المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
14/07/2008 06:00 AM GMT
لم تكن الشاعرية التي يمتلكها حميد قاسم بخافية عن القراء أو المتابعين للمشهد الشعري السبعيني في العراق؛ فقد عد من أبرز شعراء جيله الذي ظهر في السبعينيات من القرن المنصرم أو كما يسمونه السبعيني أو (جيل ما بعد الستينيات)؛هذا الجيل الذي غطى الافاق بشاعرية واسعة دوت أصداؤها في كل مكان وتجاوزت حدود العراق الى أبعد من ذلك بكثير حين تم رصد مؤشراته الشعرية في الوطن العربي وعلى نطاق واسع . جيل حميد قاسم هو الامتداد الشعري لرواد الثورة الشعرية الأوائل(السياب؛البياتي؛نازك الملائكة)؛ أولئك الذين أسسوا وأرسو القواعد وملؤوا الدنيا شعرا؛وقد جاء من بعدهم جيلا توارث ما كتبوا وما نضموا؛حتى طغى (جيل الستينيات) في العراق الذي أبدع إن لم نقل أنه أثرى الساحة الشعرية العربية بصورة عامة وليس العراقية فحسب بسيل من القصائد عدت بعضها على أنها أنموذج يقتفي بصمات السياب والبياتي بل ويترك أثرا واضحا على الساحة الشعرية لايمكن أن يمحى او يذهب؛ومن هؤلاء بكل تأكيد يأتي حميد قاسم ليسجل حضوره المتناهي الذي أمتلك من خلاله سر أجتذاب القارىء وأن يترك تأثيره فيه؛أو أن نقول أنه نجح في دمج مضامين قصائده في عقل القارىء ليواصل قراءة دواوينه حتى النهاية. وبشاعرية تتخللها رومانسية مفرطة يرسم حميد جل قصائده وفق أشكال مختلفة تتناول حتى الموت على هيئة تناقضات واضحة تدمج هذا الموت بوصفه الفناء عبر انبعاثاته في صور شتى تخلد الانسان وربما تمنحه الديمومة بأدوات أخرى تؤسس للخلود؛لقد استخدم حميد مقتربات عديدة ومتشابهات شتى ليصل من خلالها الى تكوين الصورة الحسية المتداخلة في قصيدته وإيصالها الى المتلقي عبر تشبيه الانسان بالحصان تارة ؛وبالمطر تارة أخرى؛وليقدم صفات متعددة من خلالها ومنها الخيانة التي يبدع بوصفها حين يستثني منها(ثيابه والندى وقلبه النبيل)؛قائلا عنها أنها لم تخنه في مأتم القتيل الذي يتكلم بلسانه بينما يتهم كل النساء بها؛هذه الصورة الشعرية الرائعة المتناسقة والتي جاءت على غرار صور عديدة كا ن قد أستخدمها وهي ماتعد مقاربة بصور عبد الوهاب البياتي المختصرة المعبرة عن معلقات شعرية رائعة جسدها في كلمات قليلة وتلك ميزة قد ينفرد بها البياتي. ونلاحظ أن بدايات شعراء مابعد الستينات تتشابه الى حد معين مع ما قدمه الرواد المؤسسين للحركة الشعرية الحديثة والتي أخذت على أيديهم سمات الشعر الحديث وصفاته وشكله وقالبه الذي يوصف به؛ومن هذا التشابه أستطاع الشاعر حميد قاسم وزملائه أن ينشؤا تجربتهم الخاصة وهم يخوضون مغامراتهم في مجاهل الشعر ليؤسسوا عالمهم الخاص وتجربتهم الفريدة التي لاتخرج من إطار القواعد الأساسية لما كان من الرواد بل لتطور وتبدع وتضيف شيئا يحسب لهذا الجيل السبعيني. ومن ذلك التشابه الذي قلنا فيه نجد أن حميد قد تاثر في شعره ب(الشاعر المرحوم الخالد عبد الوهاب البياتي)؛ويتضح ذلك في: لاتتعب النفس...فلا مناص لن تجد الجمرة والخلاص وكذلك في كل النساء تخونني.. في ماتم القتيل.. إلا ثيابي.. والندى.. وقلبي النبيل.... ربما أتت الفكرتين على غرار ما جاء به البياتي (أنتظر المبشر الأنسان ...