حوار مع الشاعرعبـد الكريـم كاصـد: كيـف يحـارب القاعـدة مـن يستخـدم أسلحتهـا؟ |
المقاله تحت باب مقالات و حوارات الشاعر عبد الكريم كاصد أحد الأصوات الشعرية البارزة التي ظهرت في أعقاب الستينيات، في البصرة الحاضرة الكبرى بعد بغداد، له أكثر من ستة عشر كتاباً في الشعر وترجمة الشعر، عاش في منفاه في كل من عدن وسوريا والجزائر وأخيراً في العاصمة البريطانية لندن، وبمناسبة صدور كتابه وهو حوار طويل يتناول تجربته وترحاله ورحلته الطويلة مع الشعر أجرينا معه هذا الحوار: البدايات كانت في البصرة، كيف كانت تلك البدايات؟
- لم تعد البصرة مدينة بالنسبة إليّ، بل حلما نائيا يبتعد أكثر فأكثر كلما اقتربت منه.. تطل منه وجوه أصدقاء، ومقاه، وأنهار، وشوارع تكتظ بالناس، وخضرة دائمة، وحبيبة، وأعياد وأحزان أيضا في جزء من المشهد، أما البدايات فهي كالمدينة تكاد تكون غائمة تمتد من شغف بقصائد في كتب مدرسية وترديدها، الى شغف يتسع ويتسع ليشمل كتباً ومجلات ومعارف أخرى. كتبت قصيدتي الأولى في سن مبكرة في الثالثة عشرة ونشرت قصيدتي الأولى بعدها بسنتين او ثلاث في جريدة صوت الأحرار مع مقدمة احتفائية كتبها شاعرنا العزيز سعدي يوسف أتذكر منها «أننا نتذوق في شعر عبد الكريم كاصد أحياناً ذلك الطعم النادر للنبيذ العتيق». هل تأثرت بأحد ما، هل دفعك حدث معين، شخص ما لكتابة الشعر؟ - كنت أقف مبهوراً أمام عوالم السياب الكثيفة، الرحبة في إيحاءاتها: السوق القديم، بويب، أنشودة المطر. وكنت أرى فيها عالماً مألوفاً وغامضا في آن واحد، مليئا بالظلال غير أن انبهاري بالسياب لم يقف حائلا دون إعجابي بتجارب أخرى لا تتحدد بجيل او نمط من الشعر: الصبور، حجازي، سعدي، البريكان، الماغوط الى جانب شعراء آخرين كالجواهري وبشارة الخوري والياس أبو شبكة الذي أحببته كثيراً لا في ديوانه (أفاعي الفردوس) حسب بل في مقطوعاته الغنائية أيضاً الشجية كقصيدته الرائعة في ديوانه (ألحان): اسجدي لله يا نفسي فقد حان المغيب، وما زلت أحمل لهذه التجارب العاطفة ذاتها وأرى فيها مدلولات تتسع كلما اتسعت معرفتي بالشعر. مثلما كانت تسحرني تجارب أخرى لشعراء في العالم لم أنقطع عنها يوماً. بغداد والبصرة كيف كانت البصرة في الستينيات، وأي المقاهي والمنتديات الإبداعية كنتم ترتادون؟ - المقاهي، ربما، هي منتدياتنا الوحيدة التي كنا نرتادها: مقهى هاتف التي كنت ألتقي فيها بالشاعر محمد طالب وصديقي العزيز الروائي المبدع إسماعيل فهد إسماعيل قبل ان يرتحل الى الكويت نهائياً، وصديقيَّ الحميمين الأديبين: جميل جاسم الشبيي وجاسم العايف. مثلما كنا نلتقي في مقهى علي بابا الذي كتب عنه القاص الرائد محمود عبد الوهاب واحدة من أجمل قصصه. التقيت فيه، لاحقاً، بالشاعر الطهمازي الذي وفد الى البصرة مدرساً حيث أمضى سنة هناك. من بين رواده أيضا الناقد الراحل مصطفى عبود، والبريكان وان كنا أنا والبريكان نفضل المقاهي الشعبية لتناول الشاي عادة. وبعد عودتي من الجزائر في بداية السبعينيات ترددنا على مقاه أخرى أبرزها مقهى أبو مضر المطل على نهر العشار حيث اتخذنا من دكته متكأ لنا. كان مقهى غريباً مفتوحاً، مقاعده دكة النهر وزبائنه كأنهم عابرو طريق. من بين الذين كنت ألتقي بهم فيه القاص المبدع محمد خضير والراحل الشاعر مصطفى عبد الله وآخرون. هل أقمت في بغداد أم كنت تزورها، وما هي طبيعة العلاقة بينك وبينها؟ - نعم أقمت في بغداد طالباً في معهد اللغات وكان معي، يا للمصادفة الغريبة، الشاعر وليد جمعة في صف واحد ندرس اللغة الفرنسية، غير أني لم أمكث في بغداد غير أشهر، اذ اضطررت الى مغادرة المعهد إثر مجيء البعثيين الى السلطة سنة .1963 في بغداد تعرفت على البريكان لأول مرة ونشأت بيننا علاقة وثيقة. تعرفت في بغداد أيضاً لأول مرة بأصدقاء حميمين: محمود البياتي، خالد بابان. منعم (العظيم)، رياض قاسم، عبد الأمير الحصيري مثلما تعرفت فيها على الشاعرين ماجد العامل ورشدي العامل، وقد فاجأني ماجد مرة بنشر قصيدة لي حصل عليها من صديق لي أرفقها بتعليقه المتحمس للقصيدة مع الإشارة في الأخير إلى بعض هناتها العروضية. إن إقامتي القصيرة في بغداد، وما تخللها من متاعب ومن ثم مغادرتي لها بسبب ما حل بها من أحداث دامية مفزعة.. كل ذلك ترك لدي مرارة لا تمحى وحباً مشوباً بذاكرة معتمة تسورها الجدران والشوارع الضاجة الملطخة بالدم، والتي سرعان ما تقفر في نهارات المأساة التي تشهدها المدينة بين فترة وأخرى. ولعل آخر مشاهدها التي علقت في ذاكرتي حين دخلتها هارباً من مدينتي البصرة باحثاً عن مخبأ فيها لأغادرها فيما بعد إلى المجهول هو مشهد كاظم الوبدان، الذي اخترت، مشكوراً، قصيدتي عنه في مختاراتك، وهو يطل في مقهى مقابل لمبنى وزارة الدفاع.. مقهى يحتشد برواده، مررت به وأنا أحمل حقيبة سفري لأفاجأ بوجه كاظم الوبدان وهو يلوح شبحاً عبر دخان المقهى.. شاحباً مصفراً.. حييته ولم أصدق أنه كاظم نفسه ذو الوجه الاشقر والياقة البيضاء والوردة الفراشة.. كاظم الذي لم يألف العمل إلا بين الانكليز والأمراء منتفضاً على ألفته هذه المرة بقيادة التظاهرات ضد مخدوميه الانكليز في 14 تموز ومرة ضد أولياء نعمته من الأمراء حين خرج هاتفاً بحياة عبد الكريم قاسم. ما الذي جاء به الى المقهى؟ وأي مشهد مفزع هذا؟ في مدينة تمارس حياتها اليومية بلا مبالاة بما يحدث من مأساة لا على مسرح ضيق بل على مسرح الحياة المكشوف، بلا ستارة، للجميع. يا لعلاقتي المرتبكة ببغداد ويا لحبي لها وحزني عليها واشتياقي لها أيضاً لرؤية أصدقاء ووجوه وأماكن حبيبة لدي ولم يزدني لقائي بها قبل عامين إلا حنيناً إليها. هل تعتقد أن البصرة كانت مدينة لليسار، مدينة للشعر، ما تعليقك؟ - لكي أقرّب لك صورة البصرة أستحضر ساحة طفولتي؟ كانت المحلة المجاورة لنا محلة يسكنها الأرمن، والباعة الذين يجاورون أبي يهودا أبناؤهم زملاء لي في مدرسة واحدة. أما أسواقها فهي كرنفال يعج بالعابرين والمقيمين من أقوام شتى: هنود، باكستانيون، أفغانيون، عرب سياح من بقاع قريبة ونائية، مع ذلك لم تشهد البصرة صراعا بين سكانها المختلفين طوائف وأديانا وأجناسا وما شهدته من صراع هو من نوع آخر. صراع من أجل السلطة، ضحيته هؤلاء الناس البسطاء أنفسهم. لا أدري أهي لعنة أم نعمة ان تكون البصرة مفتوحة على البحر والصحراء معاً. لقد شهدت غزوات من الجهتين، طوال تاريخها، وحل بها الخراب والطاعون مراراً، وحكمها عابرون وغزاة وأعاجم، مماليك وغير مماليك، ولم يحكمها أبناؤها قط. ولعل المفارقة المحيرة المريرة ان تمثل في مجالسها الطوائف جميعاً صغيرها وكبيرها الا الطائفة الأكبر.. طائفة أغلب ساكنيها. وبقدر ما اتسعت هذه المدينة لتضم أقواماً شتى بقدر ما ضاقت على أبنائها من فقراء الطوائف والأديان. لذلك كانت البصرة مهاداً لكل الحركات الثورية لا في حاضرها وحده وإنما في ماضيها أيضاً فهي عدوة الأمويين، عدوة العباسيين ومن تلاهم من الحكام. من يقرأ الجاحظ يدهش لتنوع من سكنوا فيها قديماً: عدنانيون وقحطانيون، جبريون وقدريون، دهريون ونسطوريون، عثمانية ومعتزلة، معتزلة ومعتزلة، أعراب وموال، زط ونبط، بخارية وأساورة، أتراك وديلم، زنج وقرامطة، مغيرية ومنصورية وكاملية وكيسانية ومجوس، بكاؤون وقصاص، مكدون وقرادون، متكسبون طوافون، وحواؤون، وأصحاب صنائع، وحفظة نوادر، ولغويون ومسجديون وبحريون ومولدات ذوات ألسنة عذبة ونهاريات يتزوجن نهاراً ويطلقن في الليل، وقيان ووليات. البصرة الفسيفساء مدينة أبي نواس والكوكبة العظيمة من الشعراء الذين تحلقوا حوله ومن جاء من بعدهم من ذرية تمتد الى السياب وورثته من شعراء أحياء وأموات. مدينة كهذه لن يطفئ نهارها ظلاميون عابرون. لمَ البصرة الآن تتراجع عن دورها من مدينة جدل وأنوار واجتهاد ولغة وأدب إلى مدينة غارقة في العتمة، تستقبل الظلام والمنع والتحريم؟ - ما يثير الغرابة في تجربة الحاضر، أن بدائل الماضي هي الماضي ذاته في لبوس آخر أما ما يشهده الحاضر من صراع، فهو ليس سوى حركة حاضر حسب.. حركة عمياء لا تقود إلا إلى نفسها ولعل أغرب ما فيها ان المتصارعين الأساسيين يعكس أحدهم الآخر في مرآة صدئة. أتساءل كيف يحارب القاعدة مثلاً من يستخدم أسلحتها ذاتها: فرض حجاب، ومنع خمرة وتحريم ممارسات معينة، ومحاربة طوائف، وتهجير ناس وتهريب علني؟ كيف تحارب عدواً أنت صورته؟ إنه العبث بذاته؟ والحاضر الذي لا طائل وراءه سوى تكرار نفسه والذي لن يزول من خلال الصراع بل من خلال نفي هذا الصراع ذاته وما يرافقه من احتلال بغيض زارع للفوضى. كانت البصرة مدينة المعتزلة والجاحظ وأخوان الصفا والسياب وسعدي يوسف والبريكان، أي انها كانت مدينة الفكر التقدمي، بينما الذي نراه الآن يدعونا الى التشاؤم وطرح التساؤلات إزاء وضعها الحالي؟ - ستظل البصرة مدينة المعتزلة والجاحظ وأخوان الصفا وأبي نواس والحريري والخليل والسياب وسعدي يوسف والبريكان ومحمد خضير ومحمود عبد الوهاب وفيصل لعيبي وعفيفة لعيبي وصلاح جياد وعشرات المبدعين الآخرين، وستظل صورة هؤلاء محفورة في ذاكرة الناس مهما اختلفت المواقف وتشابكت وتعقدت، مثلما سيظل ما نــراه هو العابر حتى لو امتد سنيناً لا لأن ما أقوله عرافة او ضرورة تاريخ او علامة حاضر، وإنما لأن هذا العابر يحمل موته معه وسط أعياد الحياة ونارها الأبدية التي تشتعل هنا وهناك معلنة حضورها وسط الخراب. ان من يدخــل أسواق البصرة ويرى حركـة الــناس وأفــراحهم لا يصدق أن ثمة أكفاناً يحملها بشر هناك. البريكان هل تتذكر البريكان، هل التقيت به، وماذا خلف لديك من انطباع؟ - تعرفت على البريكان عندما كنت طالباً في معهد اللغات ببغداد. كنا نلتقي كثيراً في مقهى يقابل سينما الخيام، وكان يلفت نظرنا دوماً صاحب المقهى الطريف وهو يحدث ببغاءه طول الوقت بغمغمات مكرورة وحركة أصابع رقيقة تنقر الهواء او جدار القفص، ولعل هذه الببغاء هي وراء قصيدة البريكان الجميلة (جلسة الاشباح). لا ادري لماذا يذكرني البريكان بالشاعر كفافي او الشاعر البرتغالي بيسوا، في حياته المحدودة والتزامه الوظيفي وعالمه الداخلي العميق الذي لا يبارحه أبداً حتى وهو يتحدث إلى الآخر. كان قارئاً نهماً دقيقاً حد الوسوسة. أتذكر مرة انه أراد ان يشتري كتاباً لنيرودا او طاغور ـ لا أتذكر بالضبط ـ فأمضى وقتاً طويلاً يقلب عدداً من نسخ الكتاب ليختار واحدة منها متلمساً حافاتها مهمهماً حتى اضطرني الى الضحك الذي شاركني إياه ممتزجاً بخجله الدائم، خجل المراهق الشاب لا الشاعر الشيخ. في تلك الفترة كان البريكان مدرّساً في احدى ثانويات بغداد ويعيش حياة منعزلة إلا من بضعة اصدقاء من بينهم محمود البياتي وهو قاص وروائي أحب كتاباته واعتبره من أفضل القصاصين في كتابة القصة القصيرة، والشاعر عبد الأمير الحصيري الذي كان له مقهاه الخاص. بعد الأحداث الدامية في ,1963 واختفائي في مدينتي البصرة لم ألتق بالبريكان الا بعد زمن طويل. كان البريكان في أوج وساوسه وتساؤلاته المؤرقة في تقليب الأمور الى حد التوقف عن الحكم. ثم جمعتنا الظروف ثانية في معهد المعلمين. كان هو يدرس اللغة العربية وأنا ادرّس علم النفس وكنت احسده على تدريس مادته الحيادية التي قد لا تسبب له متاعب كالمادة التي أدرسها. كنا أحيانا نتخلى عن فكرة الذهاب الى البيت ونمضي وقتنا في المدينة متناولين غداءنا في احد المطاعم وشاينا في واحد من مقاهي البصرة الكثيرة. في ذلك الوقت عهدت له مديرية تربية البصرة مسؤولية تحرير مجلة اسماها (الفكر الحي) صدر منها عددان فقط احتويا على قصائد له. من بين هذه القصائد قصيدته الطويلة (هواجس عيسى بن الأزرق)، وهي من قصائده القديمة تتحدث عن سجين سياسي يودع في القطار مقيداً بصحبة حارسين. وهي ليست من أفضل قصائده غير أن البريكان يعتقد أن قصائده يمكن ان تنشر في أي وقت ولا علاقة لنشرها بتاريخ كتابتها. ورغم صحة هذه الفكرة بشكل عام إلا أنها تبدو متطرفة في جوهرها، وتتعامل مع المطلق في الأشياء دون رؤية الوجه الآخر لهذا المطلق في نسبيته التي تخترق حتى الشعر. وإلا لما شهدنا الحركات التجديدية المتواصلة والبحث عن الأشكال والرؤى الجديدة، حقيقة أكانت أم زائفة، لان ثمة اشكالاً جديدة تبدو قديمة وأخرى قديمة تبدو جديدة. وهذا ما أعاق النظرة