إنعام كجه جي... في «الحفيدة الأمريكية»

المقاله تحت باب  منتخبات
في 
15/08/2008 06:00 AM
GMT



ابتكرت الروائية إنعام كجه جي واقعاً عراقياً ـــــ أميركياً مركّباً، جاعلة شخصية «زينة بهنام» أرضيةً تبني عليها هذا العالم المعقّد. ولا يمكن إزاء عالَم «الحفيدة الأميركية» (دار الجديد ـــــ بيروت) الذي يتضمّن نقائضه فيه، إلا التعاطف مع المسألة الإنسانية التي تؤرق زينة وتجعلها تدور حول نفسها، ولا تصل في نهاية الأمر إلى طائل.
واقع الرواية يضع المرء أيضاً موضع الحيرة، والاستهجان من رؤية الصورة بالمقلوب، إلى حدّ يصيبه التردّد عند الحكم على موضوعية الكاتبة ومساواتها الجلاد بالضحيّة: فكل الذين سقطوا في العراق تُقدّمهم كضحايا: مرةً أصدقاء زينة في المعسكر الأميركي وقد قُتِلوا في عمليات انتحارية أو خطفوا، ومرةً أصدقاء شقيقها مهيمن في جيش المهدي.
زينة نفسها تصف حالتها بأنّها «طاولة مقلوبة، مشروخة المرآة»، بالطبع مشروخة، وقد عادت مجنّدةً أميركيةً إلى العراق الذي فرّت منه مع عائلتها وهي مراهقة. هنا، تكمن الأحجية النفسيّة التي تخضع لها كلّ شخصيات الرواية. إذ إنّ زينة مسيحية أميركية تعمل مترجمةً في المنطقة الخضراء، غير بعيدة عن جدّتها رحمة زوجة العقيد السابق في الجيش العراقي. وهذا ما يدفع زينة إلى التساؤل: كيف يمكن لجدّها المسيحي الكلداني أن يكون قومياً؟
هذه التجربة التي تعيشها زينة تجعل كل مَن حولها يتردد في موقفه منها: هل هي عميلة خائنة؟ أم ضحية النظام الذي فرّ منه والداها؟ حتى إنّ أقاربها يطلقون عليها لقب الـ«كلب أبو بيتين». بينما تحتجّ زينة على كجه جي في حوار تضمّنته الرواية بين الشخصيّة والمؤلفة. هكذا، تروح زينة تدافع عن نفسها تجاه وصفها بأنّها ربيبة الاحتلال، الضّالة العائدة فوق دبابة أميركية، وهي التي تقاطعت مع تاريخها واختلفت معه، راثية الوطنية التي ولّى زمانها وتهلهلت شعاراتها.
في الواقع، لن تتمكّن زينة المرفوضة من الجدّة والأقارب، من أن تعيد إنتاج عراقيّتها، لأنّها ترى نفسها أميركية تعيش قطيعة مع القيم العراقية أيضاً. ألم تقع في حبّ أخيها من الرضاعة، رافضةً قيمة ومفهوم أخوّة من هذا النوع؟ بل إنّها تحاول غوايته فتقابَل بالصدّ والنبذ. وهي لم تر أيضاً مشكلة في حب هذا الأخ الذي تجنّد في جيش المهدي، وهذا تناقض آخر تجاه أميركيّتها. كأنّ المؤلفة تريد أن تفصح عن هشاشة المهاجر العراقي الذي وجد نفسه محاصراً بين عالمين ينتمي إلى كليهما، أو ربما لم يعد ينتمي إلى أيّ منهما.
وبينما يرى مهيمن أنّ الهجرة تترك المرء معلّقاً بين زمنين، تجد زينة في الهجرة استقرار هذا العصر، ولا ترى بأنّ الانتماء يتحقق بملازمة مسقط الرأس. مع ذلك، فهي ستهبّ للدفاع عن الطقس الشيعي الكربلائي، حين يقوم رفاقها من العسكر بتقليد الكربلائيات والسخرية منهنّ. وفي الوقت نفسه، تشارك في المداهمات الليلية، لتكون شاهدة على ذل وانكسار الكثيرين.
وإن كانت الأحداث بدأت مع شابة قوية تعيش حياةً عادية، فإنها ستنتهي بها إلى امرأة وحيدة تعيش في شجن وحياة مقسومة على مكانين: الجندي هو نفسه الضحية، والعدو هو الحليف.
وعلى رغم السلاسة الواضحة في نقل الأفكار، إلا أنّ صاحبة «سواقي القلوب» حملت الثقل كله في التجربة. فالغرائبية ليست في بناء العمل، بل في أنّ القصة واقعية بحد ذاتها، حدثت وتحدث كل يوم. إذ تتضمّن الحكاية تفاصيل تتناحر فيها القيم الجميلة وتتضارب: أن تكون وطنياً، وتعمل وتجني المال لتعيش بكرامة في المهجر، وأن تمنحك أميركا «المحتلّة» هوية حرة يسلبها منك الوطن، وأن ترى الجندي إنساناً في لحظة ضعفه من دون بندقية.
نجحت كجه جي الصحافية المقيمة في باريس، وصاحبة «العراق بأقلامهن» (2003)، في تقديم القهر الأميركي الكامن في أحياء تكريت وبغداد والموصل، ووصف المداهمات على نحو ساخر، يبيّن عشوائية تحطيم الأبواب ومطاردة المرضى والاشتباه بالأبرياء. واسترسلت أيضاً على مدى صفحات في وصف انتظار المفقودين من الجنود الأميركيين وجنازات الأصدقاء والخوف من فقدانهم.
لسنا هنا أمام رواية مكتوبة بلغة ساحرة. ليس هناك تحليق في الرموز. فالشخصيات تدور في واقع صعب تصف المؤلفة التفاعل معه على نحو دقيق، ولا تذهب بعيداً في لغة الخيال، لكنّها لا تقترب أيضاً من التقرير. إنّها لغة قريبة من الحياة التي تجسّدها كجه جي حريصةً على أصغر تفصيل.
تنتهي الرواية على زينة واقفة في مقبرة «آرلنغتن» في واشنطن، حيث يدفن الجنود الذين ماتوا في العراق. لقد تركت بلدها الأصلي بعدما ماتت الجدة التي تنتمي إلى جيل لم يلوث نفسه مع أي نظام، بينما تلوث الباقون، كل واحد بمقدار. وبموت الجدة، ينكشف الواقع الجديد عارياً من القيم القومية والوطنية والحب. واقع وُلد مصاباً بطاعون الأخلاق الحديثة، المعنونة بالولاء والمنفعة التي جاءت مع نظام صدّام، ثم الحصار، ثم الحرب فالاحتلال والإرهاب والقتل والتعذيب.
زينة الآن عراقية مصابة بالشجن، كانت الجدّة تريد إعادة تربيتها حين رجعت ببزة عسكرية أميركية، لكنّ الشجن كفيل بتربيتها في ولاية «ديترويت» حيث تفتقد الجميع من الأخ الحبيب والجدة الفقيدة، إلى العراق الراحل، وأميركا التي كانت لها وطناً ذات يوم.