أنتظر الطوفان). المتتبع يرى أن حميد تعتليه دائما روح الاحتجاج التي يستخدم صيغتها في قصيدته التي توفر له منبرا يعبر من خلاله عن ذلك الاحتجاج اللامتناهي ؛ومن جهة اخرى نرى أن عشقه لبغداد الذي قلما يخبو أو يخفت يعبر عنه حينا بوصفه امرأة تتناثر من حولها مفرداته قريبا من التغزل بها مما يوحي للقارىء بأن حميد يكابد حبا قد ضاع بل يصف بألم ولوعة ذلك الفقد الكبير الذي يعانيه وتلك ميزة ابداعية تحتسب لحميد عند متابعيه. يوصف حميد قاسم بأنه قد ابتدع قصيدة الألم من خلال استخدامه لغة مبسطة توحي للقارىء بالألفة وتشده نحو أستكمال مابدأه حميد من ألم عبر سطور قصائده؛وتشكل المفاجأة في شعره حدسا قويا يشغل مساحة واسعة من مفرداته لتضفي على قصيدته رونقا قل أن نجده في نصوص غيره؛كما يؤخذ عليه أنه يكثر من مخاطبة المجهول والتعرض لأصحابه؛ناهيك عن التكرار الذي تمثل في استخدام مفردة (الحصان؛الفرس) مستخدما اياها على صيغة تشبيه بمفرداته التي عبر عنها ليصف المدينة مرة ؛والمرارة مرة أخرى ثم ليصف أصدقائه مرات عدة كما في (خيانة صغيرة). خرج الأصحاب من الصندوق؛بالأذرع والهراوات.. وسدوا باب القبو.. لن تشتمنا بعد الليلة....
ولم يهمل حميد في شعره المرأة؛وضمن معنى ذلك في قصائد متعددة تظهر تصوره عنها وتصفه في أكثر من موقع كان قد تناوله بفنية عالية كما في أبياته التالية: سأصنع... بحرا من المياه وزورقا وغيمة ومنزلا؛يقبع عند البحر وصبية وجوههم؛من قمر بعيد لكنني أخشى من الأله...
وفي موضع أخر يتناول هذا الموضوع بحسرة واضحة تنم عن معاناة شاعر ولج عالم المرأة ونال منه ما نال حتى خرجت تلك الأه صادقة وهو يشكو لحبيبة مجهولة لكنها ربما تكون معلومة حاضرة في مخيلة الشاعر ولها أبرز الشكوى. آه ...من الثياب ياحبيبتي بللها الزمان أتعلمين..أنني سأرتدي..في عرسك ثوبا من الدخان؟ يحاول حميد قاسم أن يستخدم الغموض أو يسدل الستار على الحقائق الشعرية التي يصفها عبر قصائده من وراء أحجيات تأخذ القارىء بعيدا وهو يشكل صوره الشعرية بدقة حذرة يخفي وراءها المقاصد؛وتلك ميزة فخمة في اللغة الشعرية لايأتي على استخدامها الكثير من الشعراء وهم يرسمون صورهم الشعرية التي يضمنونها قصائدهم؛وقد أجد أن حميد من بين قلائل من الذين اتصفوا بها حين أعاد تكرارها ولأكثر من مرة في ديوانه (قداس الطفولة الهرمة). كما ويأخذ من غير المنطقي صورا أخرى ليبرر براعة متناهية في شعريته الواسعة ويصف لنا تلك الصورة التي ترسم خارج المألوف أو كما تشبه في عالم الغيبيات أو اللاواقعية حين يقول في:
عذاب..
لو أنني حكيت للجدار بعض الذي يؤلمني.. لانهار. بقي أن نعرف أن الشاعر المبدع حميد قاسم ولد في بغداد وأكمل فيها دراسته الجامعية حيث تخرج من كلية الأداب بجامعة بغداد؛وحصل منها أيضا على درجة الماجستير في الأدب العربي الحديث والنقد بتقدير امتياز؛ مما يدلل على أنه ليس مبدعا بالشعر فقط بل في مجالات الحياة الأخرى؛شاعر وكاتب وصحفي ولج كل مجالات الابداع الثقافي الفني وتفوق فيها ؛وله أربعة دواوين مطبوعة؛ورواية؛وكتابين للأطفال(قصو ؛وشعر)؛كما له دراسة يتيمة في النقد كان قد تناول فيها الشعر العراقي الحديث.فاز بالعديد من الجوائز التي تمنح في مجال القصة والشعر والرواية والصحافة.عمل محررا في الصفحات الثقافية في العديد من الصحف العراقية والعربية؛وله مقالات بارزة وممتعة منها (على أبواب حسن عجمي) التي تنشر بتتابع من على موقع كتابات.
|