الموضوعية إلى شعر البريكان وامتداداته عربياً. لذا جاءت التقييمات متطرفة ايضاً في مديحها او التقليل من قيمتها، وأصبحت مقارنته بالسياب موضوع إعلام عابر وكتابة عابرة، دون أن يهمها التمييز بين تجربتين مختلفتين تماماً... بين شعر يخفى في الأدراج وحين ينشر يفارقه المطلق إلى ما هو نسبي في ملامح جمالية تبدو في هذه الكلمة او تلك، في هذه الاستعارة او هذا الرمز... في هذه الواقعة او ذلك الخيال، وبين شعر أصبح تأثيره طاغياً ونماذجه «مطلقة»، إن صح التعبير، ولا سيما في قصيدتيه (بويب، وأنشودة المطر) رغم شراسة النقد الذي ووجه به هذا الشعر، ولا أخلاقيته من قبل بعض نقاد ادعوا الحداثة ونعتوا شعر بدر بشعر الانحطاط والتصحر والبداوة كايليا حاوي في مجلة الآداب. ويبدو أن البريكان أدرك ذلك فنشر بعد ذلك، دفعة واحدة، عدداً كبيراً من قصائده الجديدة التي لا يخفى تأثيرها وأهميتها، رغم الدعوات الهابطة والهجوم المتكرر الذي يطالعنا في كتابات غير مسؤولة في بعض مواقع الانترنيت. كيف تقيم تجربة عبد الحسن الشذر، ذلك الشاعر الغائب؟ - المرة الأخيرة التي رأيته فيها كانت في بغداد في شارع الرشيد قريباً من حافظ القاضي، أثناء هروبي، وكان ذاهلاً كعادته من السكر ربما، وربما من صحو الحياة الباعث على السكر. لم يرني. وقفت منتظرا ان تحين منه التفاتة تشجعني على الحديث معه غير أنه واصل طريقه دون أن يعرفني فتخيلته، وكأنه يسير في الهواء، مسيحاً معذباً، فوق بياض لا يشبهه اي بياض، وقد عدوت صائحاً وراءه. اوردت ذلك في قصيدة لي عنه بعنوان (السائر في الهواء) في مجموعتي (دقات لا يبلغها الضوء): أيها الملتفّ بالكفن أيها السائر في الهواء أما رأيتني؟ انه موهبة فذة. ويؤلمني مصير شعره الذي ظل مجهولاً كمصيره. هو الشاب الجميل الذي ذهب ضحية أخرى للسياسة العمياء والفهم الخاطئ والمغفرة التي لا موضع لها في الوجدان، وما اقدم عليه من اعتراف او توقيع في ظرف ما ليس سوى ظل باهت لا يرى في سماء تجربتنا المظلمة الحالكة الخالية من النجوم. اول قصيدة قرأتها له كانت عن قطار الموت الشهير في تاريخنا السياسي، في مجلة الثقافة الجديدة، ثم سمعت، بعد عودتي الى العراق من الجزائر، عن توقيفه وما تبع ذلك من شكوك وهواجس، وادمان على الكحول. ما حل به كان من الثقل، حتى لو خفّ، ما ناء به كاهله الطفل. ان مصيره هو مصير البراءة الموجعة. كلما تذكرته شعرت أنني أوشك على البكاء. أدباء عرب من كان معك في تلك المرحلة من الأدباء العرب؟ - كانت معي كوكبة من الشعراء والأدباء والمفكرين: ممدوح عدوان، علي كنعان، فايز خضور، برهان غليون، فاروق مردم، فواز عيد، انور يونان، كريم ناصيف وهؤلاء جمعتني بهم جامعة دمشق، وربطتني بهم علاقات حميمة، وشاطرت بعضهم السكن فترة طويلة كممدوح عدوان الحبيب الذي كتبت عنه قصيدتين إحداهما بعنوان (القبو) الذي سكناه معاً (نشرت هذه القصيدة في مجلة الكرمل). وأخرى كتبتها قبل رحيله، كما كتبت عنه وعن شعره دراسة طويلة بعنوان (خفة الشاعر التي تحتمل). كان لي