عبدالرحمن الربيعي يسرد ذاكرته في وجوه مرت

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
08/08/2008 06:00 AM
GMT



بصدور مجموعته القصصية الجديدة ''وجوه مرت'' يكون الروائي والشاعر العراقي عبد الرحمن مجيد الربيعي قد أنجز كتابه الأربعين ضمن مسيرة حافلة تمتد إلى نحو خمسين عاما من الإبداع الموزع على الرواية والقصة القصيرة وقصيدة النثر. فقد سبق أن أصدر خمس عشرة مجموعة قصصية وسبع روايات وسبعة دواوين شعرية إضافة إلى سبعة كتب نقدية تناولت محاور إبداعية مختلفة أما في مجال السيرة فقد صدرت له ثلاثة كتب.

قبل أن نقلب كتاب ''وجوه مرت'' ينبغي علينا أن نعرف أن الكاتب عبد الرحمن الربيعي قد غادر العراق منذ عام 1988 ولم يعد إلى وطنه حتى الآن وقد قضى طيلة هذه الفترة في تونس وما زال. هذه المعلومة مهمة لمن يقرأ هذا الكتاب لان الربيعي يتحدث فيه عن مرحلة بعيدة في حياته وحياة الآخرين تعود إلى مرحلة المراهقة في مدينته الناصرية ولحظات تشكل الذات الإبداعية. يحتوي الكتاب على عشر قصص قصيرة كما دون على الغلاف ولكن القارئ سيفاجأ بهذه القصص التي لا تشبه القصص القصيرة المعتادة لجهة البناء والسرد وطبيعة الشخوص والزمان والمكان، فهي أقرب إلى الحكاية والسيرة الذاتية منها إلى القصة برغم طابعها القصصي الأكيد.

تتحدث كل حكاية عن شخص له صلة بالكاتب من بعيد أو من قريب ولها بداية ونهاية ومكتوبة بلغة حكائية بسيطة للغاية تقترب من أسلوب الكلام اليومي وبدون رتوش أو بلاغة ولا تعتمد بناءً قصصياً مهما كان شكله. إنها تشبه سيرة ذاتية مختصرة لمجموعة من الأشخاص الذين تربطهم بالكاتب علاقات حميمة للغاية لأنها مستلة من ذاكرته وموضوعة مباشرة على الورق دون ماكياج أو حبكة. إذن فشخوص هذه الحكايات من لحم ودم ولكن المفارقة أنهم جميعا من الأموات.

يقول الربيعي في مدخل الكتاب ''هذه الوجوه علقت بذاكرتي، حملتها معي إلى كل منأى حللت به، أتذكرها دائما وان سهوت عنها بعض الوقت فهناك من يذكرني بها. وقد خططت للكتابة عنها ضمن المناخ العراقي الواحد (الجنوبي غالبا) وحافظت على جل الأسماء. وهذا يعني أنني غيرت البعض الآخر لاعتبارات خاصة تتعلق بها. أما الأحداث فقد صغتها بالشكل الذي يجعل مجموع هذه السير رواية عراقية موزعة على مجموعة بورتريهات نادرة التكرار نظرا لفرادتها''.

الحكاية الأولى أو السيرة تتحدث عن الشاعر العراقي حسين مردان، حيث قدم من مدينة ديالى الشمالية ليغير وجه الشعر العراقي آنذاك بوصفه أول من كتب قصيدة النثر في العراق، وهناك من يقول في العالم العربي. حسين مردان أيضا هو أول شاعر عراقي يدخل السجن بسبب ''قصائده العارية'' لتهمة غير سياسية. يروي الربيعي نتفا من سيرة مردان لكنها تمثل نقاطا مضيئة في حياة هذا الصعلوك الذي استطاع بالفعل أن يزحزح أحجارا كبيرة عن طريق الشعر العراقي. ولأنه وجودي بالفطرة فإن اللقاء العابر الذي سيجمعه بسارتر في مدينة موسكو ويلتقط معه صورة تذكارية سيرسخ عنه ذلك التمرد الذي كان يقوده على صعيدي الإبداع والحياة. ''عندما عاد إلى بغداد سؤل عن هذا اللقاء وما دار بينهما فقال: لا علاقة لكم أيها الحفاة الرعاع أشباه الأدباء بلقاء القمم، كنا نقرر مصير الكون وما سوف يأتي''.

في السيرة الثانية يروي الربيعي حكاية ''كوزان'' الذي لا يعرف عنه أهل المدينة التي تقع فيها هذه الأحداث وهي الناصرية، أي شيء على الإطلاق لكن المدينة كلها تقف على قدميها حينما يمر موكب كوزان بلوحته الخشبية التي تحمل أنباء الفيلم الجديد الذي سوف يعرض في سينما المدينة. يستطيع كوزان بحركاته وصوته المدرب على تقليد كبار الممثلين أن يقنع جميع من في المدينة أن الفيلم الذي سيعرض يوم الجمعة سيكون فلتة وان من يفوته العرض سيشعر بالندم طيلة حياته. '' روى احدهم أن أستاذ المسرح المعروف جاسم العبودي كان في زيارة للناصرية مع زوجته الأمريكية مارغريت وقد مر من أمامه موكب كوزان بكل هرجه ومرجه فطلب من جليسه أن يناديه. وعندما حضر عرض عليه ان يتحول إلى بغداد لينضم إلى فرقة المسرح الحديث أشهر الفرق المسرحية في بغداد ليعمل ممثلا براتب معقول لكنه رفض بإصرار قائلا: أنا مثل السمكة إذا خرجت من الماء تموت، ماذا أفعل في بغداد '' ؟

يختزل الربيعي مأساة العراق أيام النظام السابق بواحدة من أكثر الحكايات قسوة في تاريخنا المعاصر حينما يروي سيرة احد أصدقائه المسرحيين الذي ينتحر بعد أن وصل اليأس به إلى ذروته القصوى ويذكر في ثنايا الحكاية ما حدث لصديق آخر كان يعمل نائبا لرئيس نقابة الصحفيين عندما كان عدي صدام حسين رئيسها.

عبد الكريم الفياض المسرحي والصحفي يرفض مغادرة العراق ولكنه يتعرض إلى نكبات كثيرة، تموت زوجته المريضة بعد أن يعجز عن توفير الدواء لها'' ذات يوم استغل عبد الكريم غياب ولديه فخرج إلى الشارع وأمام أول سيارة طائشة رمى جسده''. أما حكاية لطفي الخياط الذي كان يعمل نائبا لرئيس نقابة الصحفيين والذي كان يحضر اجتماعا نقابيا حاشدا '' فقد تعرض لهجوم بالطماطم لم يتوقعه بمكيدة من رئيس النقابة''.

لطفي الخياط الذي عمل صحفيا لمدة أربعين عاما يهان بهذه الطريقة التي جعلته يلازم منزله طويلا قبل أن يصاب بالزهايمر وبالتالي بفقدان الذاكرة والتشرد في شوارع بغداد، إذ كان أولاده يبحثون عنه في كل مكان حتى قضى نحبه.