المقاله تحت باب في السياسة في
07/03/2008 06:00 AM GMT
على هامش النتائج التي تخرج بها منظمات الرصد المحلية والعالمية حول حقوق الانسان في العراق، ومنها حقه في التعبير، وكذلك تلك النتائج التي تبين أن العراق مازال البلد الاخطر في العالم بالنسبة لعمل الصحفيين، يمكننا أن نلمس أن "حرية التعبير" مازالت تواجه الكثير من العقبات في العراق، في الواقع العملي، رغم الاجماع المتحقق عليها نظرياً. لا شك ان حرية التعبير غير متعلقة، كمظهر أعلى، في كثرة الصحف والقنوات الاعلامية، الفضائية وغيرها، بقدر ما تتعلق بقدرتها، هذه الوسائل، على استيعاب التنوع، وعلى نقل وترشيق الخلافات القادمة من السجال الاجتماعي والسياسي والثقافي، من فضاء العنف المادي الى تجاور الخطابات، ومن اسكات الخصم بالسلاح الى الجدال معه، والانتقال من أحادية الممارسة التي تستقوي بالقوة المادية، الى تنوع هذه الممارسة بتحييد هذه القوة. والحال إن هذه الصورة ما زالت بعيدة المنال في عراق اليوم، وناتج الخمس سنوات الماضية يعطينا أكثر من دليل على عدم القدرة على قبول المختلف، وعلى هيمنة الاساليب التقليدية في افحام الخصم وإسكات صوته. حيث انتقلت الممارسة الحصرية للعنف التي كان يقوم بها النظام السياسي تجاه المجتمع الى المجتمع نفسه، فغدت القوى الاجتماعية المتعددة التي تفرض سطوتها بالعنف صاحبة الدور الاساسي في التطبيق المشوه لفرضية التخلي عن الدولة المركزية، التي تحولت الى بعبع كبير يرجمه الجميع، حتى تساوى لدى بعض العامة حضور الدولة الشمولي، والطبيعي، بذكرى السطوة الاجرامية لنظام البعث البائد، والحال ان العنوانين مختلفان، ولكنهما اختلطا عند الكثيرين فأصبح المتضرر من هيمنة القوى الاجتماعية الجديدة على الشارع العراقي يترحم على السطوة الديكتاتورية للدولة الشمولية السابقة.
إزدواجية التعبير عن الرأي من المفارقات المؤلمة أن الكثير من المثقفين مازالوا يعانون من الازدواجية التي حكمت سلوكهم الثقافي في زمن النظام السابق، لا حباً في هذه الازدواجية، وإنما لأن الواقع الجديد أعاد إنتاجها بأشكال جديدة ولكنها تحمل التأثير ذاته. فهناك، في اللقاءات التي تجري دائماً بينهم، في أروقة الصحف التي يعملون فيها، أو في المقاهي أو الأماكن العامة القليلة التي بقيت مفتوحة أمام نشاطاتهم، يتحدثون بأشياء لا يستطيعون الكتابة عنها، فظل الكلام مفصولاً بمسافة اجتماعية عن الكتابة، هذه المسافة المملوءة بالخوف من التصفية الجسدية من هذا الطرف أو ذاك. انتفى المحرّم السياسي، بدرجة أو بأخرى، ولكن مساحة المحرّم الاجتماعي اتسعت، وانقلبت المعادلة، فغدا المجتمع أقوى من الدولة، وغدا الأفق المعرفي الذي يتحرك تحته هذا المجتمع أعلى سقفاً من الأفق المعرفي والنظري المفترض للدولة كنظام وثقافة سياسية وقانونية. ولأن المجتمع مازال يعاني من هيمنة التخلف في كل مرافقه السياسية والثقافية، فأنه غدا الضاغط الاكبر (بتخلفه) على شكل الدولة ومحتواها، فأنتقل التشرذم الاجتماعي لقوى