المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
21/08/2008 06:00 AM GMT
كتبَ الفقيد العزيز بُعيد خروجه من العمليّة الجراحيّة الثانية التي أُجريت لقلبه في ١٩٩٨ قصيدته الكبرى الشهيرة "جداريّة محمود درويش"، التي صدرت في .١٩٩٩ وقُبَيل خضوعه للعملية الجراحيّة الثالثة التي ستودي بحياته نشرت "القدس العربيّ" في الثالث من تموز/يوليو المنصرم قصيدته الكبرى "لاعب النّرد" التي يمكن اعتبارها بمثابة وصيّته الشعريّة. كلتا القصيدتين تشكّلان بياناً بليغاً عن فلسفته في الحياة وفهمه الخاصّ للإبداع الشعريّ. ولئن كانت الأولى تحمل لهجة العائد من الموت والثانية تنطق بهواجس الذّاهب إلى مقابلته، فمع ذلك لا يخفى على القارئ ما فيهما من انتصار للحياة، بالمعنَيين الاثنين للتّعبير. ثمّة في بنية الإضافة اللغويّة، التي يمكن أن تتحقّق في العربيّة عبر الإضافة المباشرة (»انتصار الحياة«) أو بتوسّل الجارّ والمجرور (»انتصار للحياة«)، أقول ثمّة لبس حيويّ بالغ الثّراء طالما كان يحبّذه، عبر صيغتيه الفرنسيّة والإنجليزيّة، عاشق للحياة وراحل مبكّر آخر هو الفيلسوف جاك دريدا. إنّه، أوّلاً، انتصار الفنّان لا على أعداء فعليّين أو افتراضيّين في ما يشبه خطاباً احترابيّاً (وما أكثر الخطابات الاحترابيّة في هذا العالَم، وفي عالَم الشعراء بخاصّة؟)، بل هو انتصار للحياة بمعنى التشيّع لها ضدّ كلّ من يريد أن يلغي في الكائن محبّة الحياة وقوّة الفرح الحيّة. وهو، ثانياً، انتصار للحياة بمعنى انتصارها هي نفسها على كلّ ما يناوئها ويأتي لاستئصالها بعمل مدروس ومنظَّم أو بفعل »خبطة« مفاجئة. قبل أن أطرح شواهد دالّة على هذا الانتصار للحياة في شعر درويش، حتّى في المنقلبات الخطيرة التي تصوّره عائداً من الموت أو ذاهباً إليه، أودّ الإعراب عن الفكرة التالية: قد تدعونا قراءة متأنيّة لآثار الشّاعر إلى إعادة النّظر في تصوّرات خطيرة وخاطئة، خطيرة بقدر ما هي خاطئة، لشعره. فخلا بعض القصائد المبكّرة من قبيل »بطاقة هويّة« (المعروفة ببيتها الأوّل القائل »سجّلْ أنا عربيّ«)، لا شكّ في أنّ ثمّة مجازفة كبيرة، بل خطلاً كبيراً في اختزال شعر درويش إلى »شعر مقاومة« أو إلى »شعر نضاليّ« بالمعنى الضيّق هو أيضاً والاختزاليّ المعطى لهذا النمط من الشّعر. لا أحد اختزلَ إلى مثْل هذا النّمط عمل باول تسيلان المكرّس في أغلبه لِندْب ضحايا غرف الغاز في ألمانيا الهتلريّة، ولا قصائد إيلوار في »عاصمة الألم« وسواها من الأشعار التي تغنّي الحبّ المحاصَر في باريس المحاصَرة، ولا »صحائف هيبنوس« التي كتبها رنيه شار في الشهور التي قاد هو فيها عدداً من فصائل مقاومة