المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
04/03/2008 06:00 AM GMT
اعل فوق الاطلال القديمة وتمشَ عليها وانظر الى جماجم المتأخرين والماضين فأيهــــم الاشــرار وايهـــم الصالحــون؟
هذا جزء من نص فلسفي تهكمي كتب على شكل حوار بين سيد وعبده عاشا في احدى مدن العراق القديمة قبل ان تظهر الى الوجود اثينا وروما بقرون عديدة . النص المكتوب باللغة الاكدية على لوح طيني بقي خالدا على مر الاف السنين يحمل بين طياته مقاطع شكلت (الكلمة) وهي سر الوجود واصل الوجود وكانت ميزة انسانية ميزت البشر عن سائر المخلوقات وشكلت انتقالة من الظلام الى النور بعد ان طور ابناء الرافدين تلك الكلمة لتصبح تأريخا وادبا وعلما وقانونا وفنونا شكلت مجتمعة حضارة امتدت على رقعة شاسعة من الوادي العريق ،
ولم لا يدون ابن الرافدين الذي شاءت الصدفة الحسنة ان لا يجد ايسر واسهل من الطين الذي دون فيه كل فكره فأصبح الطين ذاكرة الفكر الرافديني الذي اوصل للبشرية كل ما حققه ابناء سومر واكد واشور وبابل متوحدين بحضارة زاهية سميت باسم النهرين العظيمين . ولأهمية ما كتب على الطين فلا بد من قارئ عراقي لكتاباته لكي يفتح اسرار تلك الكتابة بفكر عراقي بعد ان وصلتنا النصوص المدونة على اختلاف مواضيعها مترجمة من قبل الباحثين الغربيين ، ولهذا كتب العلامة المرحوم طه باقر في احد مؤلفاته يقول : " يجدر بالباحثين العراقيين ان يؤدوا بعض الواجب الملقى على عاتقهم في تعريف القراء والطلاب بتراث هذا البلد عن طريق ترجمة نصوصه الادبية الى العربية ". ومن هذه المسؤولية جاء كتابه الثر ( مقدمة في ادب العراق القديم ) الذي اوصل لنا اهم واشهر النصوص الادبية لأقدم ادب انتجه الفكر الانساني للتعبير عن الحياة وقيمها ومعانيها وصراع الخير والشر فيها بارقى اساليب الفن الأدبي اذ كانت النصوص الادبية احد الموضوعات التي شغلت تفكير العلامة باقر على الرغم من ان تلك النصوص المكتشفة من الواح الطين لا تشكل الا نسبة ضئيلة لا تتجاوز 5% من مجموع الاعداد الهائلة للنصوص المكتشفة ، الا ان تلك النصوص اعطتنا مواضيع ادبية متعددة منها الملحمة والاسطورة وادب الحكمة وادب السخرية ، كما ان العراقيين القدماء الفوا في الغزل وكتبوا التراتيل والصلوات لتمجيد الهتهم ، كما كان للحزن والعزاء اللذين لا يفارقانهم ابدا نصيب كبير في ادبهم فكانت لهم قصائد في رثاء ذويهم واعزائهم ومدنهم المحترقة دائما . ويبدو ان موضوع الاسطورة قد استهوى عالمنا الجديد اكثر من غيره من خلال حبه واعجابه الكبيرين بسيرة البطل كلكامش تلك السيرة التي قرا نصوصها مبتدئاً باللوح الاول منها :- " هو الذي رأى كل شيء فغني بذكره يا بلادي هو الذي عرف جميع الاشياء وافاد من غيرهم وهو الحكيم العارف بكل شيء لقد ابصر الاسرار وكشف عن الخفايا المكتومة وجاء بانباء ما قبل الطوفان لقد سلك طرقا بعيدة متقلبا ما بين التعب والراحة " ومن هذا الاعجاب جاءت قراءته للملحمة التي اعيد طبعها