قال عبيد: تزوجت ولم أبلغ العشرين من عمري من ابنة عمي وهي تصغرني سنا وكانت لي ثروة صغيرة من الإبل والأنعام سترني الله بها من العوز وسؤال الناس جائتني عن طريق الإرث. ثم زاد الله عز وجل نعمته علي فاستأجرت عليها راعيا يسمونه الأقيرع وجدناه رضيعا لقيطا فربيناه عندنا وألحقناه بنا. وكنت بين الحين والآخر أذهب بما زاد من نتاجها فأبيعه في القرية وأعود بعد يومين أو ثلاث بما نحتاجه وكانت خيمتنا غير بعيدة عن عرب الشيخ سعد الله. وعدت ذات يوم من القرية وكان قد مر على زواجي ما يقرب من العام فلم أجد خيمتي ولا زوجتي سوى كلب لي ربيته صغيرا من نسل الذئاب مقعيا بمكان الخيمة وكأنه ينتظرني فما أن رآني حتى راح يتلوى بين قدمي ويهز ذنبه وينبح نباحا مرعبا مرحبا بقدومي. جن جنوني فرحت أسأل عن ابنة عمي فأخبروني بأنهم رأوها تمضي مع الأقيرع وانهما اتجها إلى الشمال منذ يومين أو أكثر فاتخذت طريقي اليهما ومعي كلبي ورحت أسأل وأفتش عنهما حتى لاحوا لي بعد ثلاثة أيام. وقد وقفت الخائنة غير بعيدة عني وراحت تهددني وتقول : عد إلى عربك واتركني فأنا لا أريدك ولا أحتمل العيش معك وأن تطلقني فورا. وراحت تسبني وتلعن الزمن الذي جمعني وإياها. والأقيرع يقف مبتسما ينظر الينا بتشف. فقلت لها: ولم كل هذا الغضب وأنا لم أسئ اليك في شيئ يوما ما كما وانك ابنة عمي من دمي ولحمي وان ما فعلتيه لا يقره الدين ولا الشرع ولا عرف العشيرة وكل هذا بسبب راع أقرع لا يستحق قلامة من أظافرك. جنت المرأة بعد أن سمعت كلامي وراحت تصرخ وهي تشتم وتلعن فثار الدم في عروقي وهجمت على الأقيرع الذي كان ماردا ضخما قوي البنية فطرحني أرضا وسحب خنجره وقد لمع نصله وهو يستله ليطعنني به. فلم أشعر إلا والكلب يهجم عليه وينبت أنيابه الرهيبة في رقبة الأقيرع وهو يمزق حنجرته والدماء تسيل من فم الحيوان الأعجم ولم يتركه إلا وهو جثة هامدة. وجلست أفكر لقد ربيت الأقيرع يتيما بيننا لقيطا لم يعرف له أم ولا أب فأشفقت عليه وجعلته راعيا عندي وأمنته على مالي وحلالي فلم يرع الحرمة بعدما أقسم لي على الوفاء بل نكث العهد وكذلك فعلت ابنة عمي وهي تقسم لي عندما تزوجتها على الحب والوفاء ورعاية العهد فنكثت بقسمها ولم تف بالوعد وخانتني مع اول فرصة سنحت لها بعد أن سلمتها شرفي ومالي ثم أدخلت الكلب بيتي ولم أراعيه كما راعيت الخائنين ولم يقسم على الوفاء كما فعلا ولكنه أدى الأمانة فقد كنت ميتا والخنجر مسلطا علي لو لم ينقذني الكلب الأعجم الذي أدرك معنى الوفاء بطبعه. أرجعت المرأة إلى أهلها ولم أفكر بالإساءة لها ولكني طلقتها ولا أدري ما فعلوا بها فلم تعد تربطني بها رابطة واتخذت طريقي إلى أوحش أرض في قلب الصحراء مع كلبي وحيواناتي وقد شغلتني هذه الحادثة عن حب النساء. وقررت أن أعتزل الناس فهم أساس كل شر وبلية فاتخذت من هضبة الخضراوية قرب صخرة الملائكة مقاما لي وعشت قربها وحيدا مبتعدا عن الآدمي مقتربا من الوحش فلم يسئ لي وحش من الوحوش طوال المدة التي أقمتها منفردا في هذا الجزء الموحش من الصحراء، حتى جاءني كلبي ذات يوم وراح يهر أمامي بنبح ويهز بذنبه وكأنه يقول لي بأن هناك شيئا ما قد أهمه وهو يسحبني من ثوبي