النازيّة في الجنوب الفرنسيّ، لا ولا قصائد نيرودا المكرّسة لمرافقة آلام شعبه العائش يومذاك في ظلّ حكم ديكتاتوريّ. وقد يتوجّب أن توضع في المستقبل دراسات نقديّة لتثبيت مقولة الصّديق الشاعر عبّاس بيضون التي أراها منصفة ودقيقة تماماً: »محمود درويش ليس شاعر حماسة. إنّه باختصار شاعر مرارة ويمكننا بسهولة أن ندرج شعره تحت عنوان الرّثاء« (»السفير«، ١١ آب/أغسطس الجاري). سوى أنّ هذه »الرثائيّة« التي يشير إليها عبّاس لا تفتقر إلى الفرح، ولا شكّ في أنّ هذا هو ما يرمي إليه صديقي الشاعر اللّبنانيّ. فرح معهود في كلّ نظرة تراجيديّة إلى الوجود، هذه النظرة التي يمتزج فيها، داخل الإحساس القويّ والمركَّب ذاته، وجع من أجل الحياة وتهليل ظافر للحياة. درس نيتشويّ أساسيّ يرينا الفيلسوف الألمانيّ امتداداته في التراجيديا اليونانيّة، ويمكن أن نلمس له جذوراً في جميع الآداب الإنسانيّة، بما فيها شعرنا الجاهليّ. من قبل، في »ورد أقلّ«، كتب محمود درويش: »ونحن نحبّ الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلاً«، طارحاً اعتناق الحياة كقرار صارم وفي الأوان ذاته كمشروع أو احتمال. ذروة المأساة هي هنا بلا ريب: أن تحبّ الحياة عندما »يتلطّف« الآخرون (العدوّ الفعليّ والإخوة ـ الأعداء) ويتركون لك إمكان اعتناقها ولو للحظات. في بيت واحد، في صيغة بسيطة يعجز عنها مَن يتوهّمون في البساطة سهولة نافلة ونفياً للعمق، يضع الشاعر جنباً إلى جنب خطاب الرّغبة وانتصاب العائق الذي يريد وأد كلّ رغبة. في »لاعب النّرد« نجد تعابير أخرى شديدة الدّلالة على ما دعوتُه »اعتناق الحياة«. اعتناقها كمثْل مَن يعتنق مبدأً عزيزاً أو ديانة شخصيّة صارمة، منفتحة مع ذلك ولاعبة، وذلك حتّى في اللحظات التي تبدو فيها الحياة ولا أكثر هروباً وتمنّعاً. بادئ ذي بدء يصوّر الفقيد الكبير الحياةَ كمجازفة ورهان رابح ـ خاسر لا يملك الوعي الصّاحي أمامه إلاّ أن يحسب الخسارة جزءاً من الغنيمة، والغنيمة نفسها شطراً من الخسران. كتب محمود: »أَنا لاعب النَرْدِ، أَربح حيناً وأَخسر حيناً/ أنا مثلكمْ/ أَو أَقلُّ قليلاً«. بعد هذه البداية التي تحفر في الخطاب نبرة تهوينٍ للأنا طالما عمل به الشّاعر الفلسطينيّ، يسرد ولادته نفسها باعتبارها عملاً للصدفة، ويختطّ لنفسه مكاناً في شجرة أنساب تحمل على أحد فروعها المرض الفادح (عطب القلب الموروث الذي عرّضه لعمليّات متوالية وخطّ نهايته المبكّرة على نحو فاجع): »وُلدتُ إلى جانب البئرِ والشّجراتِ الثلاثِ الوحيدات كالرّاهباتْ/ وُلدتُ بلا زَفّةٍ وبلا قابلةْ/ وسُمِّيتُ باسمي مُصَادَفَةً وانتميتُ إلى عائلةْ/ مصادفَةً، ووَرِثْتُ ملامحها والصّفاتْ/ وأَمراضَها...