المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
24/04/2008 06:00 AM GMT
صدور الأعمال الشعرية لفاضل العزاوي (دار الجمل ـ 2007) يبدو متأخراً بعض الشيء إذا ما قورن بما صدر من أعمال شعرية لسائر أقرانه ومجايليه وحتى لاحقيه من شعراء العراق. فسامي مهدي وحميد سعيد على سبيل المثال أصدر كل منهما الطبعة الأولى من أعماله الشعرية قبل أكثر من عشرين عاماً! بيد أن هذا الإصدار المتأخر للأعمال الشعرية للعزاوي لن يبدو كذلك إذا ما قورن بإصداره الشعري الأول لديوانه، المتأخر كذلك، (سلاماً أيتها الموجةُ سلاماً أيها البحر ـ 1974) فحين صدر هذا الديوان كان العزاوي قد نشر كتابين سرديين هما «مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة ـ 1969» و«القلعة الخامسة ـ 1972» الشيء الآخر اللافت في صدور أعماله الشعرية، تقصُّدهُ عدم ضمِّ نص «مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة»، وهو طالما حرص على تجنيسه (رواية ـ شعر) وظل يشدِّد على أنه من بواكير الأعمال التي تقارب «النص المفتوح» ولعله أنس هنا ـ ربَّما تحت وطأة تسمية الأعمال الشعرية ـ لتجنيس «الشعر» وحده من خلال هوية شكله المنجز «القصيدة» بنموذجيها: النثر والتفعيلة، دون نعوت إضافية أو أوصاف مركبة. ومع هذا فإن هذا التداخل الإجناسي لم يكن ليثنيه عن ضمِّ «نصوص» لاحقة كتبت في نسق تعبيري يقترب إلى حد ما من «المخلوقات». وبينما تعود كتابة قصائد »سلاماً أيتها الموجة سلاماً أيها البحر« إلى الفترة الممتدة بين عامي 1960 ـ ,1970 فإننا سنكون ومنذ أولى قصائد المجموعة »في شوارع الجزيرة العربية« إزاء صرخة تلخِّصُ طبيعة الغضب الممزوج بروح «الهزيمة» نبرة خطابية لافتة: «ها أنذا أصرخُ في شوارعِ الجزيرة العربية في الريح وقفتُ أرى وطني ينهضُ من أعماقِ الأيَّام في صحراء حياتي مَرمياً في أقصى جَسدي نافذة للمستقبل فيما الأجراسُ تغني لِيْ». وعلى مستوى الشكل الفني سنجدُ مع «كاتدرائية العصافير ـ 1969» تجسيداً لفكرة أن القصيدة المكتوبة خارج الإيقاع، بنموذجها العراقي لم تأت من تلك المرجعية الفرنكفونية بتجلياتها ببلاد الشام، وإنما من جذور التباس التسمية في شعر الريادة العراقي بين «قصيدة التفعيلة» و«الشعر الحر» في الثقافة الإنكليزية، فحينما يدمج الشاعر العراقي الكتابة بالوزن مع الكتابة باللا وزن وهي ظاهرة ترتبط بتجربة الشعر العراقي بشكل واضح فإن تحوّل «قصيدة النثر» إلى شكل فني جديد في تلك التجربة يبدو ضعيفاً، وما هو وارد أن الوزن واللاوزن يتعاضدان في تشكُّل شكل شعري ثالث. « سائراً بين يثرب والقدس في الساعة 3 مساء قبل 1876 عاماً وقفتُ أمامَ كاتدرائية العصافير كان بدوٌ مُلثمونَ يُحدِّقون في أعمدةِ التليفون بغضب».. (قصيدة كاتدرائية العصافير) ليس الأمر هنا متعلقاً بشعر «قضية كبرى» ولا بشعر محض شكلي، وإنما بشاعر أسئلة صعبة وممضَّة، فمنذ الديوان الأول تكشف قصيدة العزاوي عن نموذج لشاعر عضوي في الثقافة العربية، لكنه يرسخ الهامش أو يوسع المتن نحو احتضان الهامش، أنه تجسيد ممتاز لصورة الصراع الذي يبدو النظر إليه