ما قبل الدولة الى واجهة الصياغة السياسية لنظام الدولة، الذي يفترض به ان يكون ذا صبغة تجريدية عامة، لا تعكس ثقافة فئة محددة. واصبحت مهمة انتاج دولة جديدة عرضة لتناهب فئات ما تنفك تنقسم على ذاتها، بدل ان تتوحد في صيغة "مصنوعة" من المشترك العام لدى الجميع. ولعل صعوبة ادراك هذا المشترك العام والتأسيس عليه آتٍ من غياب الدور التقليدي للنخب، التي تنفصل في وعيها السياسي والثقافي عن الثقافة المجتمعية العامة بمسافة نقدية، تتيح لها القدرة على ترسّم خطوط التطور الستراتيجي للفعاليات التاريخية للمجتمع. هذا الكلام لا يقصد الايحاء بوضع الثقافي فوق السياسي، في ثنائية تراتبية بسيطة، ترضي نرجسية المثقف (الذي هو بحد ذاته مشكلة كبيرة)، فحتى هذا الدور المفترض القادم من فوقية الثقافي على السياسي، هو أمر لا يمكن تحقيقه على الارض. وبالعودة الى موضوعة حرية التعبير، فأننا نرى أن السياسي قادر على توجيه الاتهامات لخصمه بأبشع الاوصاف، من دون ان يتعرض لأي مكروه، وذلك عائد أولاً الى كون الحلبة السياسية مدججة على الدوام بالحماية الامنية الخاصة، وثانياً لأن شروط اللعب في هذه الحلبة تتيح الالتفاف المستقبلي من صف العدو الى الصديق او بالعكس، لذا لا يلجأ الجميع الى مرحلة تكسير العظام، وانما اللعب في حدود حافة الهاوية. ثم أن "حرية التعبير" التي يمارسها السياسي غير مجانية، فهي تستهدف حسابات لزيادة رصيد وترويج اجندة خاصة. وهي لذلك مرتبطة بحاجات راهنة، لا علاقة لها بنقد الاصول او المرجعيات الثقافية أو محاولة الترويج المجاني لفاعلية النقد. أنها تمارس نقداً منضبطاً بشروط الحلبة السياسية، وهو نقد غير متعالي، بالامكان التخلي عنه، او تحويل دفته فجأة باتجاه مغاير. يظهر السياسي العراقي على شاشات الفضائيات العراقية والعربية ويشتم خصمه او ينقد ممارساته، ويرد الخصم، ويستمتع المشاهدون بفضاء الحرية الذي جعلهم يرون الساسة العراقيين ينشرون غسيل بعضهم البعض. ثم يحوّل المشاهد القناة التلفزيونية الى أخرى، ويخرج السياسي من الاستوديو مدججاً بحمايته الى "ملاذه الآمن". ولا يمكننا الاعتراض على متطلبات الحماية للسياسيين وسط ثقافة سياسية اعتادت على التصفية الجسدية كجزء من أدوات العمل السياسي، منذ أن تأسست شرعة السياسة في بلادنا وحتى الآن. ولكن هذه الصورة توضح لنا أبعاد المفارقة التي تشمل "حرية التعبير"، حين يطالب المثقف بأن يتفوه ـ في الأقل ـ بالكلمات نفسها التي يتحدث بها السياسي، ثم يُطرَحُ بعدها الى العراء، لحمة طرية لأفواه العنف المتناسل. هذا مع إن الكلام يدور اصلاً حول الدور النقدي للمثقف، الذي يعبر بالضرورة الى مسافة ابعد من السجال السياسي الآني، للحفر في الأصول الثقافية للممارسة السياسية، وتفكيك المرجعيات الاجتماعية للعنف المؤسسة لإلغاء الآخر، وأسباب غياب المجتمع المدني وغيرها من القضايا. وهي قضايا غالباً ما يتحدث حولها المثقف العراقي بعمومية ولا يستطيع الهبوط بها الى ارض التطبيقات والتجسدات العملية.
