نوستالجيا

المقاله تحت باب  قصة قصيرة
في 
13/06/2008 06:00 AM
GMT



اهداء: الى الطابق الخامس .. انه كلام نهار

الرواق المفضي الى المصعد فيه دفء حفل بهيج... مناقير الكعوب لا تكف عن الوطء على بلاطاته اللامعة بضربات لها رنين مكتوم وأحد الشعراء يقول ان السير في هذا المكان يشبه التقدم على بلاط فاره لاستلام جائزة الاوسكار. مصعد وزارتنا، لو تعلمون، يشبه رصيف المشاهير في شارع برودواي او انه يذكرنا بخشبة مسرح يقدم نجومه لتحية الجمهور في ختام عرض فني جميل فهو قد ينفتح في طابق فيخرج منه يوسف العاني وازادوهي صموثيل او ينغلق في طابق آخر بعد أن يدخل اليه يوسف الصائغ وعلاء بشير او ينحشر فيه ذات استقلال واحد كل من كاظم الساهر وسعدون جابر وعبد فلك وجلال الحنفي وداود الفرحان او في مرة أخرى علي الوردي وسامي قفطان واقبال نعيم وشذى سالم وحسن العاني وعوني كرومي أو في مرة ثالثة عبد الاله أحمد وعزيز خيون ووداد الاورفلي وسامي محمد وفاروق سلوم ومنير بشير وهذا مشهد يومي لمصعد له طاقته الاستيعابية مثل باقي مصاعد الدنيا ولكن له هذا الامتياز السحري الذي لا يملكه اي مصعد آخر في بناية أخرى.
الوقت: صباح
والصباح يحتوي الشعراء مثل سجن بلا قضبان.. يأتون اليه بأقدامهم ثم لا يخرجون الا عندما يرن جرس الهاتف فتنطلق الغزلان من أقبية الرؤوس..
- ستار موجود؟؟؟
- كاووش أم ناصر أم البيضاني؟
- لا.. ناصر.
- عاد الى ثقافة الأطفال اذن.
هنا لا يمر اثنان من اولئك الثلاثة الا وقوفاً.. كاووش بلا هدف وناصر بلا نظاراته الطبية والبيضاني بلا ضجيج. وهنا يشتهي أن يموت حميد.. يتمدد على الأرض وينام الى اشعار آخر، تاركاً صديقه كاووش ليدفع شعره الكاريه اللامع الى الوراء، أقصد الى الأبد، لمنع تهدله المستمر على عينيه اللتين، بسبب لونهما الزيتي، توحيان أن لهما علاقة بميوعة شعره من جهة وبدوام التوتر على اشياء بسيطة مثل تلك النظارة الشمسية التي أهداها له رسام ستيني وأصبح العثور عليها أمراً مستحيلاً.
دخلت منى تبحث عن قاموسها الالماني العربى والذي طالما ساح في اروقة المجلة لأن بنات الحسابات والارشيف والقسم الفني كنت يستعرنه من اجل الخيرة وقراءة البخت* .ولما رأت حميد قالت له:
- رأيتك البارحة في التلفزيون.
تحرك الجو بهمهمات الفضول وقال البيضاني:
- صاير نجم.. ها؟
وأذهلته منى بمزاياه التي شاهدتها في التلفزيون وعندما انتهت من تعدادها قال حميد بابتسامة خجول:
- لقد حذف المونتاج كلمة قالها لي عبد الرزاق عبد الواحد.
ثم شد وشاحه الأصفر الى الامام بعزم وترك جملته التي تذكرها عن عبد الرزاق عبد الواحد بلا تتمة لأنه تذكر بأن وشاحه الأحمر قد يكون عند أديب مكي أو ستار كاووش أو أبو جحيل*.
***
المكان شبيه في بعض أيام الصيف بطائرة تحلق في الفضاء.. صوت التبريد كأنه هدير.. ومن الباب الى النافذة يذوب سمير ماداً يديه وكأنه سائر في نومه:
- هلو.
يشحنها بكل الضوء بعد ان يقولها ثم ينطفئ. يطرق قليلا و أصابعه الناحلة تمس جبهته مساً رقيقاً ويدخل الى عطلة الكلام لكي لا يأتي اليه أحد او يذهب الى احد. يصوب نظره الى النوافذ دائماً بلا شوق.. بلا توق.. بلا هوادة.
قالت نجاة وهي تقلب صحيفة الثورة:
- لا تأت.. انما تعال.انها قصيدة لكزار حنتوش.
قال حميد:
- تواً رأيته متجها الى الكراج يريد الذهاب الى الديوانية.
قالت نجاة:
- كزار حنتوش؟ حقاً؟؟
قال حميد:
- نعم.
