المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
29/08/2008 06:00 AM GMT
بعيدا عن الاتهامات السهلة التي أتعبتنا جميعاً ولا إنصاف فيها، أذكر أن صديقاً كتب قبل سنوات أن الناقد الفاضل عبد الله الغذامي قد سرق أفكاره. وقد وجد البعض نفسه، لسبب ما، مصطفاً جواره حينها ، قبل أن نكتب هذا العام في مجلة "شعريات" فقرة مماثلة نودّ نقلها للقراء الكرام قبل المضي بالكلمة الحالية: " منذ أوائل سنوات التسعينيات تبلورتْ، عبر أقانيم ثقافية عربية مختلفة، تقف مجلة "الكاتبة" (1993-1995) على رأسها، جملة من المصطلحات أي المفاهيم الجديدة الخاصة بالنسوية، كتابةً وترجمةً. في نيّة حسنة متطوّرة لمنح قضية تحرر المرأة جرعة جديدة أقل خفراً، واستكتاب عدد كبير من الكاتبات والكتاب العرب على حد سواء من أجل وضع القضية من جديد على بساط البحث ضمن مفهومات ومصطلحات محايثة، من بينها (الإيروتيكية) و(النسوية) و(الفحولة) و(الذكورة) وما إلى ذلك، نقداً وإيضاحاً وإبداعاً.
لقد وقع تداول تلك المصطلحات فيما بعد وجرى استثمارها أوسع استثمار، إما عبر دُرْجة (موضة) تفرِّغ الكلام من معناه، أو عبر كتابةٍ ثقافيةٍ متخصصة لم تشر البتة لاحقاً إلى دينها لتلك المجلة وتقف على رأسها كتابات عبد الله الغذامي عن الموضوع. كتاباته عن الإيروتيكية والفحولة وما إلى ذلك مما سيطوّره منهجياً، هي مثال بارع على الاغتراف المباشر المتغطي بلهجة أكاديمية سمح بها استقراره أستاذاً جامعياً، وانفراط عقد المشرفين والمتحلقين من حول مجلة (الكاتبة) في كل مكان" انتهى. دقة التواريخ في الفقرة لا تدع مجالا للشك بمعطياتها ويمكن العودة لأعداد المجلة للتأكد من الفكرة، وهو أمر لا يعني أن منجزات الأستاذ الفاضل الغذامي تنقصها الأصالة: إنها تعني فحسب أن أفكارا كثيرة مما يُحسب له قد استلهمتْ من هنا وهناك من مثقفين عراقيين وسوريين وعرباً آخرين ممن لم يسمح لهم الشتات الجغرافي ومنغصاته اليومية بالانحناء ملياُ لتطوير أفكارهم كما طوَّر الغذامي المعطيات والمفاهيم التي استقاها منهم ومن غيرهم بالطبع. عندما دخل الانترنيت فجأة إلى العراق على نطاق واسع، كان يمكن ملاحظة أن غياب تقاليد "النشر الإلكتروني" والظن بأن المنشور على النيت مباحً للجميع، ظهرت مرة أخرى سرقات الأفكار صارخة قبل أن تهدأ مؤخراً. لقد شهدنا- وما زلنا- أعادة صياغة لأفكار ومفهومات واجتهادات شخصية واشتقاقات لغوية ومفهومية خاصة بمؤلفيها، من دون عزوها لهم البتة. إن الأمثلة في هذا المجال كثيرة ولا أحدَ منا براغبٍ قولها لإبقاء اللحُمْة والمحبة فيما بيننا. إنها تقع في غير المرغوب بإثارته علناً وما أكثره. بعدما كان الاستشهاد بالمراجع والمؤلفين أمراً دالاً على النبل وعلو الهمة والرصانة والخلق الرفيع، لم يعد "أحدٌ أحسن من أحدٍ" وغدت الرطانة قاعدة من بين القواعد الثقافية. إن الفوضى عارمة في هذا المجال اليوم في العالم العربي والعراق على وجه الخصوص. أيتعلق الأمر بهذا التناص الواقع عفو الخاطر، أم يتعلق بلصوصية صافية، أي بما أسماه صديق مغربي طريف المعشر "بالتلاصّ"؟. في غالب الظن بالتلاصّ واسع الانتشار اللحظة. لنلاحظ أن المثقف المغربي الكريم قد اشتق مفردة (التلاص) لكي تعبّر عن سرقةٍ بلبوس البراءة. فما يقع اليوم هو إعادة صياغة الأفكار المسروقة بحيث تبدو محض إبداع شخصي ولا تقدِّم أي دليل جرمي عليها، حيث لا أحدَ سيقول شيئا هنا، وعليه هو نفسه البرهان على "ادعائه"، ليظهر للملأ في نهاية المطاف بهيئة يرثى لها. القائمون بعملية "التلاص" يدركون أن البرهان على "تلاصهم" يحتاج إلى أشياء كثيرة غير متيسرة حالياً: الوقت الكافي والإذن الصاغية ودقة الانتباه المتناهية للتفاصيل المرهفة، وهي كلها تنقص الثقافة العربية والعراقية اليوم التي هي في حالة لهاث مستمر بسبب متغيرات الواقع من جهة، ومن جهة أخرى بسبب دخول تقنية النشر الإلكتروني المُعاش من دون ضوابط. سيكون التلاص لعبة سهلة إلى حين يُدْرِكُ الجميع أن اللصوص يمكن أن يمتدوا لأعمالهم هم أنفسهم، وأن لا مجال بعد للعبة مثلها. لن يتوقع امرؤ حاذق من أساتذة جامعيين في علوم الأدب والفن التشكيلي في السعودية والكوفة وأكاديميات الفنون مثلاً، أن يسرقوا بصراحة وسذاجة. الأمر أكثر تعقيداً: ما يُستلهم هو (الفكرة الأولية) المثيرة المستقاة من هنا وهناك والتي يقع طمر مصدرها عبر ركام من الاستشهادات من مصادر أجنبية (مع الإشارة لها لمزيد من الطمس) والتحليلات الإضافية المطوّلة والاستطرادات وغير ذلك من محاسن التزوير. الصحفيون الثقافيون أقل براعة وهم يستعيدون أحياناً محض استعادة الأفكار المُستوحاة من هنا وهناك. نحن دائما أمام الظاهرة المؤسفة عينها. لنقل بوضوح إن الفكرة الأولية الأصيلة ليست حقا مُباحاً للجميع لأنها نتاج مؤلف محدّد. بعيداً عن التباسات (الفكر) وقريباً من (الشعر) يغدو البرهان على التلاص يقيناً. هناك الكثير من "التناص" الأدبي الذي شغل النقاد القدامى والباحثون الجدد، على أن هناك الكثير المفرط من "التلاص" على مستوى الاستعارة والصورة الشعرية في قصيدة النثر المحلية الراهنة، بحيث يمكننا الحديث عن إعادة كتابة مستمرة لنص افتراضي يُعتبر جيدا والاغتراف منه دون حساب ورقابة داخلية. نفترض أن ذلك النص هو من تأليف شاعر محدّد، لأنه لا يمكن أن يكون وحياً موحى به.
|