أصدقاء حميمون خارج أسوار جامعة دمشق من بينهم علي الجندي، ورشاد أبو شاور، وعلي اسحاق، وعدي مدانات، وأحمد عبد الرحمن، وأكرم شريم، ومحمد الماغوط، واحمد اسكندر، وعلي سليمان، وعزمي مورللي الذي كان يكتب شعره باللغة الفرنسية. كنت ألتقيه في الكاردينيا وفي يوم طلب مني أن أقرأ له شيئاً من شعري فقرأت له قصيدة لم أنشرها في أي من دواويني التي صدرت هي بعنوان (الجدار) كتبتها إثر أحداث العراق الدامية، وكنت آنذاك مشبعاً بقراءتي لكامو: قابع في ظلمة الليل وفي عينيك ساحات النهار فوقها القاتل في عكازه يمشي قتيلا انت لم تعرف سوى الموتى يسيرون طويلا ثم يرتدون في ظل جدار أنت لم تعرف سوى الموت جدار وصدى العكاز يأتيك مع الصمت ثقيلا عبر ساحات النهار أنت في ظلك لا تملك غير البرد والليل دثار تأكل الفئران رجليك... ونصل الساحة الأبيض يرديك قتيلا لو تهزهزت قليلا نحو ساحات النهار أنت حتى لو مددت الكف حتى لو تمزقت على الصمت عويلا سوف لا يخفيك ظل القاتل الاسود لا يخفيك والنصل سيرديك قتيلا شاحباً أصفر في ضوء النهار بعد قراءتي لهذه القصيدة عقب عزمي مورللي معبراً عن دهشته بهذا السؤال: «ابني بتعرف شو بتقول؟». أما الأحب فهو علي الجندي. كان مسؤولاً كبيراً، ولكنه كان يسلك سلوك الصعاليك ويجلب معه أحيانا دبلوماسيين كبارا الى حاناتنا الرخيصة. لم يكن بين هؤلاء على اختلاف مشاربهم ما يعيق التقاءهم او يحول دونه: لا أيديولوجيا، ولا وظيفة، او منزلة ما. كانت الحياة تتفتح كزهرة كبيرة لنا وحتى حين تنغلق تظل تلك الزهرة الكبيرة ذاتها. كنت مدلل الجميع. ألأني العراقي الوحيد؟ أتذكر من بين جلساتنا الحميمة تلك الجلسة التي جمعتني بعلي الجندي وعبد المعطي حجازي ورفيق معلوف وآمال الزهاوي في قصر العظم، كما أظن، وكان على مقربة منا يجلس الفنان الراحل عبد الحليم حافظ. كنا في شغل عنه بقراءة الشعر ما عدا آمال التي هرعت اليه لتحييه وتجلس معه قليلا. الآن أشعر كم كان تصرفها حميما صادقا ما كان أحوجنا اليه ذلك الوقت. وبعد ان قرأت قصيدتين القصيدة التي أوردتها سابقا وأخرى عن الحلاج لم يبق منها سوى مقطع واحد في الذاكرة كتب الشاعر رفيق خوري في مجلة يرأس تحريرها ان قصيدتي عن الحلاج هي «بحر من الدماء والسيوف»، مقارناً إياها بمأساة الحلاج لصلاح عبد الصبور الذي كان آنذاك في زيارة الى بيروت. وهذا ما أثار فضول الصبور لرؤيتي حين قدم الى دمشق، طالبا من علي الجندي اللقاء بي غير ان لقاءنا لم يتم. التقيته بعد سنوات في شقته المتواضعة في حي شعبي في القاهرة. أفرحني ان ألتقي بحجازي ثانية في الكويت، بعد كل تلك السنوات. لقد وجدته ذلك الشاعر الذي ما زال متوهجاً بالحياة والشعر ومحبة الآخر، واهباً شعره، في إنشاده، روحاً نادرة حقاً. لا يمكن الحديث عن دمشق وعلاقتي بأدبائها من دون الإشارة أيضاً الى صديق آخر حميم هو الشاعر فايز خضور الذي كتب عني قصيدة نشرها في أحد دواوينه أتذكر منها: بصحبة شاعر كالليل أتاني من كروم النخل يحمل لوعة البصرة حقائبه يفجرها الضنى والشوق