«. بعد ذلك يسرد الشاعر سلسلة من فرَص النّجاة غير المأمولة التي وهبتْه أن يبقى في الحياة. فرَص ينبغي أن نسردها في تعدّدها اللاّفت وبنبرة السّخرية المُرّة التي يمنحها إيّاها الشاعر. في أوّلها يقف ضياعه في ليلة النّزوح الرّهيبة يوم كان في سنّ السّابعة وأضاعته والدته ثمّ انتبهت إلى غيابه وعادت تبحث عنه في الظلام: »نجوتُ مصادفةً: كنتُ أَصغرَ من هَدَفٍ عسكريّ/ وأكبرَ من نحلةٍ تتنقل بين زهور السّياجْ/.../ ومن حسن حظّيَ أن الذئاب اختفتْ من هناك/ مُصَادفةً، أو هروباً من الجيش«. يليه تأخّره عن باص مدرسيّ كان مقدَّراً لركّابه الصّغار أن يحصدهم حادث سيْر: »كانتْ مصادفةً أَن أكون أنا الحيّ في حادث الباصِ حيث تأخَّرْتُ عن رحلتي المدرسيّةْ«. تليه حادثة غرق وإنقاذ معجِز: »ولا دَورَ لي في النّجاة من البحرِ، أَنْقَذَني نورسٌ آدميّ/ رأى الموج يصطادني ويشلُّ يديّ«. ثمّ تأخّره عن موعد إقلاع طائرة ستلقى مصير باص الصّغار نفسه: »كان يمكن أَن تسقط الطائرةْ/ بي صباحاً، ومن حسن حظّيَ أَنّي نَؤُوم الضحى/ فتأخَّرْتُ عن موعد الطائرةْ/ كان يمكن أَلاَّ أرى الشّام والقاهرةْ/ ولا متحف اللّوفر، والمدن السّاحرةْ«. ثمّ نجاته من رصاصات قنّاص في إحدى حارات بيروت: »كان يمكن، لو كنتُ أَبطأَ في المشي، أَن تقطع البندقيّةُ ظلِّي/ عن الأرزة السّاهرةْ«. وفي الختام التفاته في اللحظة المناسبة لتعب قلبه قُبيل إجراء عمليّته الجراحيّة الثانية: »ومن حسن حظِّيَ أَنّي أنام وحيداً/ فأصغي إلى جسدي وأُصدِّقُ موهبتي في اكتشاف الألمْ/ فأنادي الطبيب، قُبَيل الوفاة، بعشر دقائقْ/ عشر دقائق تكفي لأحيا مُصَادَفَةً وأُخيِّب ظنّ العدَمْ«. أسباب النّجاة هذه يحيلها الشاعر تارةً إلى صدفة مُحسنة، وطوراً إلى عناية الآخر السّاهر عليه دوماً، وطوراً آخر إلى نباهته هو نفسه وحُسن إصغائه إلى إنذارات جسده. والعدَم، نقيض الوجود كما يدلّ عليه اسمه، هو ما يَخيب ظنّه بهذا الإصرار العجيب للحياة على إنقاذ عاشقها ومغنّيها من مآزق عديدة. العدَم، لا هذا العدوّ أو ذاك، ولا أيّة هيئة إنسانيّة مسمّاة. وفي هذا التّعداد الضّاحك لمناسبات الخلاص الذي يخطّه شاعر يعرف أنّه ذاهب إلى مناورة مع الموت قد لا يعود منها تتجلّى أسرار عديدة من فنّ محمود درويش الشعريّ، أسرار بها عرفَ هو أن يموقع قصيدته، كما ذكر صديقي الناقد السّوريّ صبحي حديدي في إحدى دراساته عن شعر الفقيد، أقول يموقعها خارج القسمة الشكليّة إلى »قصيدة حرّة« و»قصيدة نثر«، أو (بقاموسي الشخصيّ) إلى قصيدة حرّة تفعيليّة وقصيدة حرّة غير تفعيليّة (هكذا أدعو الأبيات