قالت نجاة:
- كزار حنتوش جنونه طبيعي.. وجنون نصيف الناصري مفتعل.
قلنا لها:
- كيف عرفت؟
قالت نجاة:
- العيون نوافذ.
قال سهيل:
- طبعاً.
قالها وهو يضحك. اذ لا يستطيع أن يدع أي موضوع يمضي بلا جملة ساخرة تشيع الخبر الذي قيل أو الضجة التي ثارت حوله الى مثواها الأخير. فهو هابط الينا من كوكب آخر لا مكان فيه للأمل او الفرح او النجاة وقد نسوه اهله على كوكبنا وعادوا أدراجهم، ولهذا فان حزنه على اهله البعيدين وحنينه اليهم يتقافز حوله مثل الزيزان. انه يسير وتلك الزيزان تتبعه وتتقافز حوله لتتحول احياناً الى اطفال واقزام وعفاريت وافكار غريبة.. انه يخشى في كل لحظة ان يخون نفسه، وهو جهنمي في قلبه وعقله وقد شبهته ايمان ذات يوم بنمر فائق الوحشية والجمال رأته في عدد من أعداد مجلاتها الفرنسية التي تترجم منها مواضيع الى العربية.
في نفس المكان تولد ايمان كل يوم.. كأنها ترى العالم للمرة الاولى لتتجاهل خطاياه عن قصد وتعجب به عن براءة عجيبة تشبه الغفلة.
- ولكن العيون نوافذ.
قالها سهيل ومضى ..فاهتزت أإكتاف سعد من الضحك ثم انسحب بلا مقدمات لأن فاروق يوسف ينتظره في الطابق الثالث.
***
الوقت ضحى :
يتساقط القداح كالمطر الحليب هذه الايام من الشجر الى الارض ..بعد ساعات سينتهي الربيع ويذبل هذا البساط الابيض من القلوب الصغيرة الضاحكة بعد ان تكون قد تفتحت لغبار الطلع بكرم بالغ واودعت الحدائق خلاصة روحها وعصارة عطرها الأخاذ .
انتشلتني الرائحة من انشغالي.. انه عطر يتضوع في مكان ما من المجلة هو مزيج من الجوري والقداح وأريج لفافة انثوية لها ترف ثياب أنيقة..
- من أين تأتي الرائحة؟
- انها ملاك.
مدت يدها الى كيس كبير وأعطتني حفنة من القداح ثم قالت بخدين ضاحكين:
- تخدشت رجلي وانا اجمعه من الحديقة ليلة أمس.
وكانت والكيس في يدها تشبه اميرة من الاميرات تكافئ الآخرين على صنيع قاموا به. في ذلك اليوم كان حمزة مصطفى قد كتب عموداً في القادسية طالب فيه القصاصين والروائيين بكتابة القصة الواقعية والرواية الواقعية عندما كان التلفزيون يعيد عرض ثلاثية نجيب محفوظ. قال سعد هادي:
- فعلاً لماذا لا يكتب القصاصون قصصاً واقعية؟ ولماذا لا نكتب الان بعد ان حدث ما حدث؟*
قلت:
- الا تصلح اسماء مثل عباس وكاظم وعمر لكي تكون ابطالا في القصص العراقية كما هي فرناندو وساليناز في قصص امريكا اللاتينية؟
قال سهيل:
- هذا لأننا نستنكف من واقعنا.
ثم أضاف:
- ان الرسام العراقي يشعر بانه أذكى من واقعه ولهذا فانه نادراً ما يرسم البيئة المحلية.
قال سعد:
- الكاتب العراقي يشعر بأنه أذكى من القارئ والناقد أيضاً يشعر بأنه أذكى من القاص وهكذا يضيع النص بلا قارئ بلا ناقد وربما بلا كاتب أيضاً.
سألته:
- هل قرأت الثلاثية؟
قال سعد:
- اني اقرؤها الآن بعد عرض المسلسل.. انها شئ مذهل.. لغة متماسكة وسبك رائع للأحداث
قلت:
- اشعر انه لا يمكنني أن أقرأ أي عمل قديم لنجيب محفوظ أو غيره وكأ ن للأعمال القديمة مواقيت.
بعد يوم واحد جاءني سعد بكتاب " نجيب محفوظ يتذكر" وطلب مني قراءته لأن فيه استعراض لطقوس وعادات الكتابة عند نجيب محفوظ.وسعد كان مولعا بشارع المتنبي وشراء اي كتاب يستهويه من هناك في الفن او الادب او السياسة.وكان احيانا ياتينا بكتب لانعرف كيف يحصل عليها لادباء في المنفى مثل فاضل العزاوي وسعدي يوسف وابراهيم أحمد.أما روايات مثل العطر والصقر وصحراء التتار فكنت اقراها عن طريق أشخاص مثله.
