عزلة القانط .. عزلة الرائي

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
11/05/2008 06:00 AM
GMT



حالة شاعر منزو كالعراقي حسب الشيخ جعفر تؤشر إلى غياب كثير من زوايا الدراسة والنظر لم تلتفت إليها الكتابة النقدية العربية التي ينبغي لها أن تأخذ هيئات وأشكالاً تناسب إيقاع القراءة اليوم وفضول القارئ فضلاً عن إشباع الدرس النقدي بما هو غير نسقي- أي عدم الاكتفاء بملاحقة الملفوظات النصية حصراً. بدعوى أن النصوص هي المعوّل عليها. فذلك صواب تماماً في الدراسة النقدية.

ذلك ما يفعله النقد في العالم وهو يتحرى الطبائع والحيوات والتجارب التي عاشها الأدباء والكتّاب والمفكرون: مراسلاتهم وتجاربهم ومذكراتهم ودراساتهم وعلاقاتهم.. لا لكي تزحف على قراءة نصوصهم وتغدو بديلاً عن تحليلها ودراستها، بل لتضيء جوانب منها وتثري حقلاً آخر خارج النصوص هو أقرب إلى تاريخ الأدب والأخبار بمعناه المتداول.

منذ أن نال حسب الشيخ جعفر جائزة العويس لم نعد نسمع عنه أو نعرف شيئاً، لقد عاد إلى بغداد منزوياً لا منعزلاً وبين الوصفين فرق حتماً، فانزواء حسب معروف في أوساط المثقفين العراقيين حتى أن مكانه اليومي في نادي الأدباء ببغداد كان ترميزاً لانزوائه، فهو لا يكتفي بمائدة ذات كرسي واحد، وفي زاوية قصوى في حديقة الاتحاد صيفاً وركن قصي في القاعة شتاء، بل يعمد إلى طلب إطفاء الأضواء القريبة منه حتى لا نكاد نرى بعد السلام عليه والانصراف إلى موائدنا إلا وميض ضياء سيجارته بين لحظة وأخرى، فنتذكر قوله في إحدى قصائده:

دخّن ودخّن

ليس غير الدخان

واسأل بقايا الكأس في كل حان:

كيف مضى الماضي وفات الأوان؟

تلك العزلة تتسع لتغدو موقفاً وجودياً لا يزج الشاعر في اليوميات وذيولها الكبرى أو الصغرى. لكنها تظل عزلة القانط وانزواءه لا عزلة الرائي بالمعنى الوجودي لأنها إذ تنعكس في الشعر تأخذ سمت القنوط، وهي مفردة كررها حسب كثيراً في شعره.

ثمة عزلات أخرى شهدناها تمثلت في الموقف من النشر كما فعل الصامت الكبير محمود البريكان الذي كان غيابه حضوراً أشد من التفاعل اليومي لكثير من أدباء العراق، بل كانت دراسة أشعاره تفوق وجوده الجسدي بين الأدباء، وقد مثلت لي زيارته في بيته بعض هذا الانعزال الرائي حين وجدته مطفئاً أضواء منزله الفسيح في حي مكتظ بالبصرة، بينما أضاء غرفة الجلوس بانتظارنا.. لكن ترامت في الغرفة كتب وصحف ومجلات تشير إلى صلة الرجل بعالمه ومتابعته لما يدور فيه.

إنه لم يدر ظهره إلا لعالم مليء بالزيف والمجاملات التي لم يعد يحتملها ولكنه لم يعاقب وجوده الثقافي أو يعدم حياته بتغييب صوته، وظل يكتب الشعر، ثم في فترات لاحقة أفلحنا في نشر كثير من جديده الشعري الذي قدمتُ نقدياً لأوله وهو مجموعة ''عوالم متداخلة'' في مجلة ''الأقلام'' حين كنت أعمل في تحريرها.