الهوسة العراقية عرض مسرحــي خشبته الأرض |
المقاله تحت باب مقالات و حوارات لعل من المؤسف والمحزن حقا أن الشعر الشعبي العراقي خاصة في منطقة وسط وجنوب العراق وعلى ضفتي نهر الفرات تحديدا , لم يحض بأهتمام كاف من قبل الدارسين ونقاد الأدب والباحثين في اللغات الدارجة والمهتمين بفولكلور الشعوب ,
اذ تنفرد هذه المنطقة عن سواها في كل بقاع الدنيا بأمتلاكها أسرار أرض سمراء شهدت ولادة أولى الحضارات في الوجود الأنساني , وأحتيازها على خزين لا ينضب من سحر هذا الأديم المطهّر بنور الشمس اللاهبة , وحكاياه المشبعة بالرؤى والشعر والألوان والعذابات المريرة .. أن كيمياء أرض الجنوب العراقي جعلت لكل شيء ذائقته الأستثناء .. زروع .. حيوات .. ماء .. نار .. لهاث ظهيرة .. تعب أماسي
..وأخيرا ( الحسجة ) وهي فن من فنون الكلام الجميل الذي يختزل المعنى حد التجريد وبتلميح شديد الذكاء , تعجز الفصاحة من أحتواء مقاصده بهذا التكثيف والأختزال .
و( الهوسة ) هي نوع من أنواع الشعر قوامها عدة أبيات (ثلاث أو أربع ) ذات وزن معلوم تنتهي بقافية محددة ثم تعقبها ( الهوسة ) وهي ذات أيقاع راقص يختلف عن أيقاع الأبيات التي سبقتها , تصاحبها دبكة أو رقصة جماعية غير منظمة يوّحدها
الأيقاع ذاته وتعاد أكثر من مرّة , وهي تقال في مناسبات عدّة ذات أهمية عند ا لناس خاصة في المعارك والثورات والأنتفاضات , اذ فيها قدرة على ا لتحريض وحقن الهمّة في نفوس المقاتلين قلمّا تتكرر في فنون كلامية اخرى , كما يقال الكثير منها في عاشوراء وأجواء المصاب الحسيني , وتقال أيضا للسخرية والنقد خاصة السياسي منه , والقليل منها يلقى في مناسبات الفرح . و ( الهوسة ) هي مزيج من الضحك والبكاء .. من الآسى والوعيد .. من ضرب الأرض وضرب الرؤوس .. من الأحساس بالهضيمة والتشفي .
وقد غاب عن الكثيرين أن ( الهوسة ) فيها مقومات عمل مسرحي متكامل رغم قصرها ( المضمون \ النص – الفعل الدرامي \ التمثيل – الوزن الأيقاعي \ الموسيقى التعبيرية – اللأرض \ خشبة المسرح – وأخيرا المشاهدون \ المتفرجون الذين يتحلـّقون حول مسرح ( الهوسة ) والذين ينخرط قسم منهم اذا طاب له أو تمت
قناعته في المشاركة في هذا الفعل الجمعي ) .. انها تؤشــّر حسب أعتقادي الى كيفية وبدايات نشوء المسرح .
كما تمتاز أغلب ( الهوسات ) بأنها تؤدّى أرتجالا وحسب درجة التأثـّر بالواقعة , كما ينظمها ويلقيها الرجال والنساء على حد سواء , وهاتان الميزتان نادرا ما تتوفر في فنون الشعر الدارج والشعبي عند تجارب الشعوب الخرى .. فهي دائما ما تأتي مشحونة متوترة متدفقة لاذعة تصيب موضع الجرح مباشرة , ويتردد دويّها كأبلغ محرّض لايدانيه أي فعل تحريضي آخر .
ولكي تكتمل الصورة وتتوضح معالمها عن ما يعنيه مصطلحي ( الهوسة والحسجة) نورد بعضها مع مناسباتها ..
