جماهيرية الشعر

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
16/05/2008 06:00 AM
GMT



 في السؤال المتكرر عن الصلة بين الشعر وجمهوره اعتراف في أحد احتمالات صيغه المعلنة بأن الانقطاع حاصل من طرف الجمهور، وتكون المشكلة كامنة في قراءة الشعر وتلقيه لا في شعريته وأنساقه وأشكاله، فالجمهور هو الذي يمارس الانقطاع، بمعنى أنه يعيش هذه الحالة التي عانى منها الشعر طويلاً في تراثه البعيد والقريب -لنتذكر حركات التجديد لدى مُحدِثي العصر العباسي ومقابلة الجمهور لهم بالسخرية والتسفيه: لماذا تقولون ما لا يُفهم؟- والصد والرفض والتخوين الذي قُوبل به مجددو العصر الحديث: السياب وجيله من طرف المنافحين عن العمود أو القصيدة ذات الشطرين، واتهامهم بتهديم اللغة العربية والهوية.. رغم أن جلّ أشعارهم كانت في قضايا قائمة على لائحة التغيير وهموم الناس وحريتهم وحقوقهم.

ولكن المشكلة تكمن في التفكير بـ(جمهور للشعر) منفعل به على طريقة حفلات الطرب والأفلام، بينما نحلم بـ(متلق للقصيدة) متفاعل معها تأملاً وتأويلاً، فالشعر بطبيعة نَظمه والتعبير الرمزي عن معانيه ليس يسير التمثل والفهم، وقدره أن نخبة ثقافية -وليست طبقية- هي التي تُعنى به ويهمها أساليبه وأشكاله ورؤاه، لذا احتاج دوماً إلى شروح وتأويلات، ودوماً يقف أمام تطويره وتجديده وتحديثه ما عرف تكتلاً بالجمهور المستهلك له، والذي يراكم النوع الشعري كما يفهمه ليجعله ذخيرة يرفض بواسطتها كل ما لا يطابق أفق تلقيه المتكون عبر ذائقة جَماعية، نقترح استبدالها معرفياً وجمالياً بقراءة فردية يقوم بها المتلقي للقصيدة، فالجمهور يبحث عما يلبي مفهوم الشعر عنده بجانبه التطريبي الغنائي وبالتلقي الشفاهي- السمعي المنصاع للموسيقى الخارجية والمعاني المنكشفة من أول قراءة، فيما نرى أن القصيدة تعدّل النوع الشعري وتضيف إليه، لذا يجدر بنا قراءتها منفصلة عن تقاليد نوعها الشعري، لأن جيناتها ليست موروثة بالضرورة عن نصوص سابقة، وإلا لظلّ الشعر رجزاً وكلاماً منظوماً مباشراً في لغته وصوره وإيقاعه ودلالاته.

أما المقياس الكمي وتقييم الشعر بحجم الجمهور، فهو لا يصلح دليلا حتى في العالم، استناداً إلى العدد الشحيح للنسخ المطبوعة من الدواوين لأشهر الشعراء، والعدد القليل لحضور القراءات الشعرية والندوات في أهم القاعات..

ولا أظن أن الحياة اليومية وتراتب الأولويات ومفردات العيش وحدها سبب عدم تفاعل الجمهور، بل التبدلات الأساسية في الذائقة والتي تحتاج في العادة إلى زمن لتغير آفاق التلقي وتعديل موضع القارئ ليناسب التغيرات الأسلوبية، وهذا ما لا تقدر عليه إلا ثقافة ترقى إلى مدركات القصيدة وعوامل تلقيها، واستجلاء جمالياتها المتحولة.