المقاله تحت باب في السياسة في
15/09/2008 06:00 AM GMT
ظلت اسرائيل لزمن طويل وطنا متخيلا في ذهن اليهود، ورغم شتاتهم التاريخي الطويل على اتساع جغرافيا العالمين القديم والجديد، الا انهم ظلوا يورثون ابناءهم هذا الحلم بالعودة الى ارض الميعاد وفعلوا ما لا يمكن تصوره من اجل تحقيق هذا الحلم، واليوم اسرائيل وطن قائم رضينا بذلك ام لا، ولم يعد احد من الاسرائيليين يفكر به كوطن متخيل، لم تعد هناك حاجة لتخيل ما هو موجود. اما عندنا في العراق فان القصة مختلفة، نحن لدينا وطن موجود اصلا، الا اننا دائما اخترنا استبداله بوطن موهوم، طالما اخترنا ان نتخيل عراقا آخر غير ذلك الذي لدينا، قاومنا كل امكانيات القبول بوطن قائم وله جغرافيا وتاريخ، حتى وصلنا الى مرحلة صار بالامكان معها ألا يعود هذا الوطن قائما، وجزء كبير من شعبنا يعيش شتاتا بدأ منذ عقود، وتضاعف منذ سنوات، واخذ اهل الشتات يورثون ابناءهم حلم وطن اسمه العراق نصر على تجاهل وجوده حتى اخذت خطوطه وحدوده تتلاشى تدريجيا. القصة ليست وليدة اليوم، بل هي نتاج تآمر الجغرافيا والتاريخ اللذين انتجا العراق وانتجا معه الشخصية العراقية. مأساة العراق ان اهله لا يريدون الاعتراف به كما هو ويسعون دائما الى الهرب من حقيقته بحثا عن عراق بديل، ذلك الذي يناسب اهواءهم وميولهم وخيالهم. حقيقتان جعلتا الحال كذلك، الاولى هي الجغرافيا فحيث ان العراق اليوم هو ذلك الامتداد الذي شهد على ارضه وقرب حدوده صعود وافول وصراع كبرى الامبراطوريات التي خلفت كلا منها اثرا على ترابنا وفي سحنات وجوهنا ولغتنا وعاداتنا، العراق امتداد بري سهل يمكن للجميع دخوله بيسر من الميثانيين مرورا بالساسانيين والمغول وانتهاء بـ«الانتحاريين»، ولانه كذلك يمكن للجميع ان يستوطنوه وان يسهموا في انتاج تاريخه كما في صراع الهوية الذي مازال اكبر تحدياته. الحقيقة الثانية هي ان التاريخ صنع العراق اكثر مما فعلت الجغرافيا كما انه صنع مع ذلك ازمة العراق، اذ يصعب ان تجد بلدا في العالم يحمل من اثقال التاريخ ما يحمله العراق الذي فيه وجدت اول حضارة واخترعت الكتابة وكتبت اقدم الاساطير عن الانسان الباحث عن اليوتوبيا والتي ظلت بدورها قرينة لفكر العراقي الذي كلما اوغل سعيا وراء النموذج الامثل صار اكثر بعدا عنه، هكذا صنعت التراجيديا العراقية من سعي الانسان نحو ما يتخيله ومن سطوة الواقع وهو صراع تاريخي كرر نفسه مرارا فانتج شواخص في عقل العراقيين كما فعلت كربلاء وسقوط بغداد على يد المغول والصراع العثماني الفارسي والاحتلال البريطاني وما تلاه من احداث جسام صنعتها الشخصية العراقية كما هي اسهمت في صنع تلك الشخصية. تواطؤ التاريخ والجغرافيا هو الذي انتج الحالة العراقية ونزوعها نحو استبدال الوطن الموجود بالوطن الموهوم، ليست هناك ارض استعمرتها الايديولوجيا ومازالت كما العراق، الايديولوجيا هي منظومة المعايير والقيم والافكار التي يعتنقها الانسان معتقدا