حبيبتي كركوك

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
14/07/2008 06:00 AM
GMT



إلى سيف الخيّاط*
لن يستيطوا إطفاء قوس قزحك الكركوكي العراقي لأن ألوانه تشع بك وفيك. 
 
حين وصلت أربيل  ، أعني مطار "هه و لير" ، شعرت بغربة متوحشة أقسى من عضة كلب، وسبب ذلك أنني لم أر وجهاً أعرفه ولا أحد في استقبالي وانا أعود لوطني بعد ست وعشرين عاما وشهرين و13 يوما وخمس ساعات!
في "هه ولير" قدمت مسرحيتي " أمراء الجحيم " على صالة بليدة وتجارية ، لكن حميمية اللقاء بأصدقاء العمر القدامى والجلسات القصيرة ، الجميلة القصيرة مع محمد خضير و.....رؤية شيركو بي كه أبعدت عني سفاهة تلك البلادة ، لا وبل ودعتني قصائد أحمد عبدالحسين الى حديقة البهجة والحلم والصفاء .
بعد انتهاء اسبوع المدى توجهت الى كركوك انا ومن معي من أهلي، الذين جاؤوني الى اربيل "هه ولير" التي بدت زاهية بمشاريعها ومبانيها وساحاتها وحدائقها الجديدة وهي تغفو هادئة و بعيدة عن كوابيس (الثورة البيضاء) المقبورة الغادرة والدموية لكنها تستقبل فجرها بحسرات العوز والفساد و.............. عودة"ضحاكين ابناء مرادس التازي* " عبر أقنعة جديدة ومتعددة!
وقبيل وصولي الى  مدينتي الحبيبة كركوك زالت الشعور بالوحشة وانا أشم رائحة آلتون كوبري وجسره الهرم والمتهدم ومياه نهره وذلك الاخضرار الذي تدوسه اليوم دبابات البرابرة الاميركان وأوهام القومجيين وبكل أنواعهم ودولهم واسواقهم وأحزابهم القديمة والحديثة.
في بوابة مدينة الذهب الأسود الشمالية  ظهرت  نيران بابا كركر ، وبرغم خفوتها استقبلتني بضوئها البرتقالي الذي أعشقه. وها هي مدينتي تعانقني وهي منهكة ، اعانقها بعد غربات أكثر من ربع قرن ...  الاصدقاء ، الأهل ، ومن بينهم من عايشتهم ومن كان صغيرا أو  ولدا بعد أقصائي من الوطن  . الكل  اندهشوا بلقائي.
لا ادري لماذا وقفت عند آثار سينما اطلس، ودعتني ذاكرتي إلى هذا  المشهد:
ـ  اخوي الله يخليك اريد اليوم تأخذني لفلم "فلاش كوردن" و"هرقل الجبار"
ـ ولك ما عندي فلوس هسه ، بس شويه انتظر ألعب "الدعبل "  أغلب ونحصل فلوس وأخذك للسينما واشتريلك لفة كباب وعنبة.
لعب اخي فائق اللعبة وغلب وأخذ درهمين ومسك يدي وركضنا في اتجاه السينما.
وانا الآن اخيرا امام سينما طفولتي، لم اتمالك نفسي وصرخت :
ـ اخويا فائق، وينك عيني.. يلعن أبو السرطان اللي اخذك مني وحرمني من شوفة فلم وياك في سينما الاطلس، وينك فائئئئئئئئئئئئئق؟
اتذكر قبل زيارتي كنت كثيرا ما أتحدث مع أهلي واخواتي وأخي عبر التلفون، فاعيش لحظات معبرة في التنوع اللغوي والثقافي لعائلتي مثل جميع عوائل كركوك:
ـ ها أميرة "وهي أصغرنا" اشلونج اشلون الاولاد وناجي وزوجج اشلونه حبيتي مشتاقلك
ترد علي أميرة بمحبة وسعها وسع بساتين الزيتون في محلتنا التركمانية الكردية العربية "كاورباغي" :
ـ عيوني فاروق اشلونك والله هوايه تأخرت تعال نشوفك ودير بالك على نفسك، هاي اختي اديبة تريد تحجي وياك :
ـ  فاروق به به م نه صل صان قوربان اولم سه نه"1"
وهذه كانت اختي الثانية في سلسلة العائلة وقد حدثتني بالتركمانية. وبعد ذلك قلت لها بالكردي:
ـ عمري اديبة والله التركماني شويه ناسيها أحبج وأبوسج واولادي من ايديج . وينها هدية؟
وتأتي هدية والبكاء يسبق صوتها التركماني الكردي العربي وتقول :
ـ" قه رداشم فاروق قوربانت بم، دير بالك على نفسك وبوس فرات ورهام وصبري ونحن نتظركم"2"
ويأتي الهمس الحنون عبر صوت اختي مكية: باوكم همو منالكانم قوربانت بي جوني مه قيتي خوت به" 3"وينقطع صوت الهاتف.........
