر الهوة بيننا.. وهو ما لا يتحقق مع الآخرين.. بصراحة شديدة.. هناك العديد من المطربين يقفون على طرف النقيض مع الخصائص التي يتمتع بها كاظم يريدون أن أقف على أبوابهم.. وهو ما يتقاطع مع نظرتي إلى قيمة الكلمة التي أكتبها وإلى نفسي.. لا أجيد اللهاث وراء المطربين لعرض عملي عليهم، فنظرتي للشاعر أنه أهم من أي سياسي(شكسبير مثلا أهم من أي وزير في ذلك الوقت بدليل أنه بقي في ذاكرة العالم من دون سواه من ساسة عصره). للأسف اختلفت سياقات العمل الفني.. بدلا من الوضع الطبيعي أن يسعى المطرب وراء الشاعر.. انقلب الوضع إلى العكس. هذا لا يمنع احتفاظي بعلاقات طيبة مع العديد من المطربين العرب مثل رباب وعبدالرب إدريس وغيرهما، لكن إبداعاتهم أصبحت محدودة بعد أن حوصروا بالأغاني المبتذلة. * تعاونت مع الفنان عبدالله الرويشد في أغنية «علمني عليك» العام 1982، ولم يكتمل التعاون؟! - ربطتني علاقة زمالة رائعة مع «أبو خالد» منذ هذه الأغنية التي لحّنها فاروق هلال، ولم تنقطع صلتنا على مدى أعوام، ولا الحديث عن مشاريع مستقبلية للتعاون، ولا أدري حتى الآن سبب انقطاع هذه الصلة الجميلة، لذا أتمنى طرح هذا السؤال على «أبو خالد» شخصيا، فنحن -المثقفين والفنانين- علينا أن نصلح ذات بيننا. *لك رأي قاسٍ عن الكتابة باللهجة العامية رغم أنها توسع قاعدة الجمهور الذي قد يستوعبها أكثر من الفصحى! -أنا طرحت وجهة نظري القائمة أولا على إنصاف الموروث الشعبي إذ اعتبرته واقعا معاشا ومُنجزاً مهماً لا يمكن الاستغناء عنه مع إشارة مني إلى حقيقة لا يرقى لها الشك، وهي أن الشعر الشعبي خرج من رحم التخلف، بدليل أن العرب عندما كانوا أمراء الدنيا لم يكن للشعر الشعبي صوت مسموع، وأنا شخصيا لا أزال أتابع هذا الموضوع على رغم اعتراضاتي عليه اعترافا مني بدور الشعر الشعبي. * ما آخر أخبار فرقة الفن الثامن التي أسستها؟ - الفرقة تأسست في سورية، وشاركت بنجاح في العديد من الملتقيات الثقافية.. فكرتها قامت على تجسيد العلاقة بين المرأة والرجل بالشكل الذي ينبغي أن نطمح إليه.. وجهة النظر التي تبنتها الفرقة أن العالم الذي يتكون من تآلف المرأة والرجل بينما العلاقة بينهما شابها الكثير من الظلم والإجحاف والقهر.. أردنا من خلال هذه الفرقة أن نؤسس لشكل العلاقة بينهما كما ينبغي في جميع مناحي الحياة.. وجعلنا من الحب الخيط الرابط بينهما، لأنه هو الذي يجب أن يبقى.. طرحنا أشكالاً جديدة لمفردات الحب.. اعتمدته الفرقة في نتاجها الغنائي والموسيقي. نشاط الفرقة تأجل لفترة لكن حاليا أنا بصدد إعادتها مع الموسيقي السوري غسان اليوسف وزوجته عازفة العود دينا عبدالحميد، لكننا مازلنا نبحث عن أصوات تنقل رسالتنا. * لم تتعاون مع أصوات مصرية على رغم إقامتك مدة في القاهرة؟
- السبب هو حالة الابتذال والتردي الغالبة على المنتج الغنائي التي أضعفت قدرة وحماس الأصوات الجيدة على الإخلاص للأغنية.. شعرا وتلحينا وأداء.. وهو جزء من معاناتي، ما جعلني أصل إلى مرحلة التفكير -أحياناً- في اعتزال كتابة الأغاني والتوجه إلى كتابة بحوث دراسية، كما في كتبي «أورام في الجسد الإسلامي» و«الأزمة». * نلمس بعض جوانب الحدة والصرامة في آرائك تتناقض مع الرومانسية المفرطة لكلماتك التي يتغنّى بها كاظم الساهر؟! - صحيح.. أعترف أن شخصيتي كشاعر تختلف تماما عن شخصية الإنسان.. في الشعر أنا قاموس للغزل، وفي الحالات الوجدانية التي تملي علي أن أجسد موقفاً شعرياً أتحول سريعا إلى أجمل عاشق في الكون، وهذه الصرامة في ملامحي وآرائي تمثل شكلي الخارجي فقط، إذ سرعان ما تذوب وتتهاوى حين أدخل في حالة الشعر. |