المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
24/02/2008 06:00 AM GMT
فؤاد التكرلي آخر رموز الخمسينيات، هو من جيل الريادة الحقيقية في القصة العراقية الذي سعى إلى تأسيس شكل جديد من النثر العراقي. في كتابه الجديد «حديث الأشجار» (دار المدى)، يقدّم التكرلي ستّ قصص قصيرة وستّ حواريات. وإذا كنّا قد ألفنا طبيعة النص القصصي لدى التكرلي وإشكالاته (الواقعية والبساطة والنهايات الملغزة)، فإنّ الحواريات ـــــ وهي وصف موارب للمسرحيات ذات الفصل الواحد ــــــ تفسح له المجال ليكون مباشراً. يحمِّل التكرلي الشخصيات القليلة بعضاً من أفكاره وآرائه بما يجري الآن، مع الإيجاز والصياغة الرمزية للحدث والسخرية التي تختزنها كلمات المتحاورين. كما أنّ التكرلي يلجأ في حوارياته إلى تقديم رؤى فلسفية يعالج بها طبيعة الموقف الفانتازي الذي تنحرف إليه الشخصيات. في الحوارية الأولى، يطلب الشيخ من عجوز أن تحدّثه عن حوارها مع الأشجار فترد عليه: «هذه الأشجار يا سيدي لا تقول لي كلاماً واضحاً لكنّها هي هكذا دائماً. تفهمني وتلعق جراحي وتواسيني على طريقتها». ونكتشف في النهاية أنّ كليهما ضائع، ولا مكان له في ليل طويل. في الحوارية الثانية بعنوان «الأشباح»، يبدو الإطار العام للحدث كابوسيّاً، يتبادل الرجل الذي يقوم بالاختطاف وضحيّته المربوطة إلى الحائط جملاً حادةً، قصيرة وعدائية، يحاولان من خلالها تصفية حسابات الماضي. وفي الختام، يقول الخاطِف لضحيته ناعياً عليه أنّه يتكلّم بمسكنة وبلهجة يصفها ساخراً بالدرامية: «أنا لست طيباً، أنا رجل شرير يمارس الشر بأمانة وأنا مثل بقية العراقيين الأسوياء هذه الأيام أخدم مصلحتي. أبحث عنها لأنها الشيء الوحيد الذي بقي لي». في الحوارية الأخيرة «الهواتف الملوّنة» ميلٌ أكثر فجاجة إلى مقاربة الواقع، الرجل الوحيد على المسرح المفترض يتبادل حوارات موجزة عبر هواتفه مع شخصيات لا نعرف ماذا تقول له لكنّنا نفهم ما تريده من خلال ردود أفعال الرجل وطريقة إجابته. تدريجاً، تختلط الحوارات وردود الأفعال لنكتشف أنّ الرجل يدير عصابة للقتل والاختطاف. يتلقّى الأوامر من جهات عليا ويدفع الرشى لها ليحصل على منصب وزاري. ثمة إشارات عديدة في النص تحيلنا على شخصيات معيّنة في المشهد العراقي الراهن، لكنّ الرصاصة التي يطلقها الخادم الذي يظهر أخيراً تُنهي كل ارتباط بالواقع. في القسم الآخر من الكتاب الذي يضمّ ست قصص قصيرة، نستعيد الخصائص الأساسية التي يتميز بها النص القصصي لدى التكرلي: البساطة الآسرة، التأكيد على المكان، الوصف الدقيق للمشاعر والأفعال، وضوح المقاصد لدى الشخصيات الرئيسة ووضوح علاقتها مع المحيط الخارجي. وعلى رغم ذلك الوضوح، فهي تواجه القارئ دائماً بسرٍّ ما: جريمة خفية أو علاقة غير مشروعة أو حب محرم. في نهاية قصة «سر الطفل»، نكتشف علاقة جسدية بين الأب الذي يحاول كتابة قصة مع ابنه وبين جارته الأرملة. فيما تروي قصة «الاختيار» المراحل المتتالية غير الظاهرة ولكن المحسوسة لخطّة يضعها رجل لقتل أمه، متحرياً في لقاءاته مع صديقه المحامي عن العقوبة التي يُحتمل أن يتلقاها. أمّا «تحت شجرة وارفة الظلال»، فتروي قصة موت معلن، ينجح راوي القصة في إيقافه ليعود بعد ذلك إلى الظلمات التي جاء منها. أما قصة «البجعة» وهي أطول نصوص الكتاب، فتصوّر موتاً مأساوياً لرجل عاش وحيداً مدرس لغة عربية متقاعد، أعزب، مسيحي، يراقب من شرفته بناية وزارة الإعلام التي يحتشد فيها الصحافيون والمراسلون الأجانب. وهو يرى أنّ وجودهم المستمر يعني أنّ الحرب مازالت مؤجلة. أمّا انسحابهم، فيشير إلى أنّها أصبحت وشيكة. يعتكف الرجل في شقّته مع الموسيقى والكتب والطيور التي يعتني بها، فيما تفصح الفتاة الصغيرة التي تروي القصة عن حب مستحيل له: «وأنا أراقبه يمشي ببطء، عرفت أنّ القلق السري الذي يسكنني سببه جزعي من المستقبل الذي سيواجهه هذا الرجل. ولم أسأل نفسي ولا الآخرين عن علاقتي بذلك. فقد كنت غارقة في موجة من عواطف لم أعهدها قبلاً». كان الرجل قد وصفها مرة بالبجعة البيضاء التي تشع نوراً ، بينما استسلمت هي لبعض ما تفهم منه غير مبالية لما لا تفهم على حد تعبيرها. هنا كما في قصص وحواريات أخرى في الكتاب حوار متصل بين الشيخوخة والفتوة، بين الموت الوشيك والحياة المتجددة في إطار محاولة خيالية لاختراق ما لا يمكن اختراقه، الخيال يفرض نفسه بقوة ليعيد التوازن إلى ذات الكاتب قبل أن يعيدها إلى النص. في حوارية « انتظرني عند شجرة الدردار» يجعل التكرلي عمر الرجل في الثلاثين بينما تتجاوز المرأة التي يحاورها الخمسين برغم أنهما يستعيدان ذكريات مشتركة أو يحاولان تخيلها، تقول المرأة للشاب أو لصورته كما تركتها منذ ثلاثين سنة: أنا لست تماماً تلك التي تنتظرها، لست هي بالتحديد، هناك فرق شاسع بيننا، هوة سحيقة من نوع ما، بينما يعجز هو عن حل ألغازها المتكررة حينما يقرر ثانيةً الذهاب للبحث عنها. التكرلي في «حديث الأشجار» يبحث عن مصائر نقيضة عن المتوقع لشخصياته، يخرج ما في أعماقها من أسرار ونيّات غامضة، كأنه يحاول أن لا يتركها لتموت فقط بل لتواجه ذلك الموت بشجاعة، أو لتنجح في التخلص من براثنه وتستعيد ما فقدته من إنسانيتها.
|