المنثورة على شاكلة الماغوط). فلئن كان من النوابض الأساسيّة للشعر الحرّ غير التفعيليّ ولقصيدة النثر الإقلال من سطوة الغناء واستدخال لغة الخطاب اليوميّ وحسّ النادرة الموظَّفة بذكاء وفنّ الإضمار أو الحذف الذي به يتميّز السّرد الشعريّ عن سرديّة الحكاية، فإنّك لَواجدٌ هذا وسواه من العناصر التجديديّة في شعر درويش. هكذا تجد قصيدة »لاعب النّرد« مرتكزها الأساسيّ في تعداد فرِح أكثر منه انتصاريّاً لمناسبات خلاص سابقة عديدة يقدّمها الشاعر باعتبارها إرثه الخاصّ وبها يجابه الموت القادم. يجابهه ويسجّل بادئ ذي بدء إن لم أقل انتصاره عليه فعل الأقلّ انتصار الحياة. أمّا »جداريّة محمود درويش« فيوجّهها منطق آخر. هي قصيدة النّاجي (النجاة مرّة أخرى) الذي داس على أعتاب الموت البليلة الغامضة وعاد منها بوصف تمنحه صيغة الحاضر (ما يدعوه الفرنسيّون »مُضارع السّرد«) طراوة باهرة: »لا شيء يُوجِعُني على باب القيامةِ. لا الزّمانُ ولا العواطفُ. لا أُحِسُّ بخفَّةِ الأشياء أَو ثِقَلِ الهواجسِ. لم أَجد أَحداً لأسألَ: أينَ »أيني« الآنَ، أينَ مدينةُ الموتى؟ (...) وكأنّني قد متُّ قبلَ الآن...«. وكما عوّدنا عليه محمود في أغلب أشعاره، فإنّ تعداد فرص النّجاة لا يتمخّض لديه، كما لدى كثيرين، عن إحساس بالظّفر، بل هو يملي قراراتٍ من أجل صيرورة قادمة: »سأَصير يوماً ما أُريد« هي اللاّزمة التي يكرّرها بعد وصفه لتخوم الموت؛ يكرّرها مرّتين أو ثلاثاً ثمّ يُغْنيها بضمير الجمع: »سنكون يوماً ما نريد«. ثمّة دعابة مع الموت، حوار وديّ معه ودعوة إلى تعامل صريح يذهب فيها الشاعر بعيداً في استخدام كلمات أليفة غايتها استئلاف الموت أو تحقيق انعدائه بألفة الكلمات: »... ويا مَوْتُ انتظرْ، يا موتُ، حتى أستعيدَ صفاءَ ذِهْني في الرّبيع وصحّتي، لتكون صيَّاداً شريفاً لا يَصيدُ الظَّبْيَ قرب النّبع. فلتكنِ العلاقةُ بيننا وُدّيَّةً وصريحةً...«. نضارة القصيدة وما تستند إليه من ذخر أسطوريّ هما عدّة الشّاعر الوحيدة في تطويع صلافة الموت: »خضراءُ، أَرضُ قصيدتي خضراءُ. نهرٌ واحدٌ يكفي لأهمس للفراشة: آهِ، يا أُختي، ونَهْرٌ واحدٌ يكفي لإغواءِ الأساطير القديمة بالبقاء«. وإذا كانت القصيدة خضراء، فامتدادها الأسطوريّ هو كذلك أيضاً: »سائرون على خُطى جلجامشَ الخضراءِ من زَمَنٍ إلى زَمَنٍ...«. والحقّ، فطالما وجد محمود في الأسطورة لا مصدراً للأقنعة البطوليّة كما في شعر الرّواد، بل ينبوع معرفة وحكمة: »هَزَمَتْكَ يا موتُ الفنونُ جميعُها./ هزمتْكَ يا موتُ الأغاني في بلاد الرّافدينِ. مِسَلَّةُ المصريِّ، مقبرةُ الفراعنةِ، النقوشُ على حجارة معبدٍ هَزَمَتْكَ وانتصرتْ، وأفْلَتَ من كمائنكَ الخلودُ/ فاصنعْ بنا، واصنعْ بنفسكَ ما تريدُ«. يحضرني هنا خطأ شديد الدّلالة في قراءة هذا المقطع ارتكبته صحف عربيّة عديدة ومن ورائها أكثر من صحيفة أجنبيّة. فلقد ورد في بعض صيَغ نعي الشاعر أنّه هو من قال: »هزمتُكَ يا موت...