المقاله تحت باب منتخبات في
28/03/2008 06:00 AM GMT
في رواية «غائب من بغداد» للروائي الفرنسي (دار لاتابل روند - باريس 2007) لا نعثر على مدينة بغداد التي سمّيت «شهرزاد العوام» ولا على تلك الشوارع العتيقة ولا نتمتع برؤية الجنائن المعلّقة ولا القصور الفخمة، بل تغدو المدينة مكاناً لم نعتد على مصادفته في الروايات التي كانت تتخذ من بغداد مسرحاً لأحداثها. يقود جان كلود بيروت قارئه الى عالم السجون ويدخله زنزانة أحد معتقلي سجن «أبو غريب» ليعيش مع بطل روايته تجربة استثنائية عاشها داخل قبو مربع. في «غائب من بغداد» يسوق الكاتب قارئه نحو زوايا مُهمَلة ومُتجاهَلَة بل مخفية من الحياة اليومية في هذه المنطقة تحديداً ويرصد أبرز الأمور النافرة في العالم العربي مسلّطاً الضوء على مشكلاته المعقدة بطريقة أدبية مميزة. فالرواية عبارة عن قصيدة نثرية، كتبها جان كلود بيروت بروح الشاعر الكامنة داخله، فجاءت روايته في حلة جديدة كسرت شكل الرواية الكلاسيكية والتقليدية، فهي من الروايات القليلة التي نجحت في الجمع بين شفافية الحس الشعري وعمق الموضوع السياسي والطابع الاختباري. وعلى رغم الهوّة القائمة بين جمالية الكتابة الخارجية وقساوة المحتوى الداخلي، إلا أن ثمة تناغماً لا بل تكاملاً بين الشكل والمضمون، إذ يقوم الأول بخدمة الآخر. فالرواية مكتوبة من الألف الى الياء على شكل مقاطع صغيرة تخلو من النقاط. ومن أبرز خصائص هذه الرواية احتفاؤها بما يسمى «التناص»، أي تطعيم النص بالكثير من المعارف الثقافية والتاريخية والأدبية،فمن خلال الأحاديث التي كان يتذكرها الأسير داخل زنزانته، نعلَم أن مناقشاته التي كان يتجاذبها مع أصدقائه في مقهى وسط اسطنبول كان معظمها يدور حول الأمور الدينية والفلسفية والثقافية، وهنا يتجلى إلمام الكاتب بالثقافة العربية والصوفية وبالتاريخ الاسلامي. ويعمد أيضاً الى إبراز معرفته بالثقافة الغربية وفي أكثر من موقع حينما يتبنى مثلاً مقولة الأديب الفرنسي فولتير لدعم فكرته المضادة لكل شكل من أشكال التعصب الذي يولّد الإرهاب والعدوان: «يجب أن يبدأ الناس بعدم التعصب لكي يستحقوا التسامح» (ص 136). ومع أن الكاتب يتطرق الى مسألة الشر المستفحل في عالمنا اليوم، إلا أنه لا يقف عند هذا الحد بل يتناول ما هو أبعد كالقضايا الوجودية، الأخلاقية والدينية أو تلك التي تتناول العلاقة بين الضحية والجلاد من خلال تأمل الأسير لوحدته داخل تلك الزنزانة المظلمة والضيّقة، فيطرح أسئلة لا يجد لها أجوبة: «من أنا؟ وما هي التهمة التي اعتُقلت من أجلها؟». وما يجدر ذكره أن أكثر المقاطع فاعلية وربما أهمية في هذا النص تكمن في المونولوغ الداخلي للشخصية الرئيسة وهو يستخدم أسلوباً مميزاً في الكتابة وخصوصاً من خلال التناوب الزمني الذي استطاع أن يُدخله الى النص ببساطة، خصوصاً عندما ينتقل المعتقل (الشخصية الرئيسة) من لحظة وجوده داخل السجن في العراق الى ماضيه قبل القبض عليه في اسطنبول. وقد اعتمد أيضاً مستويات لغوية عدة منتقلاً من السرد الى الوصف والتدليل مع إدخال الحوار بطريقة شيقة. لا تقدم هذه الرواية قصة بمعنى «الحدوتة» المتعارف عليها، كما أن ترسيمة السرد ليست ظاهرة بوضوح لأن الرواية لا تعتمد