قال:
- محفوظ كتب الثلاثية في الاربعين ..وقبلها كتب خان الخليلي والقاهرة الجديدة والسراب وعبث الأقدار ومجموعة الروايات التاريخية وانظري الان أبناء جيلنا يقتربون من الاربعين وليس لهم من الاصدارات سوى مجموعة أو مجموعتين.الكتاب يروي كيف يعمل نجيب محفوظ لساعات منتظمة جدا ويومية بين شهري أكتوبر وأبريل ثم يتوقف بعد ذلك في أشهر الصيف.
ثم تساءلنا بعد ذلك أيمكن لكاتب عراقي أن يكون بهذه الدرجه من التنظيم والدقة ؟وهل يمكن اخضاع الشخصية العراقية ذات التقلبات الحادة وهوجات الارتجال ونوبات الانطفاء ثم الاشتعال لمثل هذا النوع من النظام المجنون؟
دخل سمير وحيا بابتسامة تراجعت قليلا مع ظهره الى الوراء وكأنها اجفالة خاصةبه توحي بأن نظره قد سقط على شىء مهم أو مفاجأة سارة. بدا مهموما بعض الشىء و السؤال الذي وجهه سمير لحميد بات يتكرر في الاونة الاخيرة:
-أيحق للمالك أن يخلي البيت بحجة أنه متضرر؟
قال حميد:
-الا اذا كشفت عليه اللجنة.
-وان كشفت وحكمت للمالك؟
-تستطيع أن تستأنف .
صمت سمير منسحبا عند هذا الحد ..اكتفى..فقال حميد:
-اسألوني فأنا أكتب تحقيقا عنوانه " كل البيوت أسرار الا بيوت الايجار".
لملم سهيل فمه بعضه على بعض وسأل:
-ألن يحدث شىء؟
- شىء مثل ماذا؟
- أي شىء.
ثم هز رأسه بيأس وقال :
- هاي هية.
***
جميعنا أخلف التحدي الا هو فقد خرج منه، وياللعجب، برواية وقد كنا اتفقنا أنا والبيضاني وسعد على أن نختتم العام الماضي* بكتابة كل واحد منا لرواية وعندما كتب رياض قاسم قبل أيام يبشر بالرواية التي كتبها سهيل وهي لما تزل بعد مخطوطة سألته:
- فعلتها أخيراً.
قال:
- انه الخوف من الموت.
فاجأني جداً بقوله.. فاجأني وأدهشني لأنه يكتب تحت وطأة هذا الاحساس بانجاز شئ مهم قبل أن يموت. اذن حتى انت يا ابا ياسر تريد في النهاية ان تترك شيئاً للخلود.. انت الذي طالما سخرت من حماستنا وهوجاتنا وأوهامنا ودعوتنا مخلصاً خالصاً غالياً فانياً الى التخلي عن كل أمل والتشبث بأعناق اليأس حتى النهاية حتى أنت تاقت نفسك الى الأبدية.. فكيف ستخون نفسك. قلنا له مازحين:
- ان كانت الرواية جيدة سنقبل اليدين التي كتبت الرواية.
نظر الينا بنظرته التي تحضن الآخر كالطوق:
- الرجال فقط.. والنساء يقبلنني في وجهي.
ولم يخن سهيل نفسه.. فقد ادعى ان رياض قاسم قد أضاع المسودة التي معه.
هكذا أسكتنا سهيل عندما ألححنا عليه بنشر تلك الرواية.
***
أفاق صباح يوم ربيعي جميل، تبين فيما بعد انه يوم عيد الفصح ،على صوت منى وهي تقلب واحداً من مجلاتها الألمانية. قالت:
- العالم يمتلئ بالبيض الملون.. انظروا الى الصور ما أجملها.
قال حكمت:
- في القدس سيسيرون اليوم في طريق الآلام نفس الطريق الذي سار فيه المسيح حاملاً صليبه قبل ألفي عام.
ثم أضاف متسائلاً باهتمام:
- أغنية المسيح لعبد الحليم حافظ لحنها علي اسماعيل. اليس كذلك؟.
قال سعد:
- بل بليغ حمدي.
مكالمة واحدة من الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد قطعت هذا الاختلاف وأثارت نقاشاً طويلاً. الشاعر وهو يداوم في طابق الوزير من البناية نفسها كان قد قرأ لي قصةً عنوانها "الحسناء والوحش" نشرتها في جريدة الجمهورية وعندما أدلى برأيه دار النقاش وتشعب في أكثر من طرف وكان حول الشاعر لا حول رأيه بقصتي.
- "الحر الرياحي" عمل كبير ولكن...
- قصيدة "أولادنا" قصيدة رائعة ولكن...
