المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
18/02/2008 06:00 AM GMT
في «الضلع» (دار الجمل) يؤرّخ حميد العقابي لجيل كامل في العراق هو جيل الخيبات والحروب. شبحا الموت والكبت الجنسي، يلاحقان البطل، المستسلم لحالة إحباط تعكس موت الأحلام والأمنيات. قراءة نقديّة للرواية . بعد «أصغي إلى رمادي» (2002)، التي امتازت بالجرأة والأسلوب النثري، ذات اللغة الشعرية الواضحة، صدرت لحميد العقابي رواية «الضلع» (دار الجمل). من الواضح أنّ هذا الشاعر والكاتب العراقي أراد من «الضلع» أن تكون امتداداً لسيرته الذاتية المشار إليها أعلاه، أو جزءها الثاني. لكن الرواية في حقيقتها أعمق من أن تكون سيرة ذاتية لفرد عراقي أو لحميد العقابي شخصيّاً. تتناول الرواية جيل الخمسينيات والستينيات، جيلاً تعساً ينقصه الحظ لا الأمل والأحلام والتطلّعات. لكن، كيف عاش هذا الجيل؟ الإجابة عن هذا السؤال جاءت بها الرواية: «ولدتُ يومَ مجزرةِ سجن الكوت، وخُتنتُ يوم السحلِ المريع، ودخلتُ المدرسةَ عامَ مجيء الحرسِ القومي واغتلمتُ يوم عودة البعثيين إلى الحكم، وعشقتُ امرأةً يوم بدء الحرب العراقية ـــــ الإيرانية، فبربك قل لي مَنْ أكثر شؤماً أنا أم طويس؟». الرواية مبنيّة بتوازن واضح على فكرتي الكبت الجنسي من جهة، وكبت الأمنيات وموت الأحلام من جهة أخرى لدى جيل عراقي محدّد، هو جيل الخيبات والحروب. بطل الرواية لم يسبق له أن التقى امرأةً في حياته، بسبب وضع العراق الخاص. انتمى إلى حزبٍ غير حزب السلطة، وسجن ثم فرّ من بلده ليعود إليه مقاتلاً، ثم يصل إلى إيران فسوريا وبعدهما الدنمارك. خلال كلّ تلك المراحل، لم يتسنَّ له اللقاء الجسدي بامرأة. عندما وصل إلى الدنمارك، كان محطّماً، مريضاً يعاني الفصام. من هنا، ربط حميد العقابي جميع شخوص روايته بحبل الكبت الجنسي، وانعكاسات ذلك الكبت، حتى تدخَّل في مخيّلتهم الاستمنائية. إذ إنّ بطل الرواية ظلّ مطارَداً طوال أحداث الرواية من شبحين: شبح الكبت الجنسي حالةً جسديّة، وشبح الموت الذي خيّم على أغلب مراحل حياته. لذا نجده في كل خلوة ذاتية، يفكّر إما بالجنس أو بالموت. وهذا ما دفع به إلى تخيّل نفسه الشاعر وضاح اليمن فيُغرم بأم البنين، زوجة الوليد بن عبد الملك وتهيم به. هكذا، يضاجعها على طريقته وفق ما تمليه عليه مخيلته المريضة. وما ورود قصة وضاح اليمن بشكلها المتخيّل من بطل الرواية ،إلاّ تعزيز لفكرتي الموت والجنس... داخل تلك الروح القلقة. وعلى رغم مرضه الخطير، وملازمته المستشفى بسبب مرض القلب، وتحت تأثير المخدر، يتخيّل نفسه مجدداً الإله تموز... فيما الطبيبة عشتار. هكذا أيضاً يضاجعها بطريقة حديثة جداً طالما استحضرتها مخيّلته وهوسه. حميد العقابي أراد القول بأن الجيل الذي ينتمي إليه، لا علاقة له بالزمن. ومن حقّه أن يتصوّر نفسه وضاح اليمن، أو تموز، أو أيّ شخصية أخرى. المهم أن يجد إشباعاً لمخيلته الاستمنائية... كثيرون من أبناء جيله ماتوا في الحروب ولم يلتقوا بامرأة. بطل الرواية لم يكلّم امرأة في حياته عن الحب، أو المشاعر والأمنيات. كثيراً ما حرّكت فكرة ارتباط الجنس بالموت خيالات الكتّاب، لكن في «الضلع»، نجد عملاً جديداً بأسلوبه السردي والشعري. عمل كتبه شاعر مستمتع بالسرد وبأسلوبه الشعري المصوغ بطريقة روائية. فقد اتخذ الكاتب من عالم المتخيّل واقتحام «المحرّمات» نتيجة فصام الشخصية، متكأً مهماً وموفقاً في صوغ فكرة الرواية. البطل في قرارة نفسه متيقّن من أنّه داعر ودنيء، تخيّل نفسه تحت تأثير الفصام أنه المسيح أو بطل أو رجل مهمّ خارق القدرات. لذا، راح يبحث جاهداً عن بطولة أو ذنب يقترفه يُتيح للآخرين إنزال أقسى العقوبات في حقّه. لكنّه لم يجد الاّ خياله مكاناً خصباً