المقاله تحت باب قصة قصيرة في
24/04/2008 06:00 AM GMT
ينظر إليّ من بعيد، يراني ولا أراه، حياتي ومماتي بيده، ربما نزوة، مجرد نزوة صغيرة تراود ذهنه ليحيلني جثة بلا حراك. على أين سيصوب بندقيته؟ هل سيجرحني في رجلي أم يصيب رأسي، تماماً عند الجبين؟ ربما لو أكثرتُ من حركات رأسي سيخطئ هدفه ويصيبني في الكتف؟ سأستمر بالنزف، ربما استنجد بأحد وليس من ينجد! ربما. هكذا هي حال جواد وهو جالس عند مدخل داره، تحوطه النفايات وأكياس الزبالة المبقورة. كرشه متدلٍّ ويبدو كأنه كتلة لا تمت الى جسده بصلة، رجلاه تهتزان انفعالاً، وحبات المسبحة تتراقص بين أصابعه على إيقاع ارتعاش ساقيه. بين الحين والآخر يختلس نظرة في اتجاه العمارة ذات الطبقات الثماني التي تطل عليه عبر الشارع المقابل. نقطة ما في أعلى البناية، يتحاشى النظر صوبها ولكنها تستحوذ على مجمل انتباهه. - انه هناك، القناص الأميركي الذي يعرف كل شيء، لا ينام ولا يأكل، مزوّد بندقية ذات منظار يرى كل شيء، كل شيء نهاراً ليلاً. هذا ما يعرفه جواد من بواب العمارة ليس مباشرة ولكن عبر ابنه هاشم ذي السنين العشر الذي سمع بدوره من ابن بواب العمارة نبيل عن وجود هذا القناص ولم يحاول الاستفسار عن صحة الخبر خوفاً من أن يعرف الأميركيون بأنه يعرف، فآثر السكوت. بيد انه لم يستطع قمع تساؤلات تعتمر في داخله إلاّ باختراع أجوبة حاسمة استرضاء لنفسه، ومنذ ذاك الوقت غدا هذا القناص هاجس حياته: كل حركة يقوم بها، كل فعل يمارسه داخل بيته، محكوم بوجود هذا القناص ومنظاره الذي يرى كل شيء. كان يحمد الله بأن زوجته قد هجرته وإلاّ كانت فضيحة؛ فكيف يمكنه أن يتحمل نظرة رجل غريب الى زوجته؟ - الحمد لله، الحمد لله، إن البيت خالٍ من النساء، هذه مسألة شرف ولا يمكن أن أتجاوزها حتى لو... آثر أن لا يفكر في النتائج وهامت أفكاره بما حوله من زبالة، حينما كانت الشمس تنحدر نحو الغروب، بدأت رائحة الأرض تتلمس طريقها عبر الروائح الأخرى. - ربما صعدت هذه الروائح إلى فوق، ربما وصلت إلى أعلى البناية. البناية مهجورة ولا يسكنها إلا البواب أبو نبيل وزوجته وأطفاله الثمانية. خمس بنات وثلاثة صبيان أكبرهم نبيل ذو العشر سنين. منذ أربع سنوات لم يصعد أبو نبيل إلى فوق. آخر مرة غامر وصعد إلى الطبقة الرابعة نزل مرعوباً، حيث احتلت الجرذان كل الطبقات العليا، والظاهر انه سلّم بتقاسم المكان. الجرذان التي ما انفكت تتكاثر تحتل الطبقات العليا وتنزل تدريجياًَ إلى الطبقات السفلى. جواد لا يستطيع أكيداً أن يقاوم هذا الزحف الديموغرافي، رغم قدراته الإنجابية وتفرغه الكامل لهذه المهمة، فمهما تزدد فاعلية زوجته في الولادة فإن الجرذان تسبقه بأجيال. إن تقاسم المكان، حقيقة تعايش معها كل أفراد العائلة، كل بحسب طريقته. فنبيل مثلاً، وهو المعروف بشراسته في الشارع وبقصصه البطولية، لم يجرؤ أن يصعد الى ابعد من الطبقة الثالثة، وقد اخترع حكايات وحكايات يسردها على مسامع إخوته وأخواته، وبين أقرانه في الشارع، عن وجود "أمريكان" في أعلى البناية، وازدياداً في التباهي، فأنه يوصي الجميع