المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
20/07/2008 06:00 AM GMT
كان المثقفون العراقيون يعيشون نوعاً من الاغتراب الروحيّ في داخل بلدهم أثناء صعود نجم نظام شموليّ لم يرَ تاريخ البلد له مثيلاً. شكلت فترة السبعينيات بداية قوية لحداثة ثقافية واجتماعية باهرة. على المستوى الشعري طلع جيلٌ مُنافِس قوي لجيل راسخ ومستتب هو الجيل الستيني بحيث لا يمكن لأي ناقد أو متابع للشأن الشعري سوى أن يحسب، على الأقل، هذه الفضيلة لمرحلة السبعينيات. كان يتوجب كبح جماح تلك البداية الوثابة من طرف نظام عقائدي فاسق لم يكن ليؤمن إلا بنفسه وبمعتقداته، انتهى به المطاف أخيرا إلى تمجيد الصوت الواحد وتشتيت الثقافة العراقية شذر مذر في كل مكان من العالم. كانت مطالب الثقافة العراقية، عبر
أصوات الشعراء مثلا، استعادة البوليفوني العريق للثقافة وحرية استنشاق الهواء. كانت مشاكل العراق الإثنية والسياسية والدينية تحل عبر دفنها بالمقابر الجماعية ثم الزعم أن لا مشاكل في البلد. هذه الحجة سوف تُستعاد بالمقلوب بعد سقوط النظام أثناء الاحتلال الأمريكي والقول هذه المرة إن نظاما يخترع المقابر الجماعية خير من الفوضى العارمة التي سببها الوضع الجديد بعد عام 2003. على المرء أن يكون صاحياً اليوم مثلما كان واعيا بالأمس. دياسبورا المثقفين العراقيين ليست صدفة في التاريخ، ولم يخرج أحد للنزهة ولا مهاجراً من أجل العمل في بلد كان هو نفسه مصدر استقطاب لملايين العمال العرب المهاجرين. هذه الدياسبورا هي نتيجة رفض لقمع اللغة وإذلال الخيارت باتجاه خيار واحدي وكسر شوكة البداهات لدى الكائن الإنساني وتكبيل حتى كلامه اليومي العادي. لم يوحّد بين المثقفين العراقيين ما يسمى الشتات، وما كانوا يسمونه المنفى وما يسمى اليوم في أدبيات البلد بالاغتراب. لم يوحّد الشتات بينهم لأنهم لم يخرجوا تحت راية موحَّدة منظَّمة. ولم تكن راية افتراضية مثل هذه لتعني أحداً على الإطلاق. يتعلق الأمر في الحقيقة بجماعات ثقافية متنوعة المشارب والاتجاهات والخيارات لم تطق الذل المُمارس على الكتابة وتحويلها إلى محض "عبد مؤدَّب" أو "جارية مثقفة". وفي ذلك الشتات توجد كل الأنماط الجمالية والخيارات الفكرية والشعرية التي تذهب من تطرف لآخر، من التقعيد الأدبي النهائي للأشكال الأدبية إلى الممارسة النصية التجريبية. إن المنافي، حسب تجربتنا، لا تسمح لأي ثقافة، بوصفها فعل جماعةٍ، بالنمو والتطور لأن الثقافة تحتاج إلى استتباب جغرافي في المقام الأول. لا يمكن الزعم أن الثقافة الفرنسية تزدهر خارج حدود فرنسا. يوجد خارج حدود فرنسا مثقفون فرنسيون وليس ثقافة فرنسية. ولذلك سبب يتعلق بأن الثقافة بقدر ما تحتاج إلى مبدعين تحتاج إلى نقاد ومتلقين وردود فعل وضوابط مرنة وتمردات من جماعة تشترك بشرطين على الأقل: اللغة والجغرافيا. تسمح المنافي بازدهار الإبداع الفردي فحسب. إن أكثر من ربع قرن من الزمن خارج العراق قد قاد إلى بلورة شخصية محدّدة أخرى للشعر العراقي لم تُقرأ بعد كما يتوجب، بسبب شعور وطني عارم منفعل لا يريد البتة التفريق بين (ثقافة الداخل) و(ثقافة الخارج)، كأن تفريقاً من هذا القبيل سوف يصيب الثقافة العراقية بالمقتلة أو يساهم في تقسيم البلد. وفي حين يرفض الرافضون هذا التفريق نظرياً فإنهم يستخدمونه عملياً في الكلام النقديّ والممارسة الخفيّة أو العلنية. ونجده تفريقاً بديهياً محضاً ينطلق من شعور لا يقل عنفواناً وتأثراً وحبا للبلد لأنه توصيف موضوعي لا غير. ماذا نفعل لأجيالٍ من الأولاد والبنات الذين وُلدوا خارج العراق ولا يعرفون حتى النطق بالعربية كما يجب، بل ذهب بعضهم بعيداً في منافيهم في دراسة المسرح والموسيقى والسينما والأدب، بل حتى في كتابة الشعر بالنسبة لمن كبر فحسب في الخارج. الخارج والداخل من هذه الزاوية ثراء للثقافة المحلية العراقية، مثلما مَنْ كتب بالفرنسية في الجزائر في وقت من الأوقات هو جزء من تاريخين أدبيين في آن واحد: الفرنسي والجزائري، أي يقع أيضاً في خارج وداخل الثقافة الوطنية الجزائرية. علينا أن نتكلم عن ضرورة رصد الإبداع المتناثر في الدياسبورا. هذه المهمة محلية في المقام الأول, على أن واحدة من رذائل الثقافة العراقية- كما يبدو- تقع في الإلغاء المتبادل بين الأجيال خاصة، وفي تضخيم مشكلة الأجيال حتى أن كل قادم جديد، حتى وإن كان واهي البنية، سوف يرفع من شأن جيله. الجيل يصير رديفا للعائلة العربية أو القبيلة. كيف نرصد هذا النتاج الجوهري في الثقافة العراقية في ظل تنكّر وعدم اعترافٍ متبادلٍ ومزاجيةٍ فائقةٍ للعادة. إننا أمام مشكلة كبرى لا تتعلق بالرصد بل بالمعرفة أيضاً.
|