مرات عدة وترجمت الى عدة ترجمات لعدة لغات عالمية ، لهذا فكلكامش ملك الوركاء مدين لباقر علامة الرافدين بما اضفى عليه من شهرة عالمية كبيرة لأن كل ما قام به كلكامش من رحلات ومغامرات من اجل الحصول على المجد والخلود لم تحقق له في حينه شهرة في البلاد بقدر الشهرة التي صنعتها له في القرن العشرين بعد الميلاد ترجمة الاستاذ باقر لملحمته الشهيرة فنال الرجلان بعد ذلك الخلود معا . ومن تل حرمل قرأ باقر نصوص الطين الرياضية التي احتوت على مجموعتين فكانت المجموعة الاولى عبارة عن جداول رياضية خاصة بعمليات الضرب والقسمة واستخراج الجذر التربيعي وغيرها من الحالات الاخرى، اما مجموعة النصوص الاخرى فتضمنت حل المسائل الحسابية والهندسية ومنها اثبت العلامة باقر بان ما يسمى بنظرية فيثاغورس ونظرية اقليدس المتعلقة بتشابه المثلثات كانت معروفة عند البابليين قبل معرفتها من قبل علماء الهندسة اليونان بما يزيد عن الألف عام تقريبا، كذلك كانت هناك نصوص رياضية تخص مواضيع الجبر واللوغارتمات والمعادلات الجبرية ذات الدرجات الاولى والثانية والثالثة واكسبت خبرة تحليل مثل تلك النصوص الرياضية العلامة باقر خبرة كبيرة في مجال الرياضيات مما مكنه من تدريس مادتي تأريخ علم الرياضيات والتراث العلمي العربي في قسم الرياضيات في كليتي التربية والعلوم. ومن تل حرمل ايضا اعلن (( قارئ الطين)) عن اكتشاف قانون جديد بعد قراءة نصوصه وقد سمي هذا القانون باسم قانون (( مملكة اشنونا)) الذي سبق قانون حمورابي في تأريخه . ومع النباتات المذكورة في رقم الطين كانت لعالمنا الجليل وقفة اذ انه نشر دراسة مهمة حوت اسماء بعض النباتات ولفظها باللغتين السومرية والبابلية مع شرح لأستعمالاتها الطبية مستندا في ذلك إلى جملة مصادر تهتم بالطب والادوية والنباتات فكانت تلك الدراسة الفريدة من نوعها واحدة من اهم المصادر في حقل تاريخ علمي الطب والنبات . ومن اشتغالات العلامة باقر الطويلة في الرقم الطينية المسمارية تجمعت لديه مجموعة كبيرة من المفردات اللغوية الواردة في تلك النصوص في اللغة السومرية والاكدية مما نجده الآن متداولا في لغتنا العربية وفي معاجمها التي تؤصلها على انها اعجمية او دخيلة وهي تخص مختلف شؤون الحياة كالمعاملات التجارية واسماء الالآت وادوات الزراعة واسماء مجموعة مهمة من الاشجار والنباتات والاعشاب الطبية وبعضها كلمات يقتصر استعمالها على اللهجة العامية العراقية، ولهذا فأن تلك المفردات استحقت ان تكون واحدة من اهم مؤلفات العلامة في كتابه الموسوم (( من تراثنا اللغوي القديم ما يسمى في العربية بالدخيل )) الذي يعد واحدا من المؤلفات الطريفة والنادرة في حقل الدراسات اللغوية المقارنة. وفي رحلة اثارية يأخذنا المرحوم باقر مع زميله المرحوم الاستاذ فؤاد سفر في ست كراسات شملت مدن شمال العراق وغربه عرفنا فيها على كل المناطق الأثرية الواقعة في تلك المدن وهي من المؤلفات المهمة التي اعانت الباحثين كلهم في حقل الآثار. وينبغي لنا ونحن نذكر اهم المؤلفات والاسهامات العلمية للعلامة باقر التي من الصعب احتواؤها في هذا الاستذكار السريع ان نقف باعجاب امام مؤلفه الموسوم (( مقدمة في تأريخ الحضارات القديمة )) بجزأيه الاول والثاني والذي يعد عملا عالميا ذا قيمة علمية عالية يأخذنا فيه في سياحة تأريخية وحضارية كتبت بأسلوب السهل الممتنع اذ يفهمه كل من يقرؤه ان كان مختصا ام غير ذلك ، فخصص الجزء الاول للحديث عن تأريخ بلاد الرافدين وحضارتها ، في حين كان الجزء الثاني من الكتاب عبارة عن رحلة ممتعة شملت اهم مراكز الحضارات الانسانية فمن اهرامات مصر العجيبة نرحل الى الجزيرة والخليج العربي ومنها الى بلاد الشام باقوامهم وحضارتهم العريقة ثم الى حضارة الهند بغرائبها وبلاد الاناضول ومدن الحضارة الفارسية ذاهبا بعدها الى اكروبوليس اليونان ثم الى كوليسيوم وقصة سقوط روما مارا بحضارتي المايا والازتيك في امريكا الوسطى فكان هذا الكتاب سفرا خالدا من الاسفار التي تركها لنا العلامة باقر وشكل ولحد يومنا هذا اهم ما اُلف وكتب في هذا المجال . ولايمان العلامة باقر بأن الحضارة الحديثة والانجازات العلمية المعاصرة لم تأتِ من فراغ بل اقيمت على تراث ومنجزات سابقة كان الفضل في الكشف عن الكثير منها لعلم الآثار من خلال النصوص الطينية المكتشفة التي تتعلق بالمعارف العراقية القديمة وخصوصا علم الرياضيات والفلك التي كان للعراقيين القدماء الريادة فيها، ولاستقصاء منجزات الحضارات الاخرى في مختلف مجالات العلوم والمعارف فقد قدم مؤلفه الموسوم (( موجز في تأريخ العلوم والمعارف في الحضارات القديمة والحضارة العربية الاسلامية )) والذي هو واحد من اهم المؤلفات العالمية في مجال تأريخ العلوم ، فضلا عن ذلك فأن للعلامة باقر ابحاثا علمية كثيرة نشرت في مجلات عربية وعالمية لعل اهمها ما نشر في مجلة سومر ، وكذلك ما قام به من ترجمة للعديد من الكتب ومن اهمها (من الواح سومر) لأستاذه صموئيل نوح كريمر الذي طلب منه شخصياً أن يترجم الكتاب، وكذلك فأنه ساهم مع مجموعة من الباحثين العرب في ترجمة كتاب ( تأريخ العلم) لجورج سارتون، ومن يقرأ الكتب المترجمة من قبل العلامة باقر فأنه لايشعر على الاطلاق بأنه مترجم من لغة اجنبية اذ انه كان شديد الحرص على انتقاء الجمل وسلامتها اللغوية لهذا نجد ان كتبه وابحاثه الكثيرة خالية من الاخطاء النحوية ولهذا امتازت مؤلفاته بصفتين اساسيتين الأولى: مادتها العلمية الغزيرة والثانية: المسحة الادبية التي كانت تثير الاعجاب. يقول الاستاذ الدكتور فوزي رشيد بهذا الصدد: (( قدمت له يوما مسودة مقالة قمت بكتابتها وطلبت منه قراءتها وابداء وجهة نظره بها وبعد لحظات من بدئه القراءة هز رأسه وقال لي مبتسماً: هذه الجملة لا تعجبني لاحتوائها على مفعولين، لأن الجملة التي تحتوي على مفعولين كالمرأة المتزوجة من رجلين)). وهذا ليس غريباً على استاذنا الراحل اذ انه نشأ في بيت يهتم بالعلم فحرصت عائلته على تدريسه بشكل خاص