والأتعاب وحين اعتذرت عن مصاحبة فايز في اليوم الثاني على كتابة القصيدة الى بعض أماكن استراحاته المفضلة أبدى ضيقه وابدل «شاعر كالليل» بـ (سامر أسيان). كانت أياما جميلة وصداقات نادرة حقا: فواز عيد ومزرعته الصغيرة التي كان يدعوني اليها في جوبر، محمد الماغوط وشجاره الحبيب مع سنية ونحن نودعها عند موقف باصات المزة لنعود ثانية الى مقهى الغاردينيا، وحرصه الشديد عليّ وهو يراني، صدفة، مخمورا بعد سهرتي مع حجازي والجندي وآمال ومعلوف، ليسرني بما يسر المحب للمحب والشاعر للشاعر، رشاد أبو شاور وفولكلوره الفلسطيني الرحب الذي أدخلني اليه، برهان غليون وروحه الأخوية الشفيفة وراء مظهره المفكر، فاروق مردم الطفل في شعره الساحر الذي هجره أبدا، أنور يونان الذي اقترح ان نكتب قصيدة لنفوز بها في مسابقة سوق عكاظ وفزنا بها فعلاً، ولكن ليس بالجائزة الأولى بل الثانية، وقد شك المحكمون ومن بينهم علي الجندي بأن القصيدة من تأليفي وتأليف ممدوح، ولا أنسى مذيع التلفزيون الذي قابل أنور وهو يبكي، لأن أنور تجاوز الحد وادعى في التلفزيون أن ليس هناك شعر سوري، وهو الذي لم ينشر قصيدة من قبل. أحباء كثيرون وأحداث صغيرة عديدة لا تستنفد. دواوين ديوانك الأول كتبته في البصرة ـ الحقائب ـ هل تتذكر المناخات والدوافع التي دعتك إلى كتابة الحقائب، وهو عنوان يحيل إلى السفر والرحيل. ماذا عن تجربتك الطويلة في العاصمة البريطانية لندن، هل من إيجازها ببعض الكلمات؟ - كتبت الحقائب إثر غربة ثانية امتدت سنوات في الخارج قبل الغربة الأخيرة التي شملتنا جميعاً، بعد رحيلنا سنة .1978 كان الباعث على كتابة القصيدة والديوان الذي حمل عنوانها، هو أنني أودعت حقائبي في محطة في باريس ولم أعد إليها إلا بعد فترة طويلة، وقد شغلتني باريس عن التفكير بها، وهذا ما أثار دهشة الحاضرين من المسافرين الآخرين ممن اعتادوا إيداع حقائبهم يوماً أو يومين وهم يرون حقائبي وقد علاها الغبار، ويدي وهي تمتد بالمبلغ الكبير المطلوب بلا مبالاة. ثم رافقتني هذه الحقائب في عودتي إلى الوطن عبر المحطات والمدن محملة بالسلاسل التي قيدتني طويلاً. كتبت مرة فاطمة المحسن ملاحظة طريفة عن (الحقائب)، معتبرة إياها استباقاً لما حل بنا فيما بعد. أما لندن فهي مدينة المدن وأثينا العصر الحديث التي تختصر العالم ولا يختصرها العالم أبداً.. وطن ومنفى في آن واحد لي فيها الآن أبناء وقبر يضم أحبّ إنسان إليّ. إنها مدينة أضداد قد لا تجد لها مثيلاً في امتدادها وضيقها، في الفتها وغرابتها، في وداعة سكانها وارتيابهم.. انها من الكثافة ما يجعل الزمن عابراً لا يترك غير أثر لا يرى. لقد تعلمت من الشعر الانكليزي الكثير: كثافته ووضوحه، عمقه ومرحه أيضاً في التعامل مع أصغر الأشياء وأكثرها بعداً عن الشعر، وكم كانت دهشتي حين اكتشفت في شعرهم نمطاً يشبه كثيراً ذلك النمط الشائع في شعرنا الشعبي وأغانينا التي كنا نرددها صغارا، وكان لهذا الاكتشاف أثر كبير في كتابة ديوان لي لم أطبعه بعد بعنوان (فوانيس) عن الطفولة. |