فذهبت معه وهناك على بعد أكثر من فرسخ شاهدت عند أسفل صخرة الملائكة شخصا ممدا في حفرة حسبته ميتا أول الأمر مرتديا لباسا أشبه بمسوح الرهبان. فأردت أن أتركه في مكانه وأهرب منه ولكنه فتح عينيه ونظر إلي نظرة لا أستطيع نسيانها وقال لي بصوت خافت وهو بين الموت والحياة يئن من العطش والإعياء: - لا تتركني بحق إلاهك الذي جاء بك إلا أنقذتني وسأجزيك وراح الكلب يهز ذنبه له ويلعق يديه وكأنه يعرفه بأنه هو الذي أنقذه فقلت في نفسي: - لأجل الله الذي أنقذني من الموت ورماني في هذه البرية فلأجعلن إنقاذي لهذا الرجل صدقة لوجهه الكريم ولأنقذ الرجل ما دامت حياته قد أصبحت بيدي وتغلب علي حب الخير ودمعت عيناي رحمة به. فنقلته إلى خيمتي ورحت أعتني به فسقيته وأطعمته وسهرت عليه حتى استعاد صحته وعادت عافيته فكنت أتركه في خيمتي وأسرح مع إبلي وربما عدت له بعد يوم أو يومين. ولم أكن طوال هذه المدة أتحدث اليه أو أسأله عن حاله أو قصته وما الذي أتى به إلي. كان أثناء مرضه يهذي عن زوار سيأتون وإنه ينتظر زوارا سيذهب معهم. وكان يرطن بأسماء لا أدركها ويذكر أمورا لم أفهمها ولكنه في كل سكنة من سكناته وكل حركة من حركاته يدلل على الاعتراف بالجميل والشكر والامتنان لي. وكنت لا أزال أعيش في عذابي فأستيقظ كالمجنون من نومي فزعا من كوابيس تعذبني وأنا أرى المرأة الخائنة والأقيرع وهم يمزقونني أربا أربا يرمونها لكلبي الذي أصحو على صوته وهو يبكي ويهر عند قدمي. وفي مرات عديدة كان الراهب هو الذي يوقظني من كوابيسي وذات يوم سألني بلطف قائلا وكأنه يهم بالرحيل. - ألا تسألني من أنا. ولماذا جئت إلى هنا وقد مر علي شهران وأنا معك لم تكلمني خلالها إلا كلمات معدودة فهل وجودي معك يثقل عليك. قلت وكأني نسيت الكلام: أنطق خيرا أو أمض بسلام أو أصمت. قال اراهب وهو ينظر لي كأنه يحس بما أعانيه. - أرى أنك جريح القلب مكسور الفؤاد والنفس. ودواءك عندي أن سمحت لي وفتحت لي قلبك. وستشفى بإذن الله مما أنت فيه ألم تسمع بقول قس بن ساعد الأيادي وهو يخاطب الناس " أيها الناس اسمعوا وعوا. البعرة تدل على البعير. وأثر الأقدام يدل على المسير. فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج كيف لا تدل على اللطيف الخبير ". قلت : أنك أنيسي في هذه الصحراء الموحشة ولعل الله عز وجل جعل معرفتنا هذه فاتحة خير وبركة علينا جميعا فأجاب بهدوء. سترى مني ما يسرك ولكن حدثني عن قصتك فربما كنت ذا نفع لك إن شاء الله. قصصت عليه قصتي وكيف ان الراعي الأقيرع ولا يعرف له أصل عطفت عليه وقربته مني فما كان منه إلا أن خدع زوجتي وغرر بها وسرق أموالي وكاد يقتلني لولا كلبي الذي أنقذني منه أما المرأة فكانت ابنة عمي وأقرب الناس لي عاشرتها بالمعروف ولم أدخر وسعا في سبيل إسعادها ولكنها فضلت علي أشر خلق الله فتركتها لأهلها ولا أدري ما أخبارها. قال الراهب: دواءك في السفر وسقامك في المقام وأنشد: ما في المقام لذي عقل ولا أدبمن راحـة فـدع الأوطـان واغتـرب سـافر تجد عوضا عمن تفارقهوانصب فأن لذيد العيش في النصب فاذهب إلى زيارة بيت الله وأبعد عن هذه الديار فترة من الزمن. وأنا سأسافر قريبا من هنا وربما عدت اليك