- ولكن...
- ولكن...
- ولكن ماذا؟هو شاعر كبير .
قال حكمت:
- اذن عندما يختلف اثنان على أثر فني يأتي دور النقد لكي يقول كلمته. قلت:
- وما حاجة الشاعر الى النقد؟
قال:
- ان النقد هنا فن وابداع.
قلت:
- انه ينبه القارئ الى أعمال الكاتب وقلما يقوم بغير ذلك.
قال:
- لا.. هذا تسطيح لدور النقد. الطيب صالح كان مجرد مذيع وعندما كتب عنه رجاء النقاش أطلقه كالصاروخ.
- اذن هو يكتشف فحسب.
- لا.. لا.. القارئ هو المكتشف.
- ثم انها قضية مستقبلية ان يقول النقد كلمته ليفيد الأجيال القادمة من الدارسين والقراء.
- لقد أصبحتم جادين.
وغادرنا سهيل باستياء لأن الموضوع أصبح جاداً وهو الذي، عندما يشاء طبعاً، يسخر من كل شئ ثم عاد بعد لحظة وهو يفرك جبهته بيديه ويزيد من شحنة الامتعاض على وجهه:
- لماذا لا تسخرون من أنفسكم؟ لماذا لا تسخفون كل شئ. أنا ما أن ابدأ نقاشاً فيه جمل من هذا النوع الذي تستعملونه الآن حتى أقول بعد قليل (لك سهيل من كل عقلك؟).
ثم رمى عقب سيكارته بعيداً وخرج من القسم الثقافي وحط بدله حميد قاسم كطائر خفيف الوزن لا يسمع لمشيه صوتاً.. وزهراء حسن تشبه تلك المشية نقلاً عن داليا رياض مزهر بالسير صعوداً الى قمة جبل. كان يحمل بيديه ديوان "أسمال" لجان دمو.. قال عنه:
- انه الديوان الأول والأخير*.
وسمعنا صوت هدير طائرات تحلق بانخفاض سادر فتسائلنا:
- ما هذا؟
قالوا:
- انه عيد القوة الجوية.
. قال حميد بعد قليل وهو يقلب العدد الاخير من المجلة بين يديه:
- ياسين طه حافظ يريد تنويها لأننا نشرنا صورة مجلات الثقافة الأجنبية على موضوع الأكياس الورقية.* يقول ان مجلته لا تتحول الى أكياس وأن النسخة منها تباع بخمسة دنانير.
قلت له:
- نحن قصدنا كل المجلات والكتب في التحقيق ولم نقصد مجلته.
قال ستار:
- شطلعت هاي.. باسم زعلان.. وياسين زعلان.. وستار ناصر زعلان.. بعد الآن سأرفع اسمي من التحقيقات.
قال سهيل:
- لا تجعل من نفسك مهماً ومكروهاً.
قال ستار:
- والله بدأ يكرهني الجميع بسبب ألف باء.
ثم أردف مازحاً:
- يللة. ألف باء ولا عدو واحد.
وكان هذا عنواناً لعمود نشره البيضاني بعد أيام من موقف اتخذه عبد الستار ناصر اتجاهه بسبب من رأي قاله ناصرفي أحد النقاد ولم يكن مقصودا للنشر. قال سهيل:
- ما كان يجب أن تنقلوا رأياً عدوانياً بناقد لمجرد أن أديباً ذكره.
ثم أطفأ سيكارته ومضى مخفوراً لقراءة مواد المجلة. فقلت لستار وانا اشاكسه بابتسامة:
-الثناثيات.
قال وهو يتأهب للدفاع بين الجد والهزل:
-مابها؟
قلت:
-فيها حوار قليل وسرد كثير.
***
النقاش الذي أثرناه أنا وسعد قبل أيام حول العودة الى الواقعية في الكتابة أثارته نازك الاعرجي هذا اليوم عندما جاءت للمجلة لكي اجري معها حوارا.قالت:
-أين صورة الواقع في كتابات ادباؤنا؟ ان أي قارىء لو قرأ الادب العراقي مجتمعاً لما خرج بصورة واضحة عن المجتمع العراقي كما هو الحال مع الادب المصري مثلا.
قلت لها:
-الظامئون رواية واقعية والرجع البعيد رواية واقعية والمبعدون رواية واقعية والوشم رواية واقعية والنخلة والجيران رواية واقعية.
قالت بطريقتها الحادة:
-فلتة الزمان .بيضة الديك.
- أعمال مهمة كثيرة كتبت و تكتب الان .
ولم تنتقل عدوى التفاؤل اليها بل بدا على وجهها يأس مخلص فيه حزن ورغبة في التواصل .قالت:
-معركتنا مع الغرب ثقافية ..انظري ماذا يفعلون بالثقافة .اول شىء فكروا بترشيقه بعد احداث* اب هو الثقافة*.
