المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
16/05/2008 06:00 AM GMT
لماذا بدأ المثقفون العراقيون الذين عاشوا ويعيشون في المنفى بكتابة مذكراتهم وشهاداتهم الآن، بعد الحدث الكبير المتمثل بسقوط النظام السابق واحتلال العراق؟ سيكولوجياً، وبعد أحداث من هذا الطراز المخيف تظهر إلى السطح كل التجارب «الثاوية» التي كان يختزنها اللاوعي بصفتها تجارب مرة ينبغي دفنها في الطبقات العميقة لهذا اللاوعي بسبب آثارها النفسية المدمرة. يضطر الفرد الذي عاش تجارب قاسية وطويلة مثل التعذيب الجسدي والنفسي والسجن ولم يستطع أن يعالج الأمر في حينه من طريق مراجعة الطبيب النفسي، يضطر إلى تأجيل هذه الخبرات المروعة إلى لحظة يشعر فيها انه يستطيع الآن فقط أن يتقيأ كل هذه الآلام دفعة واحدة والى الأبد. هذا ما يحصل مع المثقفين العراقيين الآن وقد يستمر إلى فترة طويلة وغير محددة طبقاً لطبيعة التجربة الفردية لكل شخص. حتى الآن صدر الكثير من هذه الكتب، مرة على شكل مذكرات وأخرى على شكل شهادات وثالثة على شكل يوميات، والمبررات أو الدافع لكتابتها كما أشرنا، هو ظهور التجارب «الثاوية» إلى السطح وتوافر اللحظة النادرة لطرح كل هذه التجارب إلى الخارج والتخلص من عبئها الثقيل. كتاب «جمعة يعود إلى بلاده» للشاعر العراقي خالد المعالي (دار الجمل، 2008 ) لا يشذ في مضمونه العريض عن الكتب الأخرى التي صدرت في السنوات الخمس الأخيرة، إلا انه غير مترابط شكلياً لأنه لا يستند إلى حكاية واحدة وتختلط فيه المقالة السياسية بالحكاية والذكريات المرة. يتحدث المعالي أحياناً بصوته الصريح وأحايين كثيرة بصوت آخر هو صوت الضحية أو صوت الراوي، وفي الوقت الذي يبدو فيه المكان واضحاً للعيان ومتجسداً في رقعة مكانية محددة في شكل كامل هي صحراء السماوة مسقط الشاعر، نجد الزمن مترجرجاً أو متداخلاً وأحياناً غائباً تماماً. والسبب في كل ذلك هو اللغة التي أنجز بها الكتاب والقفز على التسلسل الزمني للسرد وطبيعة المادة المروية. حين يتحدث المعالي بصوته الصريح فإنه يتحدث عن السياسة وكأنه يكتب مقالة سياسية. وهو هنا يذكر كل شيء بوضوح بما فيه اسم الجلاد أو ضحيته، لكنه عندما يتحدث بصوت الضحية أو صوت الراوي تنقلب اللغة على نفسها وتتحول إلى لغة شعرية غارقة في التهويمات، تدور على نفسها في مونولوغ طويل. في الأولى يفصح وفي الثانية يلمح وكأن اللحظة التي انتظرها ثلاثين عاماً لم تحن بعد. توافرت لخالد المعالي فرصة نادرة لم يستثمرها حتى هذه اللحظة، ولو كان المعالي كاتباً وليس شاعراً لأتحفنا برواية فريدة من نوعها وتختصر المأساة العراقية من جوانب كثيرة. انه يختصر هذه الحكاية المرعبة بأربع صفحات ونصف صفحة وكأنه يبخل على القراء بها. في الفصل القصير «جمعة وتيمور الكردي» يكتب المعالي: «لم اكن أعرف شيئاً عن عمليات الأنفال - البطولية - وتلك هي تسميتها الرسمية، والتي كانت بيانات علي حسن المجيد تلعلع عنها عبر الأثير العراقي في برقيات إلى - القائد الضرورة - حتى ذلك اليوم من أيام العام 1993 عندما نشرت جريدة «دي تسايت» الألمانية الأسبوعية ملفاً أنجزه كنعان مكية تضمن حكاية تيمور، الصبي الكردي الذي استطاع وهو جريح الهروب مساء من مقبرة جماعية في صحراء السماوة، وكيف أنقذته بدوية وعولج وأخفي مدة سنتين حتى تم إيجاد أقرباء بعيدين له في الشمال العراقي، ذلك ان جميع أفراد عائلته راحوا ضحية عمليات الأنفال، وتم تهريب تيمور إليهم قبل غزو الكويت عام 1990 في عملية دبرها الدفء الإنساني والبساطة». البدوية التي وجدت هذا الصبي الجريح هي أخت خالد المعالي نفسه. تقول له بابتسار شديد إن نباح الكلاب غير الطبيعي جعلها تنظر إلى المكان الذي تنبح جهته الكلاب فشاهدت صبياً يزحف إلى خيمتها وكان جريحاً ولا يفهم اللغة العربية. انه الناجي الوحيد من المذبحة وبعد عامين من الكتمان يعود إلى أقرباء له في كردستان حيث ستنتشر الحكاية المرعبة في كل مكان من العالم مختصرة المعاناة العراقية التي لا يريد أحد تصديقها. هذه الحكاية التي يختصرها خالد المعالي بصفحات قليلة للغاية وهو يملك تفاصيلها الكثيرة تتوافر على كل مقومات الرواية الكاملة، خصوصا الواقعية السحرية. فالحدث الواقعي في هذه القصة لا يحصل إلا نادراً وبمحض الصدفة وشخصية البطل الغريبة: صبي كردي ناج من مذبحة في منطقة صحراوية تنقذه امرأة بدوية وفوق ذلك لا يجيد الكلام بالعربية. الزمان والمكان هنا إطاران ممتازان لجعل الأحداث تتمخض بهدوء عن نهاية في غاية الغرابة أيضاً حين نعرف ان هذا الصبي أصبح رجلاً الآن وهو يعيش في أميركا وتلتقيه بين يوم وآخر صحف وفضائيات من أنحاء العالم يروي لها بالتفاصيل حكايته التي لم يكتبها لا عربي ولا كردي حتى الآن.
|