المقاله تحت باب قصة قصيرة في
20/03/2008 06:00 AM GMT
كنت اقف تحت الشجرة وأحيي الفتاة التي تعبر اربعة شوارع، بجريدة على الجبهة درءاً للشمس الحامية. أحييها بيدي المفتوحة، فتسقط التحية خلف ركضها اللجوج نحو الرصيف البعيد. كنت اقلي البيض قبل أن "يعوعي الديچ" واسمع فيروز من راديو جارنا. اقلب البيضة مثل "الشيف رمزي" في التلفزيون. يصل قرص البيضة الى السقف ثم ينزل الى المقلاة، إيذاناً بانتهاء الطهي بنجاح، واسمع فيروز من راديو جارنا. أحب سماع فيروز من راديو جارنا وأنا افطر، ولا افتح الراديو الرابض على الثلاجة أبداً. كنت اخطط لسيري في المدينة قبل ان افتح باب البيت. اسير على ثرى خطتي، ولا اسير على الارض. ها هنا اقف، في ركن هذا المطعم الفخم، واشم رائحة الشواء ولا ادخل. اضع يدي على حافة الباب المعدنية، واتحسس برودة الداخل وهي تمتزج مع رائحة الشواء الجديد، وانتظر صديقي الاصهب حتى ينزل من العمارة. ينزل لكي يذهب معي الى مطعم آخر بمناضد معدنية وصخب أكثر، يقدم مع الطعام الرخيص دون ثمن. يحمل صديقي الاصهب صورة جديدة له عالجها في الحاسوب. يضع الصورة امامي بين صحون المرق الشحيح والرز المشبع بالدهن، ويقول لي: لقد جعلت من نفسي زنجياً هذه المرة. انظر الى الصورة واضحك، وأنا ارى صديقي بعيداً ها هنا، في هذه الصورة، بعيداً في مكان ما تحت جسر بروكلين الشهير، مع فرقة جاز بملابس مخرمة وثقة هائلة لعجن الهواء بالايدي المرحة. كنت اسير على ثرى خطتي، وليس على هذه الارض. أجلس في مقهى صغيرة، على ذلك التخت، بجانب النافذة العريضة القذرة. اعرف كل تموجات الخرقة التي مسحت هذا الزجاج، ذات يوم بعيد، ولم يكرر عامل المقهى مسحه من جديد. أعرف هذا الشكل الافعواني الذي يبدو كزبون يجلس خلف النافذة، هذا الوجه المتجهم لشخص كاره للحياة، فاضع ذراعي براحة على المسند الخشبي كما خططت صباح اليوم، ادع كفّ اليد تنام في همودها الى الاسفل، بينما الاخرى تؤدي الاعمال المؤبدة مع مبسم النارجيلة المرفوع الى فمي والنازل ببطء يليق بالملوك. كنت ألاحق الفتاة المحزونة بشمس الصيف، حتى تركب الحافلة، ولا اركب وراءها. واسير عكس اتجاه سير الطالبات والطلبة، واجلس حين يعنّ لي الجلوس، على الرصيف، او قرب نافورة تحت صورة قائد متجهم، أو فوق صخرة بدائية عند مدخل كافتريا صيفية جديدة فتحت قبل أيام. أدخن سيجارة واحدة، وانا انظر الى الفتاة السمينة وهي تأكل الهامبرغر او لفة الفلافل الكبيرة. أنظر اليها وادخن وهي تشرب مشروبها الغازي مع رفيقاتها، وانتظر ان تدفع الحساب حتى اولي الادبار أمامها فلا تراني.