حين زرت اخواتي  في العام الماضي كانت كل واحدة منهن تحتفظ بشيء مني ، قميص كنت أحبه وبنطلون اشتريته يوما ما، جاكيت جلد، نظارة، صور و كتب ، كل هذه الاشياء ما زالت تفوح منها رائحة الماضي ومشعة في الحاضر المظلم والمشتت والمتعثر .
شعاع الحاضر هذا دلّني أيضاً الى حضور امي الكردية السنية وهي تغرق بالسواد والحلم في ايام عاشوراء وتذهب كل يوم مشياً على الاقدام من "مشروع الاسكان" والى محلة "تسعين" حيث الأكثرية التركمانية والعربية الشيعية... وتحضر حلقات اللطم. وفي عشرة عاشوراء تطبخ "هريسة" وزوجة جارنا المسيحي "دانيال" تساعدها في الطبخ ومساعدة اخواتي الخمسة - نجوم كركوك المضيئة - وهن يوزعن" الهريسة" ، يخرجن الى الجيران وهن ملتفعات بالعباءة وعلى رؤوسهن صواني مليئة بصحون "الهريسة" بينما والدي الكردي يؤدي صلاة الفجر ويداه مضمومتان على سرّته .
كل هذه المشاهد رأيتها وعشتها بتفاصيلها الصغيرة والكبيرة ، ببهجتها ووجعها في زيارتي قبل شهور ... مشاهد بدت لي أو هكذا حضرت لي ساطعة وساخنة بعكس ما كانت تراه عيناي وأنا أتنقل بين شواراع ومحلات وساحات وأسواق أصبحت أو هكذا فرضت عليّ ... مطفأة وذابلة ، لم استطع التعرف عليها. وزوج احدى أخواتي يسألني :
ها.. تتذكر هذا المكان .. هل نسيت كم كنت تلعب وتتراكض خلف السيارات في هذا الشارع .. وهذه البناية تعرفها كنت تحبها وتزورها يوميا وتقضي فيها ساعات طويلة وتخرج منها وبيدك كتب وفي عينيك ابتسامة!
قليلا ، قليلا ، وببطء شديد بدأت تتوارى الغيمة السوداء من عينيّ وتمتلئ بتلك الابتسامة ، صرخت : نعم أعرفها انها المكتبة العامة .
و ما ان وصلت الى ( سوق القورية) ذلك الفضاء الضيق والممتدد والواسع باصوات الباعة والخضروات واللغات الثلاث المشهور في  مدينة الموجات الثلاث ، التركمانية والعربية والكردية، حتى هرعت نحوه كدمعة انهمرت من سماء العراق الحزينة والحالمة .
ـ هذا سوق "قورية"!
لكن تساؤلات الروح لم تهدأ : وهل شارع سوق "قورية" الطويل والواسع في ذكراتي والقصير الضيق الأن يحتفظ  بشئ  من آثار قدمي طفولتي!؟
لماذا هرمت نيران بابا كركر وما باتت تضئ سطح بيتنا في محلة مشروع الاسكان؟
لماذا امتدت مقبرة الشهداء نحو محلتنا وتداخلت معها بعدما ازيح من بينهما ذلك البستان الجميل الذي روى فتوتي بالاخضرار؟
لماذا أصبحت شوارع مدينتي وساحاتها وأسواقها ضيقة وضيقة جداً وعيون ناسها شاحبة وخالية الا من رعب (البرادلي) الأميركية واللحى المفخخة ؟
لماذا تقزمت قامة قلعة كركوك واقفرت بيوتها وتشققت أسوارها المدورة وتصحرت جنائنها المعلقة وإمتلأت بالعاكول واللون الأصفرر ؟
لماذا غاب عن 'كاورباغي*' حلم أنتفاضتها وصوت أبي ، وصوت أبنائها وعشقهم ،
 فاضل  العزاوي"3" و' الجوبية' ،
سلمان فائق "4" و' الشمشال'.
هاشم زينل "5" ، و ' القوريات '.
"هرمز البازي "6"، وثياب 'سركلا' .
جليل القيسي "7" المضاء بألوان قوس قزح كركوكي وبصهيل المارّة في م  ؟
آه يا مدينة النار الأزلية لماذا خرجت من ذاكرتي ودخلت مشهد الضياع ، الخراب ، الغبار ، غبار كاد أن يخنقني لولا رائحة زهرات كركوية خمس ، زكية ، أديبة ، مكية ، هدية ، أميرة كانت تفوح وهي تنعش روحي وتطرد شرور واقع سلمني مرّة أخرى إلى غربة أقسى وأعمر من منافي التاريخ البشري ولكن لن تنسيني حبيبة عمر يراد اغتيال قوس قزحها ، أنها حبيبتي كركوك...............
عساها تنهض من بين رماد حروب أسفل الطغاة والغزاة وعمائم "القم" السوداء المتخلفة الظلامية ومن أعداء قوس القزح الكركوكي.
أكيد تنهض ، ستنهض.............
ستنهض كركوك بجغرافيتها الكردستانية وهويتها العراقية.
نعم ستنهض بهويتها العراقية وجغرافيتها الكردستانية
 
