كلمة وفاء متأخرة لصديقي العراقي الارمني الرائع سركيس بدروسيان |
المقاله تحت باب في السياسة يتداول العراقيون عبر ( مجاميع النت ) منذ اسابيع كلمة كتبها السيد واثق الغضنفري عن المهندس العراقي الارمني مهران آكوب كريكور (1) الذي توفى في العراق وحيدا مريضا في بيته المتواضع مصرا على عراقيته وعلى منح وطنه كل مايملكه من خبرة وكفاءة في مجال تخصصه الهندسي ، رغم كل فرص الهجرة التي اتيحت له كما يروي الكاتب عنه فأخته الكندية –العراقية حاولت معه وقطعت خطوات متقدمة لسحبه ولكنه اصر على البقاء في العراق متمسكا بوطنه متشبثا بأرضه ، مهران لم يكن العراقي الارمني الوحيد الذي عشق عراقه بهذه الصورة فأغلب أقرانه من الارمن الذين عرفتهم على مدى سنوات الستينات والسبعينات والثمانيات كانوا متمسكين بعراقيتهم وقدموا للعراق الكثير في مجالات السياسة والثقافة والاقتصاد ، ومنهم المناضل العمالي الصلب آرا خاجادور و الموسيقار العبقري آرام يابوخيان والفنانة القديرة آزادوهي صموئيل والمبدعة الراحلة بياتريس اوهانسيان (2) .
في الخمسينات تمركز العراقيون الارمن واغلبهم تعامل مع التيارات الديمقراطية في منطقة ( كمب الارمن ) و ( كمب سارة) ثم توزعوا على مناطق بغداد بعد تمددها واتساعها أفقيا ، مشاهد كثيرة اعادتني لها كلمة السيد الغضنفري.....الصور التي كانت تتصدر محل والد مهران المصور الفوتغرافي آكوب الذي عشق الموصل وصور مرافقها الطبيعة بالاسود والابيض صورا تنبض بالحياة مازلت اتذكرها بعد مرور نصف قرن ، كما اتذكر الفنان المبدع آرشاك وصوره التي تتصدر محله في شارع الرشيد وجان صاحب ستوديو بابل ( مصور الرؤساء ) والمصور الرائد أمري سليم (3) ، واولئك الارمن الطيبين الذين كانوا يمتلكون ( محلات صغيرة ) في شارع الرشيد منطقة (المربعة ) بجانبfسينما ( علاء الدين – برودواي) يبيعون فيها ( اجود انواع الباسطرمة ) وانواعا من اللبن (الشنينة) وقطع الكيك المدورة ألمزينة بالكشمش ، كانوا يقابلونك ويودعونك بابتسامة متميزة واذا ماحدثتهم عن بغداد يروون لك من تاريخهم مالا تعرفه مهما كانت اهتماماتك وقراءآتك ، وقبل هذا وذاك صديقي الارمني الرائع سركيس بدروسيان الذي انقطعت اخبار اسرته عني منذ وفاته بنوبة قلبية مفاجئة في الثمانينات ، كان سركيس يبدأحواراته ويختتمها مع ألآخرين بعبارة مازات اصداؤها تتردد في اذني (انا عراقي أرمني وليس أرمني عراقي ) ويجب أن يكون هذا مفهوما للجميع ويستطرد.. اجدادي عاشوا في بابل وعاصروا عراق نبوخذنصر الذهبي ، وهكذا كان سركيس طيلة سنوات معرفتي به لم يغيره موقف السطة منه (4) ، ولم يغيره اضطراره لمشاركة شخص آخر لان تاريخه كان يمنع السلطة من منحه اجازة تاسيس مطبعة !! (كل هذا أكتشفته متأخرا ) ..... ألتقيت سركيس بدروسيان أول مرة نهاية الستينات حين عرفني عليه صديق مهتم بشوؤن الطباعة وزرت مطبعته (ألمؤسسة العراقية) وكانت تقع في منطقة القصر الابيض في احد الشوارع الفرعية التي تؤدي الى مديرية الامن العامة ( فيما بعد اجبر سركيس وشريكه على الانتقال فقد اغلقت تلك الفروع وأستخدمت دورها من قبل الامن ) ، تكررت زياراتي لسركيس واتفقت معه على طبع غلاف مجلة ( عالم الصناعة) التي كنا نطبع صفحاتها الداخلية في ( مطبعة الزمان) التي يملكها المرحوم توفيق السمعاني وفعلا انجز العمل بصورة رائعة جعلتنا نواصل العمل معه ، وفي احدى زياراتي للمطبعة وكنت اذهب سيرا على الاقدام كنت احمل معي كتابا عن تاريخ حزب الاستقلال اشتريته من مكتبة في الباب الشرقي سألني سركيس :هل قرأت هذا الكتاب ؟ فاخبرته بانني اشتريته توا ولمست منه رغبة بقراءته فاخبرته بانني ساتيه به في الاسبوع القادم وهكذا كان ، وكانت هي البداية التي أكتشفت فيها سركيس قارئا مثقفا ومستوعبا لما يقرأه فقد ناقشني في جوانب هامة من تاريخ الحزب المذكور دون ان يشير لي الى اي اهتمام شخصي سابق له بالعمل الحزبي ، على مدى الشهور التالية تبادلت وسركيس بعض الكتب السياسية المتوفرة عن تاريخ العراق المعاصر واكتشفت فيه ميولا يسارية وتقدمية فقررت ان أغامر !! سالته مرة ان كان لديه الاستعداد لقراءة صحيفة شيوعية سرية أستطيع أن اؤمنها له فرحب بذلك وقدمت له بعد ايام نسخة من (طريق الشعب ) السرية فاعطاني (خمسة دنانير) ثمنا لها وحين قدمتها لعبدالله هبالة (5) الذي كان يورد لي الجريدة مع تبرعاتي فوجيء بالامر فلم يسبق لي ان قدمت له مثل هذا المبلغ وحدثته عن صديق جديد فطلب مني التعامل معه بحذر وتوطدت صداقتي مع سركيس وكنا نلتقي بانتظام خارج العمل نذهب الى ناد قريب نحتسي البيرة ونتحاور في مختلف شوؤن الحياة ، حتى أعلن قيام الجبهة الوطنية بين حزب البعث الحاكم والشيوعيين وانتقلت للعمل في طريق الشعب العلنية حيث بدأ سركيس يقدم لي ملاحظاته على الجريدة وطباعتها باستمرار وصودف ان تواعدنا مع صديق ثالث على لقاء مسائي واتفقنا ان يأتي سركيس لاصطحابي من ( مطبعة الرواد ) حيث اداوم مساء وكانت لاتبعد كثيرا عن مطبعته التي لم تكن قد انتقلت بعد ، اخبرني موظف الاستعلامات ( ابو سرجون) ان شخصا اسمه سركيس ينتظرني في الاستعلامات فهبطت الى الاسفل لاصطحبه لغرفتي التي كنت اشغلها مع الفنان محمود حمد والفنان مصطفى احمد وكان يفصل بيننا وبين غرفة رئيس التحرير الخفر نصف حائط يعلوه حاجز زجاجي ، جلس سركيس بانتظار ان انجز عملي ونخرج معا وفوجئت بالصديق عبدالرزاق الصافي يدخل غرفتنا ويحتضن سركيس ويغمره بالقبلات ، معرفة بدت لي عميقة وبعيدة لكنني حرصت على عدم الاستفسار من سركيس بعد خروجنا عن علاقته بالصافي منتظرا ان يخبرني هو ومرت الامسية وتفرقنا بعد سهرة حافلة بالمناقشات السياسية ، وفوجئت بعد أيام باتصال من المرحوم ( أبو حسان ) ثابت حبيب العاني يطلبني في مكتبه بمقر الحزب وذهبت الى هناك لافاجأ مرة اخرى فألرجل يسالني عن سركيس ورقم هاتفه واسرته وعلمت بان الصافي قد أخبره بلقاءه به ،وبعد لقائي بابي حسان بيومين وكان في ذهني تساؤلا واحدا هو مالحكاية؟ اتصل سركيس ليدعوني للعشاء في مطعم يملكه صديق له ، وكان العشاء يضمه مع ابوحسان ، في تلك الامسية كان سركيس يراقب نظراتي العاتبة ويبتسم وانا اسمع الراحل ( ابو حسان ) يستذكر معه حكاية تسميته ب ( سركيس العاني ) ايام نفيه الى مدينة عانة مع عدد من الشيوعيين في العهد الملكي ،بينما رويت انا لابي حسان في ختام السهرة (المقلب) الذي شربته من سركيس وحكاية التبرعات والشك الذي ملاْ قلب الرفيق عبدالله هبالة.... مضت السنوات وانهارت الجبهة وخرج من خرج من الشيوعيين وبقي من بقي وشنت السلطة حملة توقيفات للعاملين في الجريدة وأجبرنا على توقيع تعهد بعدم ممارسة العمل السياسي ومنعنا من السفر بقرار من الرئاسة، وعدنا الى اعمالنا وعادت لقاءآتنا سركيس وانا تنتظم من جديد ولكن في شقتي بمنطقة الكرادة أو في المطبعة فقد كان الجلوس في مكان عام قضية غير واردة لنا نحن الاثنين معا ، كانت مطبعته ( ألمؤسسة العراقية ) قد استقرت في ( الكرادة داخل) منطقة البو جمعة في حين كنت اسكن في منطقة (السبع قصور) على بعد مئات الامتار من المطبعة ، في تلك المرحلة كان سركيس يرفض كل مقترحات اولاده للهجرة كما كان يحدثني حين نلتقي ، وتمكنت بعد عدة سنوات من المنع وبمساعدة صديقي الصحفي الراحل شاكر علي التكريتي (6) من رفع منع السفر وقررت السفر الى براغ لزيارة شقيقي بشار الذي كان يدرس هناك زرت سركيس في المطبعة واخبرته بالامر ، وحين علم بانني ساسافر عن طريق