طلبت من قسم التصوير ان يبعثوا بالمصور لكي يلتقط صورا من اجل الحوار فقالت نازك ضاحكة وقد تغير مزاجها فجأة:
-زين؟
-الحوار أم الشكل؟
قالت وهي ترتب شعرها:
-لا شكلي.
قلت لها :
-جدا.
قالت:-عندما امتدح تبدر مني ردود أفعال غريبة.
قلت لها:
-كيف؟
قالت:
- يمكن ان اضرب.
وضحكنا والتمع فلاش الكاميرا عدة مرات.
***

صحيفة ومجلتان وثلاثة كتب على المكتب نظرت اليها فاستغربت كيف صمد تايتل "افاق عربية"
كل هذه السنين ولم يتغير عشرات المرات كما حدث مع الاقلام والاعمام والاخوال والاباء والاجداد
افترشت مجلة الاقلام امامي وكان قلمي يؤشر على ملف البريكان مرة اخرى.تساءل حميد عن السبب الذي يدعو شاعرا ما الى العزوف عن نشر قصائده ان لم يكن خالي الوفاض من الموهبة، وعقب سعد قائلاً بأن ماتوقعناه من شاعر صامت طوال هذه السنوات كان أقل مما قرأناه وقلت:
- إن هذا الموقف بحد ذاته هو مما يحسب لهذا الشاعر لا مما يحسب عليه وإن قصائد" النهر الغامض" المنشورة مع الملف أذهلتني *.
قال حميد:
- تخيلي شاعراً يضع قصائده في صندوق بريد.
قال سعد:
- بل في البنك.
قال حميد:
- لماذا لا ينشرها إذا كان يشعر بأهميتها؟
قال سعد:
- يبدو أن الهالة التي تحيط به أكبرمنه.
ثم دار الحديث طويلا جدا عن بعض الاجماعات التي تحدث في الوسط الادبي ويصبح امر الخروج منها صعبا للغاية ولما وصلوا بالحديث الى أحد كتاب الستينات في العراق دخل عبد الستار ناصر وقال لحكمت على الفور:
- أريد أن أجعلك بطلاً لقصتي.
ثم أضاف:
- سأجعل من جميع أصدقائي أبطالاً لقصصي وأولهم رباح نوري.
قالت نجاة:
- يقول رباح هل من العدل أن يكون إسمي رباحاً ويكون إسم خسرو الجاف خسرو؟*
وضج الجميع بالضحك واستدار الحديث بدرجة مئة وثمانين درجة من الشاعر محمود البريكان الى مقهى حسن عجمي.
***
الوقت ظهراً...
ستار كاووش يرسم شيئاً ما على جدارية الأمنيات التي يعلقها حميد قاسم في قسم مجهول الإسم يسميه سمير علي مازحاً بقسم العباقرة*
عقد سهيل حاجبيه ورسم على وجهه تعبيراً للامبالاة:
- أقول لكم، السقوط الحر هذه رواية رديئة.
ضحك حكمت ثم قال:
- إن رأيك يشبه المرتبة بين منزليتين لدى المعتزلة.
قال سهيل:
- ولكنها رواية رديئة.
قال حكمت:
- السبب قد يعود للترجمة.
قلت له:
- إن وليم كولنج هو ليس كاتباً من الدرجة الأولى، وإله الذباب هي عمله الافضل.
قال حكمت:
- لدي نسختها بالإنكليزية.
قال سهيل ساخراً:
- لدي نسختها بالعربية.
لوى سهيل رأسه تفاديا للدخان ثم ألقى جملة من جمله الإعتراضية غير المرتبطة مع ما سبقها من حديث وقال لي قبل أن يخرج:
- سامي يسلم عليك.
قلت :
- كونديراً أو بورخيس أو ماركيز أو كوبوتا، بعد أن قرأناهم يبدو كاتباً مثل وليم كولدنج ليس بذي شأن . حياتهم هائلة ، لا يمكن قياسها بأي حال من الأحوال بحياة أي كاتب من كتابنا، شوف الغابة الضائعة لألبرتي ، هذه ليست مذكرات وإنما دليل هاتف ، لاتوجد صفحة لاتوجد فيها أسماء لعشرات الفنانين والكتاب والأدباء والممثلين .
قال حكمت وهو يستعمل مفردة موصلية في الحديث :
- امي .هذه حياة مثقفين.
وضحكنا لتلك المفردة الجميلة وقبل أن يتلاشى ضحكنا انفجرعبد الستار ناصر يبكي من شدة الضحك على نكتة رواها كاووش عن مقهىحسن عجمي، ونهض عبد الستار البيضاني يستقبل يوسف العاني بالممازحة والمعاكسات.
