المقاله تحت باب  منتخبات
في  30/04/2008 06:00 AM
GMT

ربما لم ينسج شاعر في عصرنا أسطورته، وتُنسج حوله الأساطير كما كان الحال مع العراقي محمود البريكان (1931-2002). فقد نسج هذا الشاعر أسطورة بنفسه، وساعده في بناء هذه الأسطورة وتكريسها آخرون، من أدباء وشعراء ممن عرفوه، أو زاملوه، أو عايشوه في هذه الحقبة أو تلك من حياته. إلا أن تلك الأسطورة خدمت الإنسان في محمود البريكان، ولم تخدم الشاعر. ولعل كتاب الباحث العراقي علي حسين الجابري: «محمود البريكان بين فلسفة الصمت وصمت الفلسفة» (بيت الحكمة - بغداد 2008) هو ما يقدم المثل الحي على ذلك. فهو لم ينظر الى البريكان الشاعر من خلال شعره أولاً، وإنما نظر إليه، أو قرأه من خلال «أسطورة حياته» و «فلسفة» تلك الحياة التي زامن الكاتب طرفاً منها، واعتمد على ما كتبه عنه الآخرون، في أطراف أخرى.
وإذا كان البريكان، الشاعر والانسان، قد عرف بالعزلة والصمت في حياته الخاصة، فإنه كان أن وضع شعره موضع العزلة ذاتها، فلم ينشر منه إلاّ ما يمكن أن يعدّ في عداد «المختارات»، وعلى فترات متباعدة. إلا أنه، مع ذلك، تميز شعرياً في ما يمكن وضعه ضمن مرحلتين: الأولى تنتهي عند نهاية ستينات القرن الماضي، وتتواصل مع بداياته الناضجة. وقد امتازت بالنزعة السردية والروح الملحمي.
أما الثانية، بحسب ما نشر له من قصائد على فترات قد تكون متباعدة، فتبدأ من السبعينات، وتمتد الى ما قبل رحيله بقليل. وقد امتازت قصائده فيها بالطابع التأملي، وبالتركيز على ما يسري مسرى الأفكار (وليس الفكر بسماته الكلية المتكاملة) التي اقترب فيها من المزج بين الواقع والحلم على نحو مغاير، موضوعاً، عما كان عليه في مرحلته الأولى.
وهو، في هذا كله، كما عدّه بعض من نظروا نقدياً في شعره، واحد «من أوائل من طوروا القصيدة الحديثة في العراق».
غير أن مؤلف الكتاب لا يبحث في هذا، وإنما جعل من البريكان، الإنسان والشاعر، موضوعاً فلسفياً، فوظف المنهج والأدوات والوسائل المتاحة - ومنها الشعر - للوصول الى ما دعاه بـ «الغاية المعرفية والحيوية والفنية» التي ابتغاها الشاعر، والتي لم يفصلها عن «الدوافع» و «المبادئ» فوجد فيه «علامة موجبة» في ما حدّده من «ثلاثية عمودية» وجدها تتشكل عنده من «الذات المفكرة المبدعة» و «البنية الاجتماعية - النشأة» و «زمانية البيئة الحضارية» (ص 56-67). وفي خضم ما يحشده الكاتب من مصطلحات فلسفية وأخرى أدبية، يرمي الى تمثل الشاعر من خلالها، يجد:
1- إن البريكان «ذاتٌ مفكرة»، وأن هذه الذات «تعيش الحياة بكل تناقضاتها وتفصيلاتها بعيداً من العزلة والقطيعة». ويجده يوظف «الخلوة» فيرتقي بها في كلية لغوية وفنية، معيداً كل شيء في حياة الشاعر وممارساته الى انضباط فعل الأداء، جامعاً في ما يقول، في هذا المجال وسواه، بين اعتماد «المعاينة» و «المعرفة الشخصية» و «التحليل». فهو كي يؤكد ما دعاه «إشكالية البريكان» يذهب في استقصاءات تشمل الأسرة، والمجتمع، والتكوين التاريخي... ليصل منها الى ما يرى فيه «موقفه الفلسفي».
2- أما ما يدعوه، أو يجد فيه، «منهجاً» و «نزعة فلسفية - نقدية» لدى الشاعر (أو ما يسميه «المنهجية البريكانية»...) فيعتمد فيه ثلاثة روافد، أولها: «الصائت المعروف والمنشور المتداول»، وثانيها ما عرفه عنه شخصياً من خلال «المعايشة الحيوية والمباشرة». أما ثالث هذه الروافد فهو «الصورة المكونة عن البريكان بواسطة النقاد والباحثين».