عبر النمسا سحب ورقة صغيرة ثم كتب رسالة من عدة سطور بحروف لم افهمها علمت بانها باللغة الارمنية واعطاني رقم هاتف في النمسا واخبرني بانه لشقيقه صموئيل الذي يعيش هناك منذ عام 1964 ، وغادرت فعلا الى النمسا واتصلت في اليوم التالي لوصولي وكانت معي زوجتي وطفلي الوحيد الذي يبلغ من العمر ست سنوات وجاء صموئيل الى الفندق ولم اكن اتوقع منه اكثر من دعوة لشرب فنجان قهوة فالرجل يعيش في الغرب منذ سنوات طويلة ولابد انه تاثر بمحيطه سلمته رسالة سركيس قرأها بسرعة ثم التفت لزوجتي ولي قائلا : أجلبوا حقائبكم ؟ ساخذكم الى شقتي حاولنا ان نعتذر فأبلغنا بانه يملك شقة فارغة وأصر على ذلك وانتقلنا معه في سيارته في الطريق قال لي : سركيس كتب لي انك اخوه وهذا يعني انك اخي وصلنا الى الشقة و حين دخلتها أحسست بانني انتقلت رأسا من اوربا الى بغداد فكل مافي الشقة يوحي لك بذلك الفرش الصور على الجدران المطبخ قال صموئيل موضحا :هذه الشقة اثثتها من بغداد عدا المقاعد الكبيرة والاجهزة الكهربائية فأمي وشقيقتي يهربون اليها من حر بغداد كل عام ويشعرون بالغربة بسرعة فاردت ان أخلق لهم الاجواء التي لايستطيعون العيش بعيدا عنها، ،كان مطبخ الشقة مجهزا بكل انواع البهارات والتوابل ومعدات الطبخ التي يستخدمها العراقيون ( قواري الشاي والاستكانات ) و ( السماور) . في اليوم التالي دعانا للعشاء معا وكانت سهرة حدثني فيها عن تفاصيل حياته السياسية فقد كان هو الاخر مناضلا عماليا واعتقل بعد انقلاب 8شباط وترك العراق بعد خروجه من المعتقل ليستقر في النمسا كان صوئيل خلال السهرة لاينفك عن سؤالي عن بغداد وعن ( الكمب) وعن ( ابو نؤآس ) ويروي تفاصيل صغيرة مازالت في ذاكرته عن ( الوثبة) وعن تظاهرات الاحتجاج على العدوان الثلاثي رغم كل سنوات الغربة كان حديثه عن العراق وبغداد مليئا بالدف هكذا هم العراقيون الارمن ... بعد اسبوع حرص صوئيل على ان يصطحبنا الى محطة القطار وقبل ان يودعني حملني تحياته المفتوحة : سلم لي على من تراه من الرفاق من ابناء جيلي سلم على عبدالرزاق الصافي و حسين سلطان وحميد بخش من تراه منهم اسالهم متى سنرى الوطن الحر والشعب السعيد ؟ متى سنعود لبغداد .؟.. اليوم وانا اتسلم مقالة الغضنفري ( وليكن مهران مثلا لنا ) من أكثر من جهة اتذكر أول مرة شاهدت فيها الفنانة الكبيرة آزادوهي صموئيل وهي تمثل مشاهد من فلم عراقي لم يكتب له النجاح اسمه ( حكمة الدنيا) اخرجه العراقي الارمني سيمون مهران الذي قضى عمره امام الكاميرا .....اتذكر همزاز (7) الذي كان يسميه ياس علي الناصر ( حمزة ) وهو ينجز مونتاج فلم ( طريق الظلام ) ويعلوا صوته ( منو هذا الهمار اللي صور هزي المشاهد ) وحين يكذبون عليه قائلين نهاد علي يجيبهم ( ابدا نهاد تفتهم هذا شغل واحد همار !! ) اتذكر......واتذكر ... واتذكر ......وأتساءل هل يمتد بنا العمر ونعود لعراق محرر من الاحتلال ومن التخلف الطائفي والعنصري ، عراق ترتفع فيه النصب للشرفاء والمبدعين ...عراق نرى فيه تمثالا للطبيب العراقي الارمني اوهانيس مراديان اول من ادخل لقاح الجدري للبلد وللدكتورة آنة ستيان اول طبيبة عراقية هل نعيش لنرى شوارع تحمل اسماء هاكوب جوبانيان احد ابرز مؤسسي الكلية الطبية وللمبدعين العراقيين الارمن لازادوهي وآرام وبياتريس ولكل العراقيين المبدعين . هوامش : (1) نص مقالة السيد واثق الغضنفري التي يتداولها العراقيون في الوطن والمهاجر على النت : وليكن مهران مثلاَ لنا كتابات- واثق الغضنفري توفي قبل أيام المهندس الارمني ( مهران اكوب كريكور) والذي كان موظفا في دائرة صحة نينوى ومن مواليد 1951 ووالده المصور المشهور –اكوب- توفي وحيدا مريضا في بيته المتواضع وهذا خبر عادي جدا فكل |