السرد الخفي وتنميط العالم - تأملات في أدب الأمثال

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
20/02/2008 06:00 AM
GMT



كتب أرنست همنجواي مرة قصة قصيرة جدا تتألف من ست كلمات فقط:
((للبيع، حذاء لطفل، لم يلبس قط))
وكان يعدها أعظم ما كتب.
مهارة همنجواي تتضح هنا بقدرته على التكثيف الهائل للغة السرد، فالكلمات التي ألفت هذه العبارة لا تعرض أية حكاية، فالحكاية هنا تفع على عاتق القارئ، فعليه أن يجيب عن أسئلة مثل: من القائل؟ ولماذا قال؟ ليستطيع فهم النص. وبالطبع يمكن أن تكون هذه العبارة قد جاءت على لسان أب مفجوع بابنه الرضيع الذي توفي قبل أن يتمكن من المشي لمرض أو فقر.
ليس لهذه الحكاية أي وجود في جسد القصة المكون من الكلمات الست، فنحن استنتجتاه من محاولة الإجابة على الأسئلة التي يثيرها النص ، والنص بهذا يصبح شبيها بالثلاجة البحرية التي يغطس تسع أعشارها في الماء ولا يطفو إلا العشر، ويكون على الرائي تقدير حجم الجزء الغاطس.
ويحفل التراث العربي بعشرات الآلاف من النصوص التي يطلق عليها تسمية (الأمثال) جمعها القدماء في موسوعات عديدة، وقاموا بشرحها (مثل مجمع الأمثال للميداني)، والشرح غالبا ما يشير إلى أن للمثل حكاية، بسردها الشارح، وهكذا نشأ أدب يمكن أن نطلق عليه (أدب الأمثال) يتكون من المثل المتداول وحكايته.
في كتب الأمثال يعرض المثل ثم تُروى قصته مثل:
((إياكِ أعني واسمعي يا جارة
أول من قال ذلك سهل بن مالك الفزاري، وذلك أنه خرج يريد النعمان فمر ببعض أحياء طي ، فسأل عن سيد الحي ، فقيل له: حارثة ابن لام. فأم رحله فلم يصبه شاهداً، فقالت له أخته: أنزل في الرحب والسعة. فنزل فأكرمته ولاطفته، ثم خرجت من خبائها، فرأى أنها أجمل أهل دهرها وأكملهم، وكانت عقيلة قومها، وسيدة نسائها، فوقع في نفسه منها شيء فجعل لا يدري كيف يرسل إليها ولا ما يوافقها من ذلك، فجلس بفناء الخباء يوماً، وهي تسمع كلامه، فجعل ينشد ويقول:
يا أخت خير البدو والحضاره ... كيف ترين في فتى فزار
أصبح يهوى حرة معطاره ... إياك أعني واسمعي يا جاره))
في هذا الاقتباس من (مجمع الأمثال) نرى أن المثل قيل في واقعة بعينها أبطالها أشخاص محددون، وفي نهاية الشرح يبين الشارح المورد الذي يضرب فيه المثل، وعن المثل السابق قال:
((يضرب لمن يتكلم بكلام ويريد به شيئاً غيره.))
غير أن من سيستخدم المثل لا يلزم له أن يعرف قصته، فالمثل مركّب بطريقة تدلّ على الموقف الذي يضرب فيه، فمعنى المثل السابق – مثلا – واضح جليّ، ويمكن لكل متحدث أن يستعمله في الموقف المناسب، سواء أعرف قصته أم لم يعرفها.
هذا العدد الهائل من الأمثال يمكن أن يعدّ نوعا مميّزا من السرد، فوراء كل مثل قصة، يمكن أن نستنتجها من معناه‘ غير أنّ هذا الضرب من السرد يرمي إلى غاية فلسفية لافتة، فالمثل حين يضرب في مواقف متنوعة فينطبق عليها مضمونه، يدلّ على محاولة تصنيف المواقف الحياتية على أنماط ، ومن آلاف الأمثال يتولد آلاف الأنماط ، كل منها يمكن أن يتسع إلى ما لا نهاية من المواقف.
تمتاز لغة المثل بالكثافة العالية التي تتأتى من تكنيكات عدة، فجملة المثل تتمحور غالبا حول (فعل)، كما في الفعل (أعني) في المثل السابق، ومثل:
((أينما أوجَّهُ ألقَ سعدا))
((إنّ الهزيل إذا شبع مات))
((إذا حان القضاء ضاق الفضاء))
ففي كل هذه الأمثال يستخدم الفعل لرسم ملامح الموقف، وكثيرا ما تأتي الأفعال في المثل في جملة شرطية – كما في المثالين الأخيرين- فجملة الشرط قالب لغوي يمكن تطبيقه في أي موقف يتحقق فيه (فعل الشرط).
وجملة المثل لابد أن تنطوي على ثنائية ما لبناء مفارقة درامية، تعطيه الفرادة التي تناسب فرادة الموقف أو فرادة نمط الموقف، ففي المثل ((إذا ظلمت من دونك فلا تأمن عذاب من فوقك)) نلاحظ وجود ظالمين ومظلومين:أنت ومن دونك، وأنت ومن فوقك. وفي كلّ مثل تقريبا يمكن أن نجد التركيب الثنائي بوصفه عنصرا رئيسا في البناء:
((إنك لا تعدو بغير أمك))          =أنت×أمك
((عند جهينة الخبر اليقين))        =جهينة×الخبر
وثمة تكنيك آخر شائع في لغة الأمثال، يكسبها الفرادة والكثافة ويجبر من يسمع المثل على التساؤل عن قصته أو مغزاه، فغالبا ما تحتوي الأمثال مفردات غريبة، كالكلمات المهجورة وأسماء الأشخاص والأماكن، فمن يسمع المثل:
((بلغ السيلُ الزبى))
لا يملك إلا أن يتساءل عن معنى مفردة (الزبى) ويقوده التساؤل إلى حكاية المثل:
((أتي معاذ بن جبل بثلاثة نفر قتلهم أسد في زبية، فلم يدر كيف يفتيهم، فسأل علياً رضي الله عنه، أن للأول ربع الدية، وللثاني النصف، وللثالث الدية كلها. فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقضائه فيهم فقال: لقد أرشدك الله للحق.))
هذا ما سيجده في المعاجم أو موسوعات الأمثال، فهذه مفردة فريدة لم ترد إلا في المثل.
الأمثال فن له لغة متميزة غنية بفنون القول، وهو حقل لغوي جدير بالدراسة المفصلة للكشف عن جمالياته وسماته.