أنا الآن مجرد يوغسلافي جديد. ابحث عن هذه الفتاة ولا اجدها. وحين ارفع المقلاة عالياً بقرص البيضة السعيدة، تلتصق بالسقف ولا تنزل ابداً، وتسقطها زوجتي عند الظهر بالمكنسة، ليأكلها دجاج الجيران بعد ذلك بصمت مهني. أقول.. هذه البيرية الخضراء لا تليق برأسي، ولكني اراها هنا، في صورتي على نوافذ السيارات الواقفة، وحين اتحسس رأسي ولا اجد شيئاً اقرر السير بعيداً عن أية نافذة. أقول.. سأضع يدي في جيبي واسند الثانية على الحائط المقابل للجامعة، وانتظر الفتاة ذات الوجه المتجهم وهي تخرج مع شبيهاتها مع ارتفاع الشمس الحامية، ولكني أدخل الى مرحاض عمومي، وانسى نفسي مع تقلصات المعدة، وارى خطتي تدخل بسرعة في غور سحيق. كأني أتقيأ في فم الابدية. أرفع المقلاة ببيضتي، فتنهرني زوجتي قبل ان افعل ذلك، فهذه البيضة هي لـ"حمودي"، وعليّ أن افطر هذا الصباح بجبن المثلثات. انصت، وانا امضغ، لجارنا، فأسمع نحيباً مبكراً، للعجوز التي لا تمل من البكاء. افتح الراديو فيحشرج بأصوات مارش عسكري. انتظر ان تنتظم موجة الاذاعة، حتى أعرف مقترحات خطتي لهذا اليوم. لكن المارش يستمر وهو يتحشرج في الراديو، ويتقطع بصوت أنثوي بعيد. أنتظر صديقي الاصهب عند حديد المطعم المقفل، فيتأخر كثيراً. أنظر الى الساعة، وتهجم رائحة لبراز قطط من النفق المعتم لأسفل العمارة. اطرق بالهاتف على صديقي، فيرد أنه سيأتي قريباً، لكنه لا يأتي. اكرر دعوتي ثلاث مرات، ولكنه لا ينزل من العمارة أبداً، ثم يتصل هو، بعد ان ينهكني الجوع، يسلم عليّ وكأنه لم يرني منذ زمن، ويتجاهل حديثي السابق معه، ويخبرني بصوت واثق أنه سيبقى في هذه العمارة الى الابد. ـ المسألة الآن هي كيف ابقى هنا الى الابد. عليّ أن لا اغادر هذه الشقة، حتى تبقى في مكانها ! يقول ذلك فأحذره: ـ ولكنك ستبقى اصهباً [الى الابد!] ايضاً. عليك ان ترى الشمس الحارقة حتى يتغير لونك. لكنه يصر على فكرته، فليكن أي شيء مادام في الشقة ولا يراه أحد. لا افهم من كلامه شيئاً، فاشتمه واغذ بعيداً عن رائحة القطط. ارى البيرية الخضراء على رأسي في زجاج محل لبيع العدسات اللاصقة، وأرى خطواتي تنتظم بآلية مقرفة مثل خطى دمى الاعياد. في الليل، تريني زوجتي قسيمة انتسابي الى الجيش اليوغسلافي، وتريني صورتي مع سلوبودان ميلوزوفيتش. كنت في الصورة اضحك، كما لم افعل ذلك يوماً. كنت في هذه الصورة الشتوية، مع المعطف الاسود الثخين، الاكثر سعادة في التاريخ. وهذا شيء غريب. اخبرتني زوجتي بمعلومات تفصيلية حتى أنهي لعبي الصبياني بالبيض ولعبي بحياتي وحياتها. أخبرتني بذلك اليوم الذي كانت تجرى فيه مسابقة اطلاق البخار من الافواه. كانت الجثث المدماة اسفل الاقدام، علامة على نهاية الحرب الاهلية، والوقت المتبقي قبل أن تدخل جيوش التحالف إلينا يكفي فقط لأجراء مسابقة اطلاق البخار من الافواه. لم يفز احد في المسابقة، لأن الجثث كانت تطلق من حولنا بخاراً كثيفاً، لأنها جديدة. وأنتهى ذلك اليوم تماماً كما اعلنو عنه في نشرة الاخبار. تأثرت من كلام زوجتي وهي تدلك ساقيّ المتعبتين من السير الطويل، تدلكهما بدهن الفليكس ذي الرائحة القوية، وقررت أن اعترف لها بكل حماقاتي مع الطالبات، وأنني كنت العق من بعيد المؤخرات السمينة للفتيات الخارجات من الجامعة او دوائر الدولة. أعرف بأن حرباً اهلية ستقع حين اخبرها بذلك، ولكننا نجلس على طاولة، أنا وهي، ليس إلا، في منتدى الحرب الاهلية، وليس من اللائق