« (الفرنسيّون صاغوها كما يأتي: »ÅMort, je t?ai vaincueÅ!Å «. أنظر، على سبيل المثال، نعي »النوفيل أوبسرفاتور« للشاعر الفقيد على شاشة موقعها الألكترونيّ في يوم رحيله). وكما يلاحظ القارئ، فإنّ »تاء« الفعل »هزمتك« تشير في القصيدة لا إلى ضمير المتكلّم المبنيّ على الضمّ بل إلى ضمير الغائب المؤنّث السّاكن، الذي يحيل إلى فاعل مختلف هو »الفنون« وما يتبعها. خطأ لا أدري هل ينبغي اعتباره إقراراً جماعيّاً بانتصار درويش على الموت أم إساءة فهم لفلسفته الشخصيّة التي تحيل أعجوبة الظّفر من الموت إلى الحياة نفسها لا إلى »أنا« المتكلّم. فالقارئ يلاحظ ببساطة أنّ الشّاعر ينسب إلى الحياة نفسها معجزة بقائه: »وأَنا المُسَافِرُ داخلي/ وأَنا المُحَاصَرُ بالثنائياتِ، لكنَّ الحياة جديرَةٌ بغموضها وبطائرِ الدوريِّ...«. وعندما يتعمّد الاحتفاء بحياته، فإنّه معرفته الوثيقة بنحو العبارة تسعفه على الفور وتجعله يضيف »ما« التقليليّة إلى حياته هو: »أنا حَبَّةُ القمح التي ماتت لكي تَخْضَرَّ ثانيةً. وفي موتي حياةٌ ما...«. ولئن كان احتفاؤه بالنّجاة يتّخذ هنا نبراً إنجيليّاً وسيّابيّاً (أشير إلى مقولة المسيح المعروفة في حبّة الحنطة وإلى بيت بدر: »صرتُ مستقبلاً، صرتُ بذرة«)، فهو يمنحنا في أبيات أخرى توظيفاً جديداً لأسطورة العنقاء يحميه أيضاً نحوُ العبارة (صيغة المستقبل التي تعني قراراً أو تعبيراً عن رجاء) من كلّ يقينيّة جازمة: »سأصير يوماً طائراً، وأسُلُّ من عدمي وجودي، كلّما احترق الجناحان اقتربتُ من الحقيقة، وانبعثتُ من الرّمادْ«. »هِيَ الحياةُ سُيولَةٌ، وأَنا أكثِّفُها«، كتب محمود في العمل نفسه. وكما كان عاشقاً للحياة متواضعاً أمام الحياة، فقد كان عاشقاً للّغة متواضعاً أمامها. لم يكن ممّن يتخايلون داخل اللّغة على اللّغة ويزعمون انتصارهم عليها واغتناءها بهم، بل لقد كتبَ في »لاعب النّرد«: »لا دَوْرَ لي في القصيدةِ غيرُ امتثالي لإيقاعها:/ حركاتِ الأحاسيس حسّاً يُعدِّل حسّاً/ وحَدْساً يُنَزِّلُ معنى/ وغيبوبة في صدى الكلمات/ وصورة نفسي التي انتقلتْ/ من أَنايَ إلى غيرها/ واعتمادي على نَفَسي وحنيني إلى النّبع...«. وفي »جداريّة محمود درويش«: »وآثَرْتُ الزواجَ الحُرَّ بين المُفْرَداتِ. سَتَعْثُرُ الأُنثى على الذّكَر المُلائمِ في جُنُوح الشّعر نحو النّثر...