الآن كرواية دونكيشوت لسرفانتس، نظرة تنوس بين الحلم والمغامرة من جهة، وبين العجز والضحك من جهة مقابلة. ولكنه ضحك كالبكاء يا فاضل!: «بكيتُ طويلاً بالطبع لألقي نظرةً أخيرة على جثمانِ بطلنا الهزيل ذاك الذي ضحَّى بأجملِ أيَّامِ عمره من أجلنا يقاتل طواحين الهواء بلا كلل!». فعندما بدا في مرحلة ما أن اليقظة تتحقق في سطوع فكرة الفرد بوصفه حاضنة كبرى للجماعة. كان نشيد البطل الذي يقود به الجماهير! (لنخرج على الشوارع وننسف العالم القديم بالقنابل) وهي الجملة التي لا يزال بعض أقرانه الستينيين يرى فيها تجذيراً لصوت العنف في الشعر العراقي، يجري تنقيحها «من المنفى» بصياغة لاحقة تقوم على نسف الناسف! (لنخرج إلى الشوارع) بينما تبقى العبارة ملغومة داخل النص: (نحلم أن نملأ أنفسنا بالأفعال أو ننسف وهم العالم بالعبوات) وهو ما يدفع إلى أهمية قراءة الأعمال الشعرية للعزاوي بنكهة القراءة الثقافية لا بمجرد الوقوف عند الحدود البلاغية والأدبية للنص: «أيقظوا العربيَّ الذي نامَ في جسدي ألفَ عام. أيقظوا وطني الوثنيَّ». واليقظة هنا ليست إيقاظاً شعارياً أو لفت انتباه بقصد الإحياء أو الاحتفاء به، لكنه إيقاظ بـ«الركل» وبالصدمة، وهو هنا هجاء لماضي ما قبل اليقظة وليس افتخاراً به. إنها «يقظة» تنزع إلى التحرر من «آخرين» يهيئون الجحيم باستمرار ومن هنا ينبثق سؤال الذات داخل كنف الجماعة، وبالتالي تشظي الأنا ببلاغة ساخرة: «هناك أحد ما يعرفني منذ الأبد يكتب لي قصيدة حياتي ويقدمها لي ضاحكاً» (قصيدة انتباه تقاطع) «وأخيراً من الذي يقول إن اسمك فاضل أيضاً». (قصيدة المعلقة الثامنة) وعلى الرغم من العنوان المضلل للكتاب من خلال تفاعلية مركبة الدلالات (البحر والموجة) إلا أننا نواجه في أغلب صفحات الكتاب مفردات من قبيل: ريح وصحراء وبدو ورمل وقوافل تائهة، لتبدَّى الجزيرة بيئة تاريخية مهيمنة تمثيلاً لهيمنة فكرة المنفى الداخلي، والشاعر يعيش هنا المنفى بالمعنى الزمني أو باغتراب هوية الذات في حاضنة جماعية تبدو مضادة للفرد، الذي يعكف من جانبه على استحضار التاريخ في (الآن هنا) وخلق مادة جدلية عبر بنية التصادم. ومع هيمنة بنية النشيد في جوهره، التي تتظاهر في الديوان (سلاماً أيتها الموجة سلاماً أيها البحر) من خلال الجملة الطويلة وتصادم العبارات التي لا تصل مع ذلك إلى حجم النشيد في امتداداته، فكأنها تنحاز للموجة وتتخلى عن البحر، يحضر في ديوان (الأسفار 1970 ـ 1971)، وخاصة في (تعاليم ف. العزاوي إلى العالم) تزاوج السرد مع الاختزال، الإيجاز مع الإطناب والتداعي الحر، بينما سنجد لاحقاً في قصيدة «في قارب دانتي» على سبيل المثال تجسيداً نموذجياً متقدماً لقصيدة النثر ووعيها شكلاً بصرياً وأداء فنياً داخلياً وبناء ولغة تقوم على التأمل والشحنة المكثفة. ومن الثورة التي تبدأ من الصحراء وضدها، إلى تجنب السير مع القوافل المهزومة والنوم عزلة الذات، تشتعل الدوائر المتوالدة بنوع من الانفتاح على «ثورات العالم» في شوارع مضاءة وبلدان بلا صحراء، والواقع إن الأثر الفعَّال لأشعار غينسبيرغ على جماعة كركوك (فاضل العزاوي