أولا – في واحدة من ألاعيب السلطة ابّان العهد الملكي في العراق , أن كلـّف
السيد علي جودة الأيوبي بتشكيل الوزارة والمعروف عنه ضعف ادارته
وعدم جدية قراراته , فجاءت هذه ( الهوسة ) كتحريض لأستبداله بآخر
أكثر قدرة على أدارة الدولة وهذا ما حصل فعلا :
ياشبان يا فرسان ثوروا وياي
أتركوا النوم أتركوا الزاد أتركوا الماي
علي جودة رئيس عراكنه وي واي
من عيب من الله شهل عيله
ثانيا ـ وفي أحدى جولات الملك فيصل الثاني يصاحبه رهط من المقربين بينهم
نوري السعيد رئيس الوزراء أنذاك , الى منطقة الفرات الوسط , فأستقبله
( مهوال ) ( وهذه تسمية تطلق على من يؤدي الهوسة ) وكان من آل فتله ,
العشيرة التي تحمّـلت ثقل قيادة عمليات ثوّار العشرين برئاسة الشيخ عبد
الواحد الحاج سكر , ب (هوسة) يذكره فيها بالتضحيات الجسام التي قدمّها
أبناء الجنوب , ويغمز من طرف خفي الى نوري السعيد الرجل القوي
المعروفة علاقته الوطيدة بالعرش البريطاني :
يمحّي الشعب لبيّك من ناديت
ذبحت أهل الفرات عليك ما بكيّت
سوّيتك حكومه وسلـّميتك بيت
شلون تخلـّي البيت المطره ومطره تصاوغ بي
ثالثا - المعروف عن الملك فيصل الأول شغفه وولعه وفهمه للهوسات , وقد طلب
من الشيخ عبد الواحد والسيد محسن ابو طبيخ اللذان كانا برفقته أن يلقي كل
منهم هوسة وهو في غمرة أنتشاءه بما يسمعه من هوسات الترحيب , فألقى
الشيخ عبد الواحد ( هوسة ) دون الأبيات التي تسبقها وذلك لعدم قدرته على
النظم اذ قال :
تندار الدنيّه وهاذ آنه
بينما انبرى السيد محسن وهو المتمكـّن من اداء الهوسات وبتحّد كبير للقول:
أهنا يوم القيامة أوجّت النيران
وسبع تشهر علينه مجلجل الدخان
لولانه يفيصل هل العرش ما جان
شبّان أنطينـــه شتطينـــه
فأمتعض الملك قليلا , ثم أنتقلوا الى منطقة أخرىعلى ضفاف الفرات
فاستقبلهم أحدهم بهوسة مخاطبا الشيخ عبد الواحد ومتسائلا عن وجاهة
الملك :
يوحيّــد صـج لو مجبعينه
أي هل هذا صدقا ملك أم ألبستموه قبعة أو تاجا لتجعلوا منه ملكا وهو ليس
أهلا لذلك .. عندها أمتعض الملك أشد الأمتعاض وأجابه بقوة :
لا وحك الله صـــج
ثم قرّر العودة الى بغداد .
رابعا – ومن التأريخ القريب .. يقال حين عرض في مدينة السماوه فيلم (المسألة
الكبرى) الذي يتناول ثورة العشرين والذي أرادت به السلطة أنذاك أن تجعل
من قضية مقتل القائد الأنكليزي (لجمن) على يد الشيخ ضاري أو أحد
أبناءه الحدث الأهم في الثورة وهمشـّت عن قصد دور عشائر الجنوب الذين
هم أبطالها الحقيقيون .. وقف أحد المتفرجين بعد أنتهاء الفلم وأرتجل
هوسته :
لون شعلان يدري نباكت الثوره
جا فج التراب وطلع من كبره
أهي من الرميثه المسأله الكبرى
الشاهد لسه الشاهد يكدر يحجي عللعشرين
خامسا- ولمزيد من الأمثلة أذكر بعض الهوسات التي قيلت أثناء ثورة العشرين
لتلقي ضوءا أضافيا على طبيعة وتركيب الهوسه والمعنى السحري لمفهوم
الحسجة :
1- (لا تتدهده بحلك آفه) – يخاطب بها الاستعمار الانكليزي .
2- (بس لا يتعّـذر موش آنه) – قيلت لرص موقف الأسيرودفعه لعدم تنصله من
فعله المقاتل الشريف .
3- (خـّلوني بحلكه وكلت آنه) – قيلت بمثابة رد الأسير .
4- (شلون تدحلب وأنته آفه) – قيلت للذي يتحدّب ويولي هاربا خشية أن تصيبه
شظية وهو المعروف بشجاعته .
5- (كل جابت خابت بس آنه) – قالتها أم الشيخ عبد الواحد وهي تفخر بأبنها .
6- (حل فرض الخامس كوموله) – قيلت للذين تنادوا لتحرير الشيخ ابو الجون .
7- (يبني الحر ممشاك براضه ) – قيلت للذي يريد أن يسرع خشية أن يقع أسيرا
8- ( مشكول الذمه عللفاله) - قيلت للأنكليزي الذي أصابته الفاله وهو في القطار
ولا زالت ال (هوسة ) الى اليوم هي الفن الغالب الذي يلقى في المناسبات وقد أمتد تأثيرها ليشمل العاصمة بغداد ثم يصل الى شمالها وغربها , والهوسة أخذت حيّـزا
مهما من مساحة الخطاب الثوري ابان عهود القهر والأستبداد , وكان فعلها فعل السحر في شحذ همم وأثارة نخوة المقاتلين من جانب كما لعبت دورا مؤثرا في دفع
المناضلين الذين يواجهون أقسى أنواع التعذيب للصمود والتحمل من جانب آخر .
وأخيرا ستظل ال ( هوسة ) رغم تجاهل فعلها وتأثيرها من قبل المهتمين والدارسين , تأخذ مساحتها من أهتمام ثلثي سكان العراق . |