«. هوامش شخصيّة: هذه هوامش شخصيّة لا تزعم إضاءة التّاريخ الأدبيّ بقدر ما توضيح طبيعة علاقتي بالفقيد. ١- في الشهور الأولى التي تلت وصول محمود درويش إلى باريس، بُعيد الاجتياح الإسرائيليّ لبيروت، كان دائم التلفّت حوله في المقاهي التي نلتقي فيها. وبإيحاء صامت لا بكلام صريح، علمّني أن أرصد مثله من يحيطون بنا فـ»مَن يعْلم؟«. في إحدى المرّات، حدّق محمود بتركيز ونفاذ بأحد الجالسين وراءنا فما كان من هذا الأخير إلاّ أن نهض وغادرَ محمرّ الوجه. الأرجح أنّه كان عميلاً لإسرائيل أو رقيباً لإحدى السّفارات العربيّة جعلته نظرات محمود الثاقبة يغادر المقهى ومَن فيه. كائن يعرف أنّه مراقَب، بل محاصَر إلى هذه الدّرجة كما كان عليه محمود لا يمكن إلاّ أن ينال تضامني النهائيّ. ولقد كان تضامني معه نهائيّاً، مع أنّنا لم نكن متّفقين في كلّ شيء، ومع أنّني كنتُ داخل الثقافة الفلسطينيّة أعيش في فقر مدقع لم يكن هو مَن صنَعه، فقر كنتُ أعبّر عنه تارةً بعتاب صامت وأتعالى عليه طوراً. ٢- طيلة صداقتنا وعملنا المشترك في »الكرمل«، لم أكتب عن شعر محمود سوى مقالة واحدة. كتبتُها ثمّ شعرتُ بالحرج: كيف أكتب عن صديق أعمل في مجلّته؟ قد يُعَدّ هذا منّي تملّقاً! طوال ربع قرن من الصّداقة، بقي هو يهديني مجموعاته الشعريّة وكتُبه النثريّة بانتظام وبدون أدنى تلميح إلى صمتي عن كتاباته. ٣ـ طوال السنوات العشر الأولى من إقامة محمود في باريس لم يُترجَم من شعره إلى الفرنسيّة إلاّ مختارات متواضعة الحجم، بمبادرة من الشاعر المغربيّ عبد اللطيف اللّعبيّ. كان بعض الفرنسيّين قد وسمَ محموداً بصفة »إرهابيّ« (صيغة لاحظتُها حتّى في بعض التعليقات على رحيله)، وكان بعض الشعراء العرب قد فرضوا في فرنسا على شعر سواهم من العرب حصاراً (أفلحنا أخيراً في كسره) ساعدتْهم في فرضه إمكانات مهرجانيّة وبراعات أُخرى لم نكن نحن من هواتها ولا من القادرين عليها. في واحدة من لحظات الإلهام أوحيتُ لصديقي إلياس صنبر بأن يعمل على كسر جدار الصّمت المفروض حول شعر محمود بترجمة إحدى مجاميعه. بدا إلياس متهيّباً من الفكرة لكونه يعدّ نفسه (يومذاك) مؤرّخاً لا أديباً. لكنّه تشجّع وترجم »أحد عشر كوكباً«. كان نجاح الترجمة وانتشارها كافيَين لتتكرّر التجربة وتصير مراساً وفيّاً ودأباً جميلاً. لقد وجد شعر محمود في قريحة إلياس ناقله الأمين، واكتشف إلياس الشّاعرَ والأديبَ الذي كان كامناً فيه. كم أنا سعيدٌ لأنّ اقتراحاً أخويّاً منّي صار أفقاً. إنّ ما فعله إلياس صنبر وفاروق مردم بك لشعر محمود درويش ولمُجمَل الثقافة العربيّة لَيفوق كلّ وصف ويعجز عنه كلّ ثناء. (كاتب عراقي في باريس)
|