لاقتراف الذنوب، ولم يجد إلا المضاجعة سلاحاً للنيل من قيم تربّى منذ الصغر عليها وعلى ممنوعاتها ومحرّماتها. الذات الأخرى الكامنة داخل الشخصيّة، وتناقضاتها وصراعها مع الذات الظاهرة، أخذت حيزاً كبيراً وأساسياً من سرد أحداث الرواية... وهي تمارس حياتها اليومية بزيف وتظاهر لا يترجم ما يعتمر دواخلها. من هنا، نجد أنّ الطريقة التي استخدمها الكاتب لفصل الذات الظاهرة (حميد) عن الذات الكامنة (عاشور) حين شطر الكاتب نفسه إلى شخصيتين، كانت بإخراج الجزء النزق والمتعالي من داخله رغم خوائه، الجزء المتضارب بنزواته وأفكاره السياسية والروحية، ليصحبه إلى جانبه وهو يخوض عالم التخيّلات. صوَّرهُ إنساناً وأطلق عليه اسم عاشور، اسم مستعار لشخصية مستعارة، شخصية لا علاقة له بالواقع سوى أنها كانت تعيش داخل روح الراوي، ليعزز لنا حالة الفصام التي يعانيها. صارا يتبادلان الأفكار والنقد، وقد يصل حد القطيعة والخصام أحياناً. ثم نجد أنّ هناك بعض الاعترافات التي يبوح بها أحدهما للآخر، وهي تترجم ذلك الصراع المرير داخل الروح الشرقية، والكبت الجنسي يمثل أحد أعمدتها. هكذا، يعترف عاشور لحميد بأنّه تجاوز الثلاثين ولم يمارس الجنس بشكله الحقيقي، وأنه كان يستهلك خياله للممارسة فيستحضر النساء كما يشتهي. وتستمر الصراعات والأحاديث والانتقادات اللاذعة بين روح الراوي وداخله الخفي، حتى اعلان موت عاشور منتحراً دون العثور على جثته رغم اقتحام الشرطة الدنماركية شقته. يختفي عاشور بين سطور الرواية، حين تلفظه روح الراوي مثل قيح مرضٍ مزمن، لكنه يبقى عالقاً في ذاكرته حتى سطور الرواية الأخيرة. يسلك حميد العقابي في «الضلع» طريقاً مختلفاً عن الطرق التجريبية والكلاسيكية التي شهدناها في كتابة الرواية. المعروف عن العقابي. أنّه شاعر ينتمي إلى الجيل الثمانيني وله ستة دواوين. بالتالي، فإنّ اللغة التي صيغت بها أحداث الرواية، هي لغة شعرية بامتياز، حتى في حالات السرد التي ظهرت بوضوح في الجزء الثاني من الرواية تحت عنوان «الرماد». في هذا الجزء، يؤرخ العقابي لفترة مهمة من تاريخ العراق، من خلال الصراع الداخلي للإنسان البسيط، الشاب المتلهّف للحياة بأمنيات عظيمة: الجنس، القميص، الحبيبة! في «الرماد»، يتلمّس القارئ لدى الشخص الذي يعاني كلّ تلك الصراعات والتناقضات، عداءً شرساً لكلّ شيء: عداء للوطن، للقيم، للأحزاب، للعائلة، للأخت والأمّ والصديق، للحياة والدين، لكل شيء. وهذا ما يذكرنا بكتابات الأديب الإنكليزي جورج أورويل الذي اتُهم بعدائه للماركسية والشيوعية والنضال من أجل الحرية. بينما الحقيقة أنّه لم يكن في أي وقت من الأوقات معادياً لتلك الأفكار، وهذا تماماً ما ينطبق على مجمل الأفكار والانتقادات التي جاءت بها رواية «الضلع». أما الغربة التي تنخر الروح، المنفى، البرد، الخواء، اللا شيء، فكل هذا لم يكتفِ به الكاتب، بل راح يضيف إليها غربة أشد وطأةً لإظهار العمق الحقيقي لمعاناة العراقي، بغض النظر عن المكان، داخل الوطن أم خارجه: «وغربة أشدّ بين أبناءِ جلدتكَ الذين كلما هربتَ منهم تلاحقكَ سحناتهم ولغتهم ومناطيد دخانهم التي تسدّ عليكَ آفاق انطلاقكَ، وكلما ارتفعت سنتمتراً واحداَ في فضاء سموّكَ تناخت الأذرع وهي تشدكَ إلى تحت حتى تغور بكَ في وحل زمنها أو تركن لأقدارك كسولاً مثل جاموس يتلذذ برطوبةِ الوحلِ هرباً من هجيرِ شمسٍ حارقة». هكذا يصوّر حميد العقابي حالة العراقي الذي وجد نفسه خلال مرحلة المراهقة، وجهاً لوجه أمام أتون الحرب، ليتيقّن أنّه أصبح مشروع موت مبكر. وحين أدرك حقيقة ذلك الشعور، صار يبحث عن سبب مقنع يبرّر موته. هذا السؤال الشائك ظلّ مطروحاً من ذلك الجيل العراقي التعس حظاً والأجيال التي تلته حتى يومنا هذا.
|