ان لا نطلب من ساقي المنتدى شيئاً. أخبرتها بأن الاشباح الساكنة على زجاج المقهى العريض كانت هي الحقيقة الوحيدة، ونحن أوهام في رؤوسها، رؤوس الاشباح. اخبرتها بالساحة العريضة التي أخلتها قوات التحالف من تماثيل "حجي راضي" الحلاق، ووضعوا محلها تمثالاً وحيداً من البلاستك لـ"عبوسي" بنظرة متجهمة لا تليق به. قلت لها أن جبن المثلثات المسموم الذي أكلته على الافطار جعلني أخرأ في كل مكان تقريباً. في كل مكان كنت اقف او اجلس فيه سابقاً. حتى الكلاب السائبة لم تكن راضية عما فعلت. أخبرتها بالزجاج الذي لم أره ابداً خلال النهار، وأنني لم اتأكد هذا اليوم من البيرية الخضراء فوق رأسي، لأن السيارات الواقفة هي ـ فقط ـ تلك التي لا زجاج لها ولا اصحاب، والمحال غطا الاسمنت زجاجها كي تتدفأ من برد الخواء الذي يلف مقاعدها وطاولاتها. تركت زوجتي ساقيّ المشعرتين ونفضت يدها في الهواء، وعفطت في وجهي بوقاحة، ثم حملت "حمودي" من الارض، وقالت وهي تدخل الى المطبخ: ـ أنت تريدني أن ابكي على هذا الكلام، ولكن أنسى.. أنت أول من مسح بالاسفنجة والصابون تمثال "عبوسي" مدعياً تنظيفه من أدران الماضي. ثم قالت من عمق المطبخ أن لا عشاء لي هذه الليلة، وعليّ أن آكل مع صديقي سلوبودان ميلوزوفيتش في لاهاي، لانه هناك يعطون العشاء لأمثالي بالمجان. ولكن هل عليّ شن حرب أخرى في هذا المساء من اجل اشياء تافهة تتعلق بالحياة؟ لبست بنطلوني العريض الذي سلبته من مواطن بوسني شريف، ووضعت سترة ثقيلة فوق كتفي، وأغلقت الباب ورائي بحزم، كما يفعلون في الافلام. كانت الخطة في ذهني بسيطة. لن اقف عند أي مطعم أو مقهى، ولن اجلس بأنتظار أحد في هذا الظلام، ولن تكون هنك فتيات بمؤخرات سمينة، حتى ولا في أحلام الشوارع والاعمدة المعتمة. لن تكون هناك فيروز من عمق البيت المجاور، ولا أي بيض يقلى في السابعة صباحاً، أنها هذه الليلة فحسب، هذه الليلة الطويلة التي لن تنتهي، وليس في ظلامها أي ظلام قابل للتأويل. هذه الليلة فقط، ولا شيء غيرها، او بعدها بقليل. أجد كل اليوغسلاف وضحايا الحروب الإيجية، وأجد شخصاً هارباً من مذبحة المعبد في الاكروبوليك، وأجد هنوداً كثراً لا فائدة من عدهم هاربين من باكستان، يقفون في صف واحد بأنتظار أوامر قائد عسكري لم يحضر بعد. اقف هناك، مثل جندي ودع عائلته قبل قليل، ويقف خلفي بسرعة أشخاص لا وجوه لهم ولا رائحة، يكتمون في الظلام عطاساً يتكرر. تحتشد الساحة البعيدة ولا استطيع الحراك من مكاني خطوة أبعد، أغدو مثل دمية الاعياد ذات الخطوات المضحكة، تتنشط كل حين مع تعبئة الزمبرك، وتهمد في مكانها بعد نفاد الطاقة. ينزل "عبوسي" من حصانه البلاستيكي فجأة، ويغني أغنية شعبية قديمة لا يحفظها أحد. يخرج من الساحة وتسير الجموع وراءه وهي تهمهم بلغط يتداخل، وانسى خطتي التي خرجت بها من البيت هذا المساء. لا اتذكر آخر ما قالته لي زوجتي قبل ان اخرج غاضباً. ربما طالبتني بالطلاق حتى تتزوج من إبن خالها العائد من الاسر. أعرف الآن فقط الرغبة الحراقة التي تداهمني، رغبة جادة لا يمكن ردها بأن أخرأ في هذه الساعة، واسفح ذنوبي الساخنة على الرصيف، ولكن صوت المارش المتحشرج في مكبرة بيك آب تسير وراءنا يمنعني من التوقف خطوة واحدة. سأفعل ذلك، وليس الآن، سأخرأ هناك وليس الآن، سأفعلها في الخطوة القادمة التي تسبق خطونا الأخير في هذا الظلام، هناك حين يتوقف الجميع خارج الحياة وخراء الذنوب ملتصق بالأحذية.
|