بأن لا يبيحوا السر لأن وجودهم سريّ للغاية. هكذا استقرّت فكرة القناص عند أبناء الشارع، ووصلت إلى مسامع الآباء والأمّهات فتداولوها بسرعة الهشيم، وكل منهم يتصور أنه وحده يعرف السر! لا يزال جواد بكرشه المتدلي جالساً على كرسيه يحدق في الفراغ ويتحاشى النظر إلى القناص حتى لا يغيظه، ولكنه لم يمنع نفسه، هذه المرة، من التحدي. أحس ببطولة تسري في أعماقه. ماذا لو تحداه ونظر إليه، عيناً بعين، حملق كثيراً في اتجاه مكان القناص، حاول أن يقتنص حركة أو إشارة. ظل محملقاً ولكن لا شيء، ركّز نظره على فتحة في الحائط واقتنع بأن القناص يرصده من خلال هذه الفتحة ويجعله في موقع المباح والمستهدف. ركز نظره على الفتحة وتراءى له انه لمح حركة ما: شيء ما يتحرك. ما هو؟ من؟ هل ملّ القناص من الجمود؟ حرّك يده اليمنى وبخجل خائف، رسم إشارة تحيّة. لا شيء، ليس من ردّ. رفع يده اليسرى وأدى تحية أخرى. أيضاً لا شيء، ليس من رد، ما هذا الشخص غير المؤدب؟ لماذا لا يرد عليه التحية؟ ربما رد عليه التحية بأحسن منها، كما هو موصى به في كل الأديان والأعراف. ولكنه لم يره، ربما ربما، هكذا فكر، فتجرأ وأخذ يرسم علامات بيديه الاثنتين، متابعاً التواصل، دعاه إلى تناول الشاي معه ولكن ليس من جواب. تمنى لو انه يملك منظاراً كالذي في يد القناص، حتى يستطيع رؤيته وهو يردّ التحية له. - مجرد انه لم يرم بطلقة تجاهي، فهذا يثبت حسن النية ازائي، وإلاَ ما المانع من قتلي الآن؟ انه لا ينوي قتلي، على الأقل ليس الآن، فلأوطد العلاقة معه. بدأت خيوط الليل تزحف في الشارع، فحمل جواد كرسيه وولج إلى بيته، أسدل الستائر وأنار البيت. بعد برهة، انقطعت الكهرباء وحلّ الظلام في البيت، في الشارع، وفي البناية المقابلة. - ترى هل يستطيع منظاره، رغم الظلام، أن يخترق الستائر، الأبواب، الحيطان؟ اعتكف جواد في غرفة نومه، وسقطت عيناه على بعض حوائج زوجته، فتذكرها، ومن فكرة إلى أخرى، امتدت يده تجاه قضيبه، حاول وحاول، ولكن قضيبه ظل نائماً خامداًَ، رغم حدّة رغبته الجنسية. استحضر كل خزين ذاكرته عن المرأة وجسدها، ولكن فكرة القنّاص كانت الأكثر حضوراً. حصلت شذى، ابنة البواب البالغة من العمر ثماني سنوات، على شمعة. إنها الوحيدة التي لا تخشى الجرذان، وكان يفرحها منظرها وهي تتراكض أمامها. تصعد شذى السلالم إلى الطبقة الثامنة ومنها تعرج على سطح البناية حيث أقامت بيتاً صغيراً لها، فيه دمى صنعتها من خرق الملابس والطين، وما تيسر لها من مواد وحاجات فائضة. أولعت عود كبريت من العلبة التي تحتفظ بها منذ أيام. أوقدت الشمعة وبدأت تحكي حكاياتها إلى دماها. كانت تحكي لهن، عن فارس يأتي من بعيد، ويسرقها من أهلها، ليأخذها إلى هناك. لهيب الشمعة يتراقص جذلاً لينشر ضوءاً غيوراً في هذا المكان المظلم من الطبقة الثامنة ويكاد يصعد الى السماء. اطل جواد من خلف الستارة، طار فرحاً، أخيراً رأى نوراً في أعلى البناية وتأكد من وجود القناص. - لقد مل الظلام. همس جملته واستلقى في سريره. حلم بأنه يضاجع امرأة وانتصب قضيبه في الحلم.
سعد سلمان - سينمائي عراقي
|