مثلاً تسلسل الأحداث، فهي عبارة عن مناجاة ذاتية وداخلية يقوم بها أسير مسلم داخل زنزانته في سجن أبو غريب فيفصح عن كرهه واحتقاره للجيش الأميركي الذي قبض عليه وزجه داخل سجن قاس لذنب لم يقترفه ولا يعرفه. الراوي هو نفسه الشخصية الرئيسة في الرواية، والقصة تدور حول حكاية هذا الراوي البطل الذي يتجلى بوضوح من خلال ضمير المتكلم «أنا» والذي يبقى مجهول الاسم طوال الرواية. وربما ارتأى الكاتب عدم الكشف عن بعض التفاصيل الخاصة مثل الاسم والعمر والمكانة الاجتماعية لأنه أراد أن يعمم هذه الشخصية ويجعلها رمزاً لكل معتقل مظلوم داخل سجن «أبو غريب». فالشخصية الرئيسة صُوِّرت من الداخل، أي تصويراً نفسياً من دون اللجوء الى التصوير أو التوصيف الخارجي، من خلال الحوار الضمني الذي يجريه الأسير مع نفسه أو من خلال مناقشاته الحادة مع أصدقائه والتي كان يستعيدها عندما كان يهرب من وحدته الى مخدع ذكرياته. إنه شاب غير عربي ومرتبط بفتاة تركية، هذا ما يقوله في الصفحة الأولى. وفي ما بعد نستنتج من خلال ذكرياته عن أحاديثه السابقة مع أصدقائه في مقاهي وسط اسطنبول أنه تركي مسلم وإنما غير متديّن كبقية الأصدقاء حتى أنه يقول لهم: «إخواني، أنا معكم (...) لأنكم ضعفاء وإذا كان العالم يقوده فريقان الظالم والمظلوم فأنا مع المظلوم أياً يكن». وهو يحترم الإنسان لإنسانيته وليس لدينه. أما أكثر ما يدهش في هذه الشخصية فإنها على رغم الظروف الصعبة التي تحيط بها من وحدة وظلم وقهر وتنكيل وإهانة جسدية ومعنوية لا تعرف اليأس أو الإحباط. فالأسير مُكبّل بالسلاسل والقيود في قعر سجن موحش ومظلم، إلا انه يتمتع بالحرية أكثر من أولئك الذين سجنوه لأنه لا يتلقى أوامر من أحد. ومن رحم الظلمة ولد لديه نور كان بمثابة الجلاّد أو الوضوح الذي جعله يرى الأمور في شكل معاكس. فالمقيد أصبح هو الحر والجلاد هو المقيّد. وربما أكثر المشاهد تأثيراً في نفس القارئ هو عندما يعزِّي الأسير نفسه بالقول إنه حتى حينما يعرّونه من ملابسه للاعتداء عليه جنسياً، لا ينجحون في جرح انسانيته وإهانتها لأنه لا ينظر الى عريه سوى أنه استبطان لسيرته الأولى، حينما ولدته أمه عارياً، طاهراً ونقياً. وبعد شخصية الراوي (الأسير) الذي يمثل «الضحية» تأتي الشخصية النسائية كنموذج لـ «الجلاد» وهي امرأة تعمل في السلك العسكري الأميركي ومسؤولة عن مراقبة المعتقل الذي أعجب بعينيها الخضراوين وبشرتها السمراء. في الواقع يمكن القول إن جان كلود بيروت الذي هو في الأصل رسام بلجيكي معروف نجح في رسم «بورتريه» طبق الأصل لشخصيات يعرفها القارئ ويقرأ عنها. فهذه المرأة ليست سوى ليندي انغلند، أي المرأة التي نُشرت صورها في الصحف أثناء ممارستها أبشع أنواع التعذيب والتنكيل ضد معتقلي سجن «أبو غريب». إذاً، هذه الرواية الواقعية تضع القارئ أمام أحداث حقيقية ومعاشة، لكنها ليست مجرد مرآة تعكس ما يحدث في الساحة العراقية اليوم بل هي «صرخة» ضد ذلك الوحش الذي اتخذ من العراق فريسة له وأطبق عليها أنيابه بشراسة على مرأى من الجميع. وليس غريباً على شخصٍ مثل جان كلود بيروت الذي سبق أن التزم قضية المهاجرين الأتراك والجزائريين والألبان ودافع عن حقوقهم عام 1970، أن يصمت أمام مشاهد الظلم