بعدها وأخذتك معي - أن استطعت - من مكانك هذا فجميلك طوق ، عنقي. ولكني لا أدري متى سأسافر ولا متى سأعود وصمت. لم أجب الرجل بشيء بل خرجت من الخيمة ورحت أنظر إلى الخلاء حيث وجدته فوق هضبة الخضراوية الجرداء عند صخرة الملائكة الموحشة التي يهرب الوحش من صخورها المتفحمة. فهي صخرة سوداء تحيط بها رمال محترقة كالرماد جرداء قاحلة لم ينبت عليها النبات أبدا يخافها الرعاة والحيوانات فلم يقترب منها أحد إلا وأصابه شرها كما يعتقدون. فحاكوا حولها الأساطير المفزعة وهو الأمر الذي دعاني إلى اختيار المكان قربها بعد النكبة التي أصابتني متجنبا كل ما يذكرني بالإنسان وغدره. تبعني الراهب وهو يضع يدا حانية على كتفي وقال بصوت لطيف سأقص عليك حكايتي فلا تعجل علي ولتنظر إلي بعين الصديق. قلت متسائلا : فما الذي أتى بك إلى هذا المكان الموحش الذي يهرب منه الوحش والطير والإنسان. قال: هو موعد ضربة لي زوار سيأتون من مكان قصي وأنا بانتظارهم من زمن بعيد وقد حان وقت لقائي بهم وبات وشيكا. قلت: وقد أخذني العجب مما يقول: - ولكنه مكان غير مطروق ولا آمن ولا تقترب منه القوافل بل ويهرب منه الإنسان والحيوان. قال: ذلك هو سري الذي لا أبوح به لأحد سواك. وقد قرب موعد لقائي بهم وإن كنت لا أدري متى سيتم هذا اللقاء على وجه اليقين. زادني كلامه حيرة وعجبا فما يقوله هذا الراهب أعجب العجب عن هذا المكان الغريب. قلت: أزوارك من الإنس أم من الجن. سألته بين مصدق ومكذب. قال بعد تردد قصير: لا تستغرب مما أقول ولكني أقسم لك أنها الحقيقة فلا تكذبني أبدا بل أنهم زوار من السماء ( وأشار بيده إلى الأعلى ) وأنا منتظر أن أذهب معهم. قلت : وهل هم الذين يقبضون أرواح الموتى قلتها بخوف. فأجاب ضاحكا : كلا فليس لهم علاقة بالموت ولا بأرواح الموتى بل هم رجال من الفضاء. قلت : ظننتهم ملائكة الموت. قال : فلنسميهم ماديون وليسوا ملائكة روحانيون وهم يركبون آلات اسطوانية طائرة تتحرك في الهواء بأي اتجاه تشاء بقوة النيران. انهم أناس يجيئون من السماء وربما أخذوا معهم أناسا من الأرض يعرفونهم فيذهبوا بهم إلى السماء. وهم يعاقبون الأشرار من البشر ، بأمر الله كما عوقب قوم لوط وعاد مثلا وكما جاء تفسيره في القرآن الكريم والتوراة من وصف لما حدث لمدينتي سادوم وعاموره من دمار. وهذه الآلات الطائرة أشبه بطبق يطير بحجم الحصان أو أكبر ينقل الناس والأشياء إلى سفينة كبيرة تطير بعيدا عن الأرض وهي تقطع المسافات الهائلة بين أرضنا ونجوم السماء الأخرى والتي تبعد عنا ملايين الفراسخ. قلت: أني أسمع عن كوكب الشعرى اليماني وأراه يلمع في السماء ونجم الزهرة والسنبلة والمريخ وما يقوله العرافون والمنجمون عن السماء. قال الراهب: فاعلم بأن السفر في هذه السفن يتم بأسرع من لمح البصر بل وأسرع من عفريت النبي سليمان ( ع ) الذي جلب عرش بلقيس الذي ورد ذكره في الكتب المقدسة. قلت : والله أني لا أعرف فأنا رجل بدوي وما سمعته منك سوف لا يبقي علي عقلي فأبق عليه ، يرحمك الله فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان وقد جعلتني مصيبتي والوحدة هنا أشبه بالمجنون. قال: بل صدقني وسترى إن شاء الله كل شيء بعينