المقاله تحت باب منتخبات في
10/07/2008 06:00 AM GMT
عندما صدرت أعمال الشاعر الالماني ريلكه باللغة الفرنسية، وفي مقدمها ديوانه "بساتين"، أثارت حفيظة الكثيرين في ألمانيا وفرنسا. اتهمه القوميون الألمان بخيانة اللغة "الأم". بعض النقاد الفرنسيين لم يبدوا أي حماسة حيالها، وسأل أحدهم هل كانت هذه الأشعار لتستحق القراءة لو لم يكن ريلكه صاحبها. لكنّ نقاداً آخرين رحّبوا بها معتبرينها تجربة يمكن أن تضاف الى رصيد ريلكه "الكوني". وها هي تصدر اليوم كاملة بالعربية، عن دار المدى، بترجمة للشاعر شاكر لعيبي، بعدما كان الشاعر والباحث كاظم جهاد أصدر ترجمته لها أيضاً لبضعة أشهر خلت عن منشورات الجمل. يسأل الشاعر العراقي شاكر لعيبي في مقدمة ترجمته كيف يمكن كتابة الشعر بلغة اجنبية كما فعل ريلكه، ليجيب: ليست الاجابة عن هذا السؤال هينة وخصوصاً اذا عرفنا ان اعمال ريلكه لا يمكن ان تصنَّف ككتابات ضعيفة ولا كمحاولات مدرسية او تمرينات على لغة اجنبية. نقرأ لريلكه المقطع الآتي: "اراك ايتها الوردة كتابا منفرجا/ بصفحات كثيرة/ سعادة تفصيلية/ لن تُقرأ أبداً. كتاب – مجوسي/ منفتح في الريح ربما قُرئ/ بعيون مغمضة...،/ حيث تطير الفراشات منه ملتبسةً/ بسبب الافكار نفسها". غالبية نصوص ريلكه الفرنسية، خصوصاً هذه القصيدة، هي شهادة دالة على ان شعر ريلكه الفرنسي يمت بصلة وثيقة الى جوهر اعماله الاساسية المكتوبة بالالمانية، ولا سيما "اناشيد اورفيوس". يضيف لعيبي الآتي: ثمة زعم مؤداه ان نصوص ريلكه الفرنسية لا تملك الشموخ الذي تنطوي عليه اعماله الالمانية طالما ان الشعر لا يكتب سوى بلغته الأم. هذا الزعم ليس في محله تماما، تناقضه الحماسة الكبيرة التي أعرب عنها اثنان من كبار ادباء الفرنسية: بول فاليري واندره جيد. ولا يبرهن عليه، من جهة اخرى، نشر تلك النصوص وإعادة نشرها في اهم السلاسل الشعرية الفرنسية لاكثر من مرة واحدة وبعناية ألمع الأسماء النقدية والشعرية الفرنسية. كتب فاليري في شأن اعمال ريلكه الفرنسية معلنا اعجابه بالرهافة المذهلة وغرابة اصواته الفرنسية، بينما وجد اندره جيد في ابياته الفرنسية فرحا من نمط جديد، مذكّراً بقوة خصائصها الشعرية. لا تبدو الكتابة بلغة اخرى بالنسبة الى هذا الشاعر الالماني، شيئا خارقا للعادة، حتى انه كتب قصيدتين اثنتين بالايطالية وقصيدة بالروسية. غير ان ما يلاحظ بيسر ان قصائده الفرنسية تتجاوز مجال المحاولة وحقل الطرافة، وتشكل وحدة نصية معتبرة. كانت اللغة الفرنسية أليفة بالنسبة اليه مثلما الالمانية على ما يقول في رسالته الى الشاعرة الروسية مارينا تسفيتييفا، التي تلاحظ ان رغبة ريلكه في كتابة الشعر بالفرنسية تجيء بسبب انه "كان متعبا من تفوقه، كان يريد العودة الى المدرسة، لقد امتلك اللغة الأكثر عقوقا بين جميع اللغات بالنسبة الى شاعر من الشعراء: الفرنسية". فتحة صماء في جدار يعتبر شاكر لعيبي ان التأمل في شعر شاعر متنوع المواهب اللغوية مثل ريلكه قاد الى سؤال علاقة شعره، وشعر من يشابهه من كبار الشعراء، بالشعر العربي، القديم الحديث، او بتقاليد اي شعر عريق آخر. هكذا يحاول لعيبي المقاربة بين قصيدة ريلكه "النوافذ"، وقصيدة