 
إضاءات
    * الباسق كقلمه سيف الخياط الذي تعرض لمحاولة اغتيال يوم 6|7 في بغداد من قبل العقل المتديّن والايديولوجي الظلامي المتعفن .
   * اشارة الى ضحاك ابن مرداس التازي الذي كان حاكماً مستبدا يقتل كل يوم شابين كرديين ليغذي بلحميهما ثعابينه فإنتفض عليه الكرد بقيادة "كاوه" الحداد.
  *محلة "كاورباغي" معروفة ببسانين الزيتون وإنتفاضتها ضد سارقي النفط العراقي ، الانكليز
1-     "كيف حالك ، افديلك روحي "
2-     "اخويا فاروق ، روحي فداء لك"
3-    "ابويه..كل أولادي فداء لك ، اهتم بنفسك وبأولادك وفرات"
4_ شاعر عراقي عربي معروف و"الجوبية" دبكة عربية معروفة
5_ مخرج مسرحي عراقي كردي و"الشمشال" ألة نفخ موسيقية كردية مشهورة
6_مسرحي عراقي تركماني و"القوريات" نوع من المقامات التركمانية
7_صديق عمر عراقي آشوري تخرجنا معا من معهد الفنون الجملية و"سركلا" اسم للملابس الاشورية الفلكلورية
8_الراحل المبدع جليل القيسي الذي خرج من عائلة كركوكية زاهية بالعرب والتركمان والكرد 
 
farouk1952@hotmail.com