قال يوسف العاني:
- صباح الخير والسرور.
ثم وضع معطفه الكحلي الأنيق وبيريته على الكرسي الوحيد الذي يتغير عليه الجالسون أمامي وكأنهم يمرون مرور الممتحنين على كرسي من كراسي الاعتراف.
قال يوسف العاني وهو يستوي على المقعد:
- ذاهب إلى برشلونة.
قال سعد ضاحكاً:
- إن المواصلة يجمعون درهماً درهماً ثم يعطونها لواحد منهم كي يذهب إلى السينما ويشاهد الفلم ثم يعود ليرويه لهم.
قال يوسف العاني:
- ماذا تريدون من برشلونة؟
قلنا:
- أن تحكي لنا الفلم طبعا.
صوت عبد الحليم حافظ من مذياع نجاة ارتفع فجأة فنهضت اليه ايمان بخفة القطط وجلست أمام المذياع تتنصت بخشوع الى الاغنية.. ذهب يوسف العاني الى مكتب ابتسام حاملاً كلمة الافتتاح التي سيلقيها في برشلونة لكي تترجمها الى الانكليزية.. ثم خرج سعد بعد ان أعاد لي "ظلال على النافذة" لغائب طعمة فرمان وجاء سهيل بعد قليل وهو يريد الاستفسار عن بعض العناوين وكان يردد أحياناً بصوته أغاني عبد الحليم بأداء متقن فيه شجن عميق وعندما نشترك كلانا في الدندنة ترنو ايمان من مكانها خلف الزجاج وتتطلع الينا بصمت ونظرات حالمة ثم تبتسم وتحثنا الى مزيد من الغناء. خرج حكمت آخذاً معه "ظلال على النافذة" بعد ان اعاد لي "خفة الكائنات التي لا تحتمل".
***
قال البيضاني لمقداد عبد الرضا:
- كل صورك يامقداد بنظارات.
قال مقداد:
- هذه واحدة بلا نظارات لماذا تريدونها؟
- من أجل أن يرسمها مؤيد نعمة لباب جديد*.
- ومن سيكتب عني؟
- حميد قاسم.
- أيمكن أن أرى ما كتبه؟
- سنجعلها مفاجأة.
- أين سمير؟
- كم الساعة؟
- العاشرة.
- اذن لم يأت بعد.
- ألو هذه الصورة افقية نريد صورة غيرها.
ثم دار الحديث عما يجري في أماسي اتحاد الادباء من اشاعات واحكام واتفاقات تعلي من شأن هذا وتحط من قدر ذاك دون أن يكون هذا قد قرأ لذاك او ذاك قد قرأ لهذا ..فقد كان اليوم أربعاء ويوم الاربعاء في الف باء يعني يوم اللقاء ويوم الحضور لان العدد الجديد من المجلة يصدر في ذلك اليوم فيكون القسم الثقافي كامل العدد.كان يوسف العاني يمتدح القيمة التي تطبخها زوجة مقداد وتوزعها على الجيران وبلاسم محمد يبحث عن كتب في البنيوية يحتاجها في دراسة الماجستير وخضير الحميري يقلب العدد الجديد من المجلة .. أما علي عبد الامير فكان يحدثني عن كاسيت جديد لفيروز أنزلها فيه زياد الرحباني من السماء الى الأرض وكاسيت آخر فيه اصوات ولغط كثير ويسألني عن رأيي بأمسية موسيقية لحسن المفتي وسلطان الخطيب فقلت له اني استعرت من اغنية العاج والابانوس لستيفي وندرعنواناً للموضوع الذي كتبته عن تلك الامسية .
أمين جياد كان يجري حواراً مع مصمم للباجات من أهل الموصل وسمير علي يعيب على ستار لأنه ظلامي وحكمت يقول لحميد انه ينوي جمع أجمل ما قيل من ابيات الغزل في كتاب منذ الجاهلية وحتى مظفر النواب. ثم سال أحدهم فجأة:" ريا وسكينة هل كرم مطاوع مخرجها ام حسين كمال؟".