الموضوعات اللغوية فدرس النحو والصرف على يد والده وعمه وكبار مشايخ مدينة الحلة. وكما كان العلامة باقر متألقا في حقل التأليف العلمي فأنه كان مساهماً كبيرا في حقل التنقيب الآثاري في العديد من المواقع الاثرية سواء كانت في العراق أم في خارجه عندما أحيل الى التقاعد مجبراً بعد انقلاب عام 1963 بعد ان شغل منصبين مهمين الا وهما مدير الآثار العام ونائب رئيس جامعة بغداد ليسافر الى ليبيا عام 1965 ليعمل مستشاراً في مصلحة الآثار وفي الجامعة الليبية واضعاً هناك اللبنة الاولى في حقل الدراسات الآثارية عبر خمس سنوات من العمل عاد بعدها الى العراق بعد اعادة تعيينه تدريسياً في قسم الآثار - جامعة بغداد حتى تقاعده عام 1978م. باقر يلحق بكلكامش شح العطاء العلمي للعلامة باقر منذ عام 1981 ومنذ ذلك العام اعتبر نفسه ميتاً بعد تدهور حالته الصحية اثر اصابته بجلطة دماغية أضطرته الى العلاج في أحد مستشفيات لندن عاد بعدها مدركاً ان وقت اللحاق بصديقه كلكامش الى العالم الاخر قد اقترب بعد ان مل من مصارعة المرض الى ان جاء موعد الرحيل للقاء صديقه وكان ذلك يوم الثامن والعشرين من شهر شباط عام 1984 . وعلى الرغم من رحيل الجسد فقد بقي باقر حياً وخالداً لأنجازاته العلمية وفي الحقلين الاكاديمي والحقلي ويبدو انه ليس بأيدينا شيء نقدمه له يوازي ما قدمه للعالم من انجازات مهمة سوى استذكاره في هذه المناسبة بعد ان نسيه المسؤولون في العراق، في حين كرمه العرب من خلال (اتحاد الآثاريين العرب) عندما تم منحه درع الاتحاد في احتفال مهيب عام 2002 لما قدمه من خدمات جليلة في حقل العمل الآثاري، وجدير بالاشارة هنا وللتأريخ نذكر ان هذه المبادرة جاءت بمقترح قدمه الاخوة من السودان الشقيق والذي جاء على لسان الدكتور عباس سيد أحمد الاستاذ في جامعة الملك سعود في المملكة العربية السعودية عندما اقترح ذلك في مؤتمر الاتحاد المنعقد في رحاب جامعة القاهرة عام 2001 وقد اثار طرح هذا المقترح عاصفة من التصفيق في قاعة المؤتمر وكان تعبيرا عن تأييد الاشقاء العرب كلهم لتكريم علامتنا الجليل وكان هذا الموقف قد اثار في نفوسنا نحن العراقيين المشاركين في المؤتمر انذاك بهجة وغصة في آن واحد ، فالبهجة جاءت ان اسم العلامة العراقي وانجازاته العلمية كانت حاضرة بين الآثاريين العرب في اكبر ملتقى علمي لهم، واما الغصه فكان سببها ان بلدنا لم يكرم ابنه بما يليق باسم بات يتردد في المحافل العربية والعالمية. وهنا ونحن نستذكر علامة الرافدين في ذكرى وفاته ندعو وزارتي الثقافة والتعليم العالي ان تعيد سك الميدالية التي قام بعملها فناننا الكبير محمد غني حكمت والتي تحمل على وجهها صورة العلامة باقر ويتم تخصيصها كجائزة لمسابقة علمية – ثقافية تهتم بالبحوث والاعمال الاثارية تحمل اسم العراق اولاً واسم باقر ثانياً لأن باقر كان وفياً للعراق ولرافدي العراق وطينه . وسلامٌ عليكَ وعلى رافديك عراق القيم فـــأنت منــارٌ وحب ودار لــكل الامــم
|