السياب "شبّاك وفيقة"، وتتبع نقاط الالتقاء بين هاتين القصيدتين، ضمن ما أطلق عليه لعيبي مصطلح "شعرية التنافذ". ففي محاولته للتوثيق التاريخي لمفردة الشبّاك كدالة رمزية، يرى أنه غالباً ما كان يجري التعاطي مع "الشبّاك" في الأدب العربي بوصفه محبساً وقفلاً من حديد، حيث ظل هناك برودٌ في معنى "الشبّاك" وغيابٌ لاستخدامه الرمزي في التراث العربي القديم، مشيراً إلى أن النافذة كمرادف للشبّاك هي كلمة مستحدَثة في اللغة العربية، حوّلت الشبّاك من مجرد حاجز حديد إلى مغزى قيمي ومجازي ورمزي. يتناول هذا المصطلح من ناحيتين، الأولى من حيث دلالة الشباك - النافذة في الأدب العربي القديم، وما طرأ عليها من تحولات حتى بداية القرن العشرين، ودلالتها على التأثير الشعري المتبادل، واستفادة الشاعر من تجارب غيره من الشعراء. أما الناحية الثانية، فمن حيث دلالة "النافذة" كمفردة رديفة للشبّاك تكررت في قصائد ريلكه كما تكررت في قصائد السياب أيضاً. في الاستناد إلى مصطلح "التنافذ" بالمعنى المستل اشتقاقاً من الفعل "نفذ"، يقارب لعيبي بين فكرة "التنافذ" في الآداب الشرقية بمعناها العاطفي، أي الذهاب الى الآخر والاتصال به شعورياً، وبين استخدام هذه المفردة في اللغة الفرنسية، حيث هناك تشابه حرفي ودلالي بين اللفظتين في اللغتين. على ان اللغة الفرنسية تعرف "التنافذ" بمعناه الحرفي بأنه فتحة، حقيقية أو صمّاء، في جدار. غير ان المفردة استخدمت لاحقا للتعبير عن اطلالة مجازية. يقارب لعيبي بين قصيدتي ريلكه والسياب، مشيراً إلى أن هناك نقطة خفية يتماس فيها النص الريلكوي مع تقاليد الشعرية العربية، حيث أن قصيدته "النوافذ" تدفع الى التفكير بالعلاقة المفترضة بين الكائن والمحيط الذي يتشبع الشاعر بروائحه وأنفاسه وتفاصيله، وهي العلاقة التي تبرز في مجمل أعمال السياب. وعلى الرغم من أن نص ريلكه معنون بـ"النوافذ"، إلا أنه لم يكن يخاطب، بحسب لعيبي، إلا "نافذة" واحدة، وبذلك ينقل ريلكه النافذة من سياق العنصر الجامد "الآلة"، إلى الحي المتحرك. في المقابل كان السياب يعالج منذ البدء نافذة واحدة لوفيقة وليس نوافذ عدة، حيث يتكرر فعل الأنسنة في جميع مقاطع قصيدة ريلكه التي تكشف في النهاية أنه كان يتكلم في الحقيقة عن امرأة حبيبة كان يراقبها من بعد وهي تطل عبر نافذتها. ويتكرر فعل الأنسنة في جميع مقاطع قصيدة ريلكه بإلحاح: "تقترحين عليَّ، أيتها النافذة الغربية، الإنتظار"، "أليست هندستنا، أيتها النافذة مشكلة جد بسيطة"، "أنتِ، أيتها النافذة من يوشك على تأبيد" المرأة التي نحب، "أيتها النوافذ اللواتي نبحث عنهنّ دائماً". يبدو الشاعر كأنه يتكلم عن امرأة. وبعدما ظلّ يسعى لإقناعنا بأنه يتكلم عن النوافذ، سيكشف لنا في نهايات القصيدة أنه يتكلم في الحقيقة عن امرأة حبيبة كان يراقبها من بعد وهي تطل عبر نافذتها. يوضح لعيبي في معرض تحليله لـ"شباك وفيقة"، أن السياب يسعى إلى مقاربة النافذة الوحيدة، بالشجرة المنعزلة التي تنظر العيون إليها، بما يحيل على الصورة السالبة للنافذة في عزلتها، على رغم أنها رمز للحيوية اللصيقة بالوجود. في ترجمة اعمال ريلكه الفرنسية، نحن أمام ثلاثة