هؤلاء هم المقيمون في الغرف الزجاجية من الطابق الخامس شبهها علي زين العابدين بانها مثل حافظات الخدج في مستشفى للولادة. وواحدة من هذه الغرف الزجاجية هي غرفة القسم الثقافي يدخلها كل يوم بعض كتاب ورسامي المجلة مثل تركي جودت "أبو عادل" و بلاسم محمد وخضير الحميري وحسن العاني وسهيل سامي نادر ورضا الطيار وعباس فاضل الذي كان يدور على مكاتبنا كل يوم لكي نضحك معه على الرسوم التي يدفعها للنشر ويدخلها أغلب الذين يجيئون الى المجلة من خارجها أناس كالملائكة كنا نفرح عندما نراهم في باب القسم الثقافي من أمثال يوسف الصائغ ويوسف العاني وخزعل الماجدي وعلي عبد الامير وعباس جاور ومقداد عبد الرضا وعبد الرحمن الربيعي وعلي المندلاوي وعبد الرزاق المطلبي وصلاح محمد علي وفاروق سلوم ورعد عبد القادر ووارد بدر السالم وصالح هويدي وصفاء صنكوروجواد الحطاب ومحمد شمسي وموسى كريدي ومالك المطلبي وعبد الاله أحمد وفاضل ثامر وعناد غزوان ولطفية الدليمي وسهيلة داود سلمان وسهام جبارونازك الاعرجي وارادة الجبوري ووداد الجوراني وكزار حنتوش وحسن النواب وذكرى محمد نادر وعبد الخالق الركابي وجان دمو وغازي العبادي وخضير عبد الاميروعيسى الياسري وأديب كمال الدين وعبد الرحيم ياسر ومؤيد نعمة وضياء الحجار وحسين الحسيني الذي كان مكتبه في ديوان الوزارة قد تحول الى ملتقى للادباء ووسيلة للاتصال بهم ومعرفة ارقام هواتفهم.
يلتقون كل يوم ويفترقون..وحيث يكون هناك قسم ثقافي تكون حياة وأوراق وأسئلة لا تنتهي و أذكر أني في اوائل ايامي في ألف باء كنت أجد عادل كامل وهو أقدم محرري القسم الثقافي يستدعي الاثاريين والتشكيليين والفلاسفة والنحاة من بهنام ابو الصوف وفوزي رشيد الى مدني صالح وخالد الرحال وجلال الحنفي ويجعلهم يجيبون،بحكم المحبة والميانة ، على أي سؤال يريد. واني لأذكر جيداً في أول اجتماع لي مع هيئة التحرير ان عادل كامل قال عن آخر حوار أجراه مع خالد الرحال انه سبق صحفي فقال له كامل الشرقي وكان رئيس التحرير في حينها وهو يضحك: الفضل في ذلك يعود لعزرائيل وليس لك ياعادل.هذه هي طريقة الادباء في الحوارحتى في لحظات الجد وفي ساعات اللقاء الحميمة يكتبون حياتهم ضحكات وكلمات وسلامات وحكايات ولا يمانعون ان يجيبوا بحكم الموقع الذي يصعدون منه لسيارات الاجرة، على اسئلة من نوع:
- لماذا توقف برنامج "الرياضة في أسبوع"؟
- لماذا اختفت مديحة معارج من الشاشة؟
- لماذا تطلقت فيروز من عاصي الرحباني؟
انهم يتركون للمقادير مواهب كبيرة مؤجلة مع الزمن.. مع انتظار اليابسة... مع أخبار أرض البلديات التي قيل فيها لا يأس مع الارض ولا أرض مع اليأس.. مع انتظار البان الجمعية يومان للجبنة ويوم للتدافع على لحوم الفضيلية. مع نصف طبقة من بيض المائدة الذي تبرعت خالدة بالمجئ به كونها تملك سيارة برازيلي حمراء اللون ولما تأخر البيض كثيراً كتبت لها ميسلون ملاحظة تقول:
احسميها ياخالدة
اين بيض المائدة
ذاب قلبي او فؤادي
في انتظار الفائدة
كل يوم نلتقيك
تيتي تيتي عائدة
يبدو ان البيض كله
من دجاجة واحدة
مع اين وصلوا بنقاط المصرف الاشتراكي الذي يقع في الجهة المقابلة من الشارع.. مع منتجات الجلود التي وزعوها يوم الخميس حيث لا يداوم الكثيرون، فقال محسن حسين حصلتم الحقائب واكلوا عليكم الاحذية. مع منتجات الكوت والموصل التي كانت تاتي على شكل اكوام من الاقمشة والجواريبات ذات الالوان الغريبة. مع دجاجة رمضان التي قيل ان فنانا مسرحيا مات قبل ان يتذوقها ..مع لوحة باهتة الالوان لاتلفت الانتباه معلقة في غرفة رثيس القسم الثقافي حولتها تواقيع عشرات الفنانين والادباء وتعليقاتهم عليها الى اوتغراف عملاق وصورة جميلة تترجم أياما باهتة كنا نحاول أن نوهم أنفسنا بأنها حياة ذات معنى*.
( الشخصيات حسب ظهورها في النص ) : -
1 . عبد الستار كاووش : رسام .
2 . عبد الستار ناصر : قاص وروائي .
3 . عبد الستار البيضاني : قاص وروائي .
4 . حميد قاسم : شاعر .