ضد الإنسان في القرن الحادي والعشرين. وهذا ليس لأنه شاعر فحسب وليس لأنه محامٍ له خبرة طويلة في مجال الدفاع عن المظلومين وإنما لأنه عاش أيضاً تجربة مريرة، حين سُجن خمس سنوات لذنب لم يرتكبه. لذا فهو يعرف جيداً معنى أن يكون الإنسان مظلوماً. شهادة سجينة لبنانية: أحفر الأيام على الجدار < اتهمت اللبنانية انطوانيت شاهين في التسعينات من القرن المنصرم بجريمتين لم يكن لها أدنى علاقة بهما فسجنت وعذّبت ثم خرجت بعدما قضت المحكمة ببراءتها التامة. إلا أنها لم تشأ بعد تلك التجربة أن تصمت فروت ما يشبه الشهادة الحية للكاتبة فيفي أبو ديب التي كتبتها بالفرنسية ثم تولت ترجمتها الى العربية ماري طوق غوش لتصدر حديثاً في كتاب عن دار النهار (بيروت) عنوانه «جرمي البراءة». قدّم للكتاب المطران غي بولس نجيم. والكتاب شهادة أليمة عن الأعوام التي أمضتها ظلماً في السجن وما عانت داخل الجدران. هنا مقطع من الشهادة: «أصعدوني طابقاً وعيناي لا تزالان معصوبتين الى أن سمحوا لي أخيراً بأن أفتحهما. في إحدى الزوايا رأيت مفرشاً وفي الأخرى طاولة. ما عدت أطرح على نفسي أسئلة واعتراني شعور غريب. شعرت كأنني تحت تأثير تنويم مغناطيسي أو كأنني أعيش كابوساً أو حالة ما غير واقعية. بعد انقضاء ردح من الزمن، عادوا فعصبوا عيني ثم أنزلوني هذه المرة أدراجاً لا تنتهي. عندما فتحوا عيني، وجدتني في غرفة فارغة ولدي فقط غطاء على الأرض. ما من نافذة. الجدران بيض. انبعث الضوء من النيون المعلق في السقف بارداً مرتعشاً. كل هذا البياض أمامي، هذا الضباب، الهذيان... وحدها الصرخات القريبة للمساجين الذين يخضعون للتعذيب ذكّرتني بالمكان وبواقعي المشؤوم. اعتراني الذعر وفي الوقت نفسه ذلك الشعور الدائم بأن ما يجرى ليس حقيقياً وأني عالقة في دوامة الجنون... شعرت بضغط نفسي شديد، بأنني مهانة ويجرى التعامل معي كما لو أنني فعلاً مجرمة. التقطت لي صور كتلك التي تؤخذ للمجرمين. كنت أعتقد بأن هذا حكر فقط على الأشقياء الذين أراهم في الأفلام. عندما أخرجوني من الغرفة، عصبوا لي عيني ورافقني موكب حراس الى التواليت. الظلام من حولي وأجهل إن كان أحد يراقبني. أدوس فوق الأجساد ولا أعرف إنها أجساد مساجين قذفوا أرضاً. كان هناك محقق «مندفع» تظاهر بأنه يهم بقص شعري ووضع خصلة في فمي إثباتاً لذلك. ثم أمسكني من شعري ولطم رأسي بالحائط. رأسي كرة، طابة جوفاء يتقاذفها معذّبي. كانت المرة الأولى التي أخضع فيها لجلسة التعذيب التي تدعى «بالانكو» وهي تشكل القاعدة، هنا: يتم وضع اليدين مكتوفتين خلف الظهر مع الإبقاء على العينين معصوبتين. وعندها يتم رفع الجسد بكامله بواسطة اليدين بحبل موصول الى سقف الغرفة. والأسوأ من ذلك أنني خلال رفعي ارتطمت قدماي بوجه أحدهم فما كان مني إلا أن اعتذرت له، ويا لسخافتي. فقدت مفهوم الزمن وعشت أيامي برفقة الجرذان التي تجول في أرض الغرفة. شعرت برغبة ملحة أولية في أن أحدد موقعي في الزمن. مرت ساعات وأيام وأنا أعوم في الفراغ». انتزعت مقبضاً قاسياً من أحد أكياس البلاستيك وحفرت قرب هذه الكتابة شبكة لأسير في مربعاتها الى الأيام التي تمر والأوقات وفقاً للحلقة المنتظمة لحصص الطعام التي ترمى لنا عبر كوة في الباب الحديدي».
|