الخريطة والموقع
لعل ما يهم الكاتب هو ليس أن يقدم الشاعر من خلال موقعه على خريطة الإبداع الشعري، لا سيما ان مرحلته عرفت بمرحلة الشعراء الكبار، وإنما نجده يسعى الى تعيين «موقعه في خريطة الفكر الفلسفي العربي المعاصر» داعماً رأيه أو توجهه هذا بما نجد فيه «قراءة افتراضية»، ليس أكثر، لأفكار الشاعر، أو الأفكار التي يفترضها محركة له شاعراً... فيجد أن غموضه «يرسم ملامح منظور مستقبلي»، وأن «وما نسبق لم تخلق في عالم الخيال بل اتسمت بالواقعية»، وأن «جدلية الشعر الفلسفي» تتجلى عنده «لحظة توظيفه الشعر لغايات (فلسفية) سامية»، وانه اعتمد (النقدية) «للتحرّر من سلبيات الواقع والارتقاء الى أفق إنساني أرحب». أما منظوره «الشمولي (الفلسفي) فقد انطوى على مضمون جمالي حيوي، معتمداً في هذا على رأي الشاعر نفسه في أن الشعر «هو ابن النزوع الانساني، وموضوعه الأساس تجربة الوجود بكل شمولها»... فضلاً عما يسميه بـ «التفرد البريكاني».
ويصر الكاتب على التشديد على أن للشاعر البريكان «مشروعه الفلسفي»، معتمداً في هذا ما ذهب فيه الشاعر نفسه من أن منطقة الشعر هي «منطقة الذات العميقة»، وبانياً على هذا القول تناغم الشاعر فيه «مع روح المشروع الظاهراتي الذي جاء به هوسرل» (ص 78)، متمثلاً شاعره من خلال ما يحدده في كونه مهمة معرفية في الفلسفة تحضر في هدفين: حداثوي، ويتمثل في «مقاومة الجمود عند مظاهر الحداثة والتطلع نحو المستقبل»، واجتماعي، يراه في «مقاومة القيم القديمة (المتخلفة) التي تعوق حركة المجتمع والأدب، وتحول دون تقدمهما». وهما - بحسب منظور الكاتب - «يشكلان جوهر منهج الشاعر وفلسفته» (ص 78)، مؤكداً أن البريكان الشاعر قد «شغلته مشكلات الوجود والإنسان منذ أول عهده بالشعر والفكر» (ص80).
وإذا ما جاء الى «البريكان وفلسفة الصمت» وجد أن الصمت الذي تميّز به الشاعر «يخفي وراءه جملة من رؤى فلسفية» يدعوها الكاتب بـ «فلسفة الصمت» (ص 94)، متابعاً هذا الصمت و «كسر الصمت في الحياة الشعرية للشاعر بالأزمنة والتواريخ والشواهد التي يدخل من خلالها في تفاصيل حياة الشاعر اليومية، والتي لا ترسم معنى الصمت، كما عناه الكاتب، بقدر ما تمثل العزلة التي اختارها لنفسه. إلا أن الكاتب ينتقل من هذا المجال الاستقصائي الى الأحكام التي يطلقها على الشاعر، وعلى آخرين سواه، وهي، غالباً، أحكام افتراضية يعوزها الدليل العلمي.
أما ما يقوله هو فقد غلب عليه الأسلوب الشعري، والألفاظ الشعرية، والوصفية التعميمية، أكثر من عنايته باللغة التحليلية التي يستدعيها الموضوع الفلسفي، كأن يقول - خلاصة لعرض غير قصير -: «من يتأمل فلسفة البريكان ويستمع إليه في لحظة وعي متوهج يكتشف أن فلسفته منتزعة من قلب التجربة الإنسانية شرقها وغربها، مثلما هو واقع الحال في المجتمع العربي، متفائلة ومتبصرة ومتوازنة، تأبى التحديد والتحجيم، واثقة بالمستقبل، يتوحد فيها الخاص والعام بنظرة حالمة تجمع العرفان الى العقل على رغم اعترافها بحدود العقل من غير أن تجنح الى ذوقية على صعيد الفكرة باستثناء لحظات التجلي الإبداعي في عالم الموسيقى والشعر»، (ص136).
ويستخلص من هذا قوله: «هكذا يلتقي الإبداع الشعري بالرؤى الفلسفية عند البريكان في حوارات ثنائية معمقة كان البريكان فيها مثل راعية معبد دلفي وهي تردد: «يا سقراط إعرف نفسك!». فنشدان الحقيقة ومعرفة الذات شرطان لمحبة الحقيقة يرتقي بهما المرء الى مستوى الاستشهاد، بل هما نوع من أنواع الاستشهاد نذر البريكان له نفسه في قوله: «هنا لا في الضجيج الفاني يكمن أمجد أمجاد الانسان»، (ص 136-137).