5 . منى سعيد : مترجمة .
6 . عبد الرزاق عبد الواحد : شاعر .
7 . أديب مكي : رسام .
8 . سمير علي : مترجم .
9 . نجاة عبدالله : شاعرة .
10 . كزار حنتوش : شاعر .
11 . نصيف الناصري : شاعر .
12 . فاروق يوسف : شاعر .
13 . سهيل سامي نادر : ناقد تشكيلي .
14 . ايمان فاضل : مترجمة .
15 . سعد هادي : قاص وروائي .
16 . ملاك : مصممة .
17 . حمزة مصطفى : ناقد .
18 . رياض قاسم : صحفي وناقد .
19 . حكمت الحاج : شاعر .
20 . جان دمّو : شاعر .
21 . زهراء حسن هاشم : قاصة .
22 . داليا رياض مزهر : شاعرة .
23 . ياسين طه حافظ : شاعر .
24 . نازك الاعرجي : ناقدة .
25 . محمود البريكان : شاعر .
26 . رباح نوري : شاعر .
27 . خسرو الجاف : كاتب .
28 . يوسف العاني : فنان .
30 . إبتسام عباس : مترجمة .
31 . مقداد عبد الرضا : فنان .
32 . مؤيد نعمة : رسام كاريكاتير .
33 . علي عبد الامير : شاعر .
34 . أمين جياد : شاعر .
35 . علي زين العابدين : كاتب درامي .
36 . محسن حسين : صحفي .
37 . خالدة حسن : صحفية .
38 . تركي جودت : شاعر ومدقق لغوي .
39 . بلاسم محمد : مصمم وفنان تشكيلي .
40 . خضير الحميري : رسام كاريكاتير .
41 . رضا الطيار : ناقد فني .
42 . حسن العاني : صحفي وقاص .
43 . عباس فاضل : رسام كاريكاتير .
44 . عادل كامل : ناقد تشكيلي وقاص .
45 . كامل الشرقي : رئيس التحرير .
_______________________________________________________

هوامش :
* هذا القاموس كانت منى سعيد تدور به نهاية كل عام على المحررين وهيأة التحرير لكي يكتبوا أمنياتهم للعام الجديد.
* ابو جحيل هو الفنان جواد الشكرجي في إشارة الى مسلسل ذئاب الليل الذي كان يعرضه التلفزيون في بداية التسعينات .
* المقصود الغزو العراقي للكويت وما تلاه من حرب وحصار .
* المقصود بالعام الماضي في النص هو العام 1992 .
* وفعلا كان هو الديوان الاول والاخير وكأنما تنبأ حميد قاسم بذلك قبل وفاة جان دمّو بعدة سنوات.
* في إشارة الى تحقيق عن تحول اوراق المجلات الثقافية الى اكياس ورقية في اعوام الحصار . وقد كتبنا فيما بعد عن الكثير من الظواهر التي لازمت تلك الاعوام وكان من بينها كثرة الوفيات بين الادباء وبيع المكتبات الشخصية في شارع المتنبي .
* المقصود بالاحداث هو الغزو العراقي للكويت .
*اذ قاموا بتقليص صفحات المجلات واعداد الكتب الصادرة وتباعدت فترات اصدارها.
* نشرت مجلة الاقلام ملفاً وافياً عن الشاعر البريكان وكان ذلك قبل مقتله بعدة اعوام وبمناسبة هذا النص الاسترجاعي انوه مرة أخرى بقصيدة ( النهر الغامض ) الموجودة في الملف .
* يقصد هل من العدل أن يكون أسمه رباح وهو فقير واسم خسرو الجاف خسرو وهو غني .
* هو قسم يضم سمير علي وحسن العاني وحميد قاسم وعبد الستار البيضاني وكان يعنى بالكتابة عن المدن العراقية واغلب محرريه يداومون في القسم الثقافي .
* الفنان يوسف العاني يزور المجلة بين يوم وآخر بحكم كتابته لعمود اسبوعي فيها وسكناه في مكان قريب .
* رسم مؤيد نعمة ايضاً لوحة للجواهري لتكون غلافاً لمجلة الف باء إذ قيل حينها ان الجواهري عائد الى العراق ولكن الجواهري لم يأت واللوحة سرقت .
* ربما تكون هذه اللوحة قد سرقت او أحرقت خلال الحرب على العراق إذ تم إحراق المبنى ونهب ممتلكاته بعد 9نيسان من العام 2003.
* في تحديث لا بد منه للمعلومات فإن الغالبية العظمى من الأدباء الواردة أسماءهم في هذا النص قد غادروا العراق بعد الحرب أو قبلها فنيابة عنهم واصالة عن نفسي أقول لبغداد معذرة عن هذا وذاك.