أنماط من التنافذات المجازية، الاولى هي التي تسمح لريلكه بالتعبير عبر لغة اجنبية عن نفسه. والثانية تشكل صلب كل ترجمة، ويراهن على لعبة مرايا ممتعة ولعبة اقنعة متجاورة للغتين، بل لثلاث، الالمانية والفرنسية والعربية. وفي النتيجة نحن ازاء تنافذ لغوي وشعري. أما التنافذ الثالث فأقل مجازية لأنه يتعلق بمقاربة قصيدتين تعالجان موضوع "النافذة". يعزو لعيبي التحول في دلالة الشبّاك إلى ازدهار الترجمة إلى العربية من اللغات الأجنبية، في نهايات القرن التاسع عشر، وانتعاش النزعات الرومنطيقية في الشعر العربي منذ أوائل القرن العشرين. يشير لعيبي إلى أن فكرة "التنافذ" تتعارض مع فكرة عزلة الكائن الوجودية، حيث أن النافذة غير معنية بالعزلات الوجودية للكائن، وأنها مهمومة بالانفتاح على الآخر إلى أبعد الحدود، على العالم الخارجيّ، على سحر البرانيّ، وعلى أثرٍ ملموسٍ يمكن أن يوقظ دلالةً شاملة تطوي الكونَ برمّته، بالضبط مثل مرآة الشاعر المستوحدَة التي تطوي السموات العريضة. تحديق في الاحتمالات النافذة عين الكائن الغريب: الشاعر الذي تتحول عينه إلى نافذة. الشاعر هو ذاك المزيج كله من العناصر الرائية والمرئية، المهجوسة من الداخل والمراقَبَة بألم وجذل من الخارج، والتي تقدّم حولها قصيدة ريلكه مثالاً باهراً، وتتمحور في بناء محكم. فكرة الغريب حاضرة في مجمل شعر السياب الناضج. كان السياب يتوقف امام مشكلات الغياب بأشكاله المختلفة، بما فيها شكل الموت الذي طالما عالجه. لنلاحظ ان الغياب هو هم ريلكوي كذلك عبر استعارة النافذة، لكن ضمن بعد ميتافيزيقي صارم في نصوص كثيرة سنجدها في هذا الكتاب. يصير "شباك وفيقة" لدى السياب تذكيرا بالغائب الكبير، السيدة التي كانت تشغل النافذة، ثم هو تذكير بكل ما يمكن ان يشغل مكانا ثم يغيب. الزائل والموقت انما هما ابديان وراسخان في شخوص النافذة. يقول السياب هذه الفكرة بنصوع غنائي وبتجلٍّ عال. واذا كان ريلكه مهموما مرةً بشكل النافذة الهندسي، ومرةً بما تخفيه فإنه يظل دائما يشهر نوعاً من الدعة والهدوء والمودة أمام النافذة، بشعر عذب وناعم. بينما لا يهتم السياب بشكل النافذة انما بمعناها، ويظهر التوتر والقلق في شعر متوتر ينطوي على شعرية عالية. ثمة وداعة في شعر ريلكه النافذي، وثمة دراما ومأسوية في شعر الثياب الشبّاكي. فارق يتأتى ربما من عدم قبول السياب بفكرة الموت وتقبل ريلكه، ربما، لها. يعتبر لعيبي ان شعر ريلكه يقول المعنى مداورة، ويقول الاشياء عبر الصور المتواصلة، الصادمة، المذهلة. مثل كل الشعراء الكبار، فان الصور هي بؤرة قصيدته. على سبيل المثال، قصيدته "النوافذ" ما هي الا استعارة مطوّلة، ممطوطة ومدهشة، لا تغترف سوى من طاقتها الداخلية لكي تلقي امامنا المعاني الغامضة، عندما نقرأ: "المرأة التي نحبها ليست اكثر جمالاً/ الا حين نراها مؤطرة بك/ انت ايتها النافذة من يوشك على تأبيدها"، فإن التأسيس على الاستعارة يعني من بين ما يعني أن الشاعر يعرف تماما ادوات فنه والطريقة الملائمة لقول ما لا يستطيع النثر قوله. ينفتح ريلكه في شعره على الاحتمالات. انه المحدّق المهزل الى حقائق العالم من دون زخرفة لفظية ولا أوهام.
|