حرية التثقيف العام أن القوى الاجتماعية التي انبثقت عقب سقوط النظام الديكتاتوري تمارس الآن، من خلال مظاهر التنظيم السياسي وأشكال التنظيم الأخرى، عملية تثقيف حرة، وهي قادرة على الدفاع عن فرضية "حرية التعبير" في العراق الجديد، ولكنها لا تتحدث ابداً عن الآليات المتعددة التي تعتمدها لتكميم الأفواه، خصوصاً وان هذه القوى هي التي تحتكر العنف، وتمنحه شرعية الحضور في الممارسة الاجتماعية، على الضد من فرضية احتكار الدولة للعنف، باعتبار الدولة أطاراً عاماً لا يملك هوية محددة، ويحتضن الفعاليات الاجتماعية ويحميها، على تنوعها وتناقضها، بقوة القانون. ومن الملفت أن خمس سنوات من (الحرية) لم تنتج لنا مثقفاً مندمجاً مع الفعالية الاجتماعية حتى الآن، فهو بالإضافة الى ممارسته للنقد التجريدي العمومي، الذي لا يفهمه الجميع، أو يفهم مراميه الصريحة مجتمع المثقفين فقط، انسحب الى صورتين من الحضور الثقافي، الأولى هي الكتابة بالأسماء المستعارة في الصحف الالكترونية على شبكة الانترنت، والثانية، هي الكتابة ـ والصراخ احياناً!ـ من وراء الحدود، في تكرار للكوميديا السوداء التي طبعت "حرية التعبير" للمثقفين في زمن النظام السابق. وهو يصرخ من هناك ليس احتجاجاً ضد الدولة [فهي غائبة أو ضعيفة ومسكينة في افضل الاحوال] وانما ضد بعض القوى الاجتماعية المسيطرة على المشهد العراقي. وهناك حرج قادم من ان العديد من الصحف العراقية، غير قادرة على فتح مساحة على صفحاتها لآراء تعبر عن وظيفة النقد الجذري، ولدينا امثلة كثيرة، على وضع تجد الصحيفة فيه نفسها امام تهديد جهة ما بسبب رأي نشرته. الامر الذي يدفع الكثير من المطبوعات التي تطمح للاستمرار بأقل خسائر (بشرية!) ممكنة، الى اعتماد "التقية" في عملها، والى مسايرة الثقافة الاجتماعية العامة. إن التثقيف الذي تمارسه قوى مختلفة في الفضاء العراقي الحالي يبدو مدعوماً بشرعية تمثيل هذا الخطاب الثقافي لشريحة اجتماعية محددة، يعبر عن تطلعاتها وعن رؤيتها لمجريات الامور، بغض النظر عن سلامة هذا التمثيل، وعن إلتباس التعبير عن هذه الشريحة الاجتماعية مع القمع الداخلي لها، وإخصائها ثقافياً. ولكن، ما هي الشريحة الاجتماعية التي يمكن ان يعبر عنها المثقف المستقل صاحب المشروع النقدي؟ وكيف يمكن ان يتدرع هذا المثقف بصورته الحالية الحرجة بقوى اجتماعية ما، من أجل حماية حقه في التثقيف ونقد الآخر في خطابه، ومزاحمته على فضاء التأثير المفترض؟ واقع الحال يؤكد عزلة المثقف بالصورة التي وصفناه بها، وضآلة المساحة المفترضة والمتاحة أمامه من حرية التعبير، ما دامت الدولة بعنوانها العام غير قادرة على حماية اختلافه، وتتعامل مع خطابه باعتباره فائضاً عن الحاجة، ومادامت القوى الصانعة للدولة، لا تفكر بالصيغة التجريدية للدولة التي يتحدث عنها المثقف، ولا تريد الإنصات لها، أو الاعتراف بوجودها.
|