وسركون بولص بشكل أكثر تحديداً) سيكون واحدة من سمات مرحلة ضاجة بثقافة موسيقى البيتلز وسلوك الهيبيز وشعارات الثورة الشبابية، مرحلة تقدم الهامشيين وكأنهم أنبياء المرحلة. وتجعل من جيل الستينيات جيلاً جذري التفكير والخيار، ومما عزز هذه القناعة تزامن صعود الطبقة الوسطى وسطوع فاعليتها للمرة الأولى في تاريخ العراق، وكما نعلم فإن هذه الحركات الاجتماعية والنزعات الثقافية ارتبطت بالطبقة الوسطى. وكما أحدثت حركة الهيبيز في العالم تحولاً في الموضة بإطلاق الذقن وشعر الرأس، وإعلان نهاية ربطة العنق والبدلة الرسمية كناية عن طبيعة ملابس الجوالين في البلاد، كانت القصيدة تتحرر، هي الأخرى، من كثير من رسمياتها وماكياجاتها وإكسسواراتها لتعلن عن تمرد حر على نموذج متوارث لمصلحة تجريب ينطلق ولا يقف عند حدود أو مقدسات. وبهذا الأفق الغامض والملتبس من الصحراء إلى نيويورك ومن البداوة إلى القنبلة الذرية تتجسّد تجربة فاضل العزاوي شاعراً تركيبياً، لكن مركبه قلق دائماً، فنراه حيناً مازجاً بين كاثوليكية إليوت الحيَّة، وتيه غينسبيرغ اللاتوراتي وعواءاته المتضورة تحت وطأة زمن القنبلة الذريَّة نيتشوية لتغدو إيليوتية مخففة بتحويل «البذاءة» إلى «نقد» أو بالأحرى مطعمة بجرعات من روح الستينيات التهكمية. وتارة نجد مزيجاً من ظلال لقرآنيات في الأسلوب البلاغي واستعارة الإرث، وصدى لثقافة شعبية تتعايش وتتداخل داخل نص العزاوي، مثلما تشتبك وحشة الصحراء مع ألفة المقهى أو البار، كما تنتعش أبدية الصحراء وتأملية السجن. ولهذا يمكن أن نصف ديوان الأسفار، بالنموذج النصي الأكثر تعبيراً عن روح الجوالة الستينيين، وثقافة التمرد بأكثر صورها تجلياً. أما في ديوان (الشجرة الشرقية 1976) تأخذ تركيبية العزاوي منحى جديداً عبر تعايش الأجناس وهو إذ يخرج من صحرائه قليلاً، ويعود من (أسفاره) بحكمة أقل فلكي يستدرج بطلاً آخر من (جبل البلور)، حيث يستحضر العزاوي شخصيته الشعرية أو القناع البلاغي المستعار الذي سيحكم النموّ العضوي والعصب الفني الأساسي لهذا الديوان. يخرج «عبد الله» شخصية هاملتية تأملية مستوحشاً في الوديان وغريباً في ساحات القرى وباحثاً عن نار العالم، يقطع ضفة الوطن نحو ضفة المنفى وهو سالك مضطرب العينين للطرق بين الظلمة والنور وهو يرى ما يرى في رحلاته بين المدن، ليرمي الحكمة في ساحات القتل ويمضي. لكن عبد الله الذي لا يني يذكر بالمصطفى في «نبي جبران» سرعان ما سيغدو رمزاً إليغورياً ستينياً متسعاً ومباحاً يتداوله شعراء ونقاد في أنساق تعبيرية مختلفة لخطابات أدبية متعددة، ما يجمعهم أنهم كلهم أدباء من جيل العزاوي: كحميد سعيد وياسين طه حافظ وماجد السامرائي وسواهم. وعبد الله (العزاوي) هو أكثر حكمة من بقية (عبيد الله)، لكنه فقير الحكمة أمام الطبيعة: البحر والوديان والجبل والنار، وهو ثوري مرة وعاشق تارة وناقم ثالثة، فهو شخصية متحوِّلة في زمن يشيد كرنفاله على إيقاع الانقلابات ولحظات التقلبات. يقوم الديوان على بنية حكائية محكمة النموُّ ومتقنة التمفصل قوامها تحولات الحكيم البهلول في مدن تبقى بحاجة دائمة