انها الصواب وما سواها هو الخطأ، وهذا التعريف يجعلنا نقبل حقيقة ان كل انواع التفكير هي بشكل او اخر ايديولوجية، وهذا صحيح، لكنها في الحالة العراقية تتحول الى نزوع نحو عبادة الفكرة ونحو اعتناقها بلا مساومة لانه يساوق نزوع العراقيين نحو عدم قبول واقعهم وماهيتهم، اي عراقي لابد ان يغدو ايديولوجيا لحظة سعيه الى جواب عن سر التراجيديا الطويلة لما بين النهرين. الايديولوجيا هي استبدال للواقع بالمتخيل، هي تآمر على الواقع سعيا لتحقيق المثال، لذلك ظهرت على هذا الارض اهم المدارس الكلامية واولى النزعات الفلسفية الاسلامية كما اولى الثورات السياسية، ولكن حتى مع التحولات التي شهدتها التركيبة الديمغرافية العراقية وهجرة اقوام جديدة منها واليها ظل اي اندماج في المجتمع مرهون باعتناق صيغة ايديولوجية دينية او علمانية وبالتالي بقبول الانخراط في الصراع اللامنتهي حول ما هو العراق واين تبدأ وتنتهي حدوده وما هي هويته ودوره. عندما تأسس العراق الحديث بحدوده الحالية عجز سكانه ان يجمعوا على ملك فتم استجلاب ملك لهم من الحجاز، وعندما لم تعد الملكية قادرة على احتواء الجموح العراقي نحو الوطن الموهوم اصبحت ساحتنا السياسية نزاعا بين شيوعيين يسعون لثورة البروليتاريا «الاممية» وقوميين يريدون الانتقال من «القطر» الى «الامة العربية» وكلا التيارين لم يكن يرى في العراق حقيقة راسخة او وطنا كافيا لارضاء غرورهما الايديولوجي. ظل العراق في ظل دولة البعث مشروعا مؤجلا، محطة باتجاه الوحدة العربية وتم بشكل لا مثيل له تجاهل تاريخ هذا البلد وحضارته حتى ان الجامعات والمدارس الغربية تدرس التاريخ القديم لبلاد الرافدين اكثر مما تفعل الجامعات والمدارس العراقية التي يجهل معظم طلبتها معنى كلمة «ميزوبوتوميا»، اما التيار القومي الكردي فقد رأى في العراق محطة اجبارية ووطنا انتقاليا لا حقيقيا بانتظار توفر الظروف الموضوعية لنشوء دولة كردستان. ثم ظهرت الاحزاب الاسلامية الشيعية والسنية كل يحمل مشروعه الخاص للـ«أمة» الاسلامية حيث العراق ليس سوى مصر واحد منها، وعندما تصارعت الايديولوجيتان الشيعية والسنية اصبح العراق مجرد ميدان لصراعهما الممتد ما وراء حدودهما والذي يتغذى من غير تاريخ هذه الارض. العراق اليوم هو بلد لديه عَلَم لا علاقة له بتاريخه وحضارته ونشيد وطني لا يحفظه اغلب ابنائه ومناهج مدرسية تدرس كل شيء الا تاريخه وايديولوجيات تتصارع حول هويته وابناء يحمل كل منهم في ذهنه وطنا متخيلا لانه ببساطة لا يريد القبول بالوطن القائم مستسهلا التنازل عنه على التنازل عن اوهامه الايديولوجية، الكثير من العراقيين يتحدثون بفخر عن تاريخ بلدهم لكن احدا منهم لا يستطيع ان يتحدث بنفس الفخر عن حاضره، العراقيون يخرجون احتفالا اذا فاز فريقهم الوطني خارج ارضهم لكنهم يعجزون عن الانتصار لبعضهم على ارضهم، الايديولوجيا خربت هذا البلد، واصرارنا على الوهم سيجعلنا يوما ما لا نملك شيئا غيره.
|