لتجديد النبوءات وإحيائها بالوعظ والهداية. حكاية مأثورة طرفها واحد من الفاتحة إلى الخاتمة وإن استندت على راوٍ وبطل، ولعلَّ «الشاعر الروائي» فاضل العزاوي هو ما منح «الشجرة الشرقية» هذه الخصوصية في تكوين شخصية شعرية تتمثل في «عبد الله» البطل المحوري لفصول متلاحقة في عنوانات لقصائد متعددة. وهو منادى ومأمور من « آخر» أكثر سطوة وحكمة وعرفاناً، وهو منادى راءٍ يُصدر التعاليم ويمضي في آن آخر ـ وثمة توتر وتمفصل يحكم قصائد الديوان كوحدة وتتمة تتابع نموَّها العضوي لتصل مع أسئلة القناع في الخاتمة إلى نهاية مفتوحة توزع احتمالاتها المتعددة على كل شيء من شخصية عبد الله نفسها إلى فكرة الراوي وصولاً إلى القارئ نفسه الباحث عن سيرة القناع وانفصالها من شخصية الراوي في نهاية لافتة. تمتدّ الأعمال الشعرية على جزءين وعلى ضفتين في الكتابة (الداخل الخارج) أو بالمعنى السياسي ( الوطن المنفى ) هذان الجزءان يشبهان إلى حد كبير تلك المسافة المفترضة بين الضفتين، أكثر من ذلك تبدو الضفتان متداخلتين وتحل إحداهما محل الأخرى أحياناً في مشهد تطوقه المرايا. فالصحراء ليست تلك الجغرافيا الجافة والواسعة من الخلاء العمراني والوحشة فحسب، وإنما هي تلك اللحظة الضاغطة بقوة على الحاضر، ينتمي لها، لكنه يهجوها، يرتمي في أحضانها بعمق، لكنها يريد أن يقتلها في الوقت نفسه: «أملأ كيسي رملاً وأؤسس في المنفى وطني أنقلهُ تحت الأمطار إلى الوادي فيفاجأني رجل مطعون في القلب يناديني: أنت شقيقي» (قصيدة الصحراء). لكن ما هو كيس الرمل هنا؟ إنه معيار زمني لقياس التوقيت المحلي بالعالمي، مادة أولية، ساعة رمل خارج الصحراء ليس إلا، إذ لا يمكن لكيس من رمل أن ينشئ وطناً كافياً إلا من ذكرى بدائية. هكذا وابتداء من الوعي المبكر لفكرة المنفى يصبح الشاعر فيلسوفاً للوحشة، في ما سيلي من مراحل على الضفة الأخرى. ضفة الصحراء في قصيدة الصحراء. تلك الدراما التي تحركت في البيئة وبين أهواء الآخرين ستتحول في القصائد المكتوبة في المنفى إلى نوع من الإصغاء الجواني، واستعادة الذات المبدَّدة في أحلام جماعية مجهضة، نحو مساءلة الذات بوصفها خلاصة جماعية. ومنذ ديوان (رجل يرمي حجراً في بئر 1990ـ بعنوانه الفرعي: ذكرى نفسي) سنجد مخاطبات من نوع آخر، مخاطبات راكسة نحو الداخل لتلخص إلى حدٍّ كبير دراما مضادة، دراما الضفة الأخرى أو بعبارة أكثر اختزالاً المونودراما الصعبة المحكومة ببيئتها الحكائية الأحادية التي كسرت ذلك النشيد الوعظي المسترسل في مخاطبات العالم المحتشد ومحاورة الآخرين في غيهم عندما كان الوطن صحراء كبرى، وحولته إلى اتجاه مختلف ومناقض، نحو حوار داخلي موجز ومكثف ومعقد كذلك، في اجتذاب العالم نحو باطن فكري مظلم وغامض ومريع، باطن يغدو فيه «عبد الله» النبي الماكث طويلاً تحت ظلال «الشجرة الشرقية» أقرب ما يكون إلى مسخ كافكا الصرصار الصباحي في غرفة غريغوري: «لا تغضب يا صرصار البيت، غريغوري سامسا إذ ما زال هناك سرير تدخل تحته إذ ما زال هناك ثقوب تسكن فيها وفتات تسرقها في الليل من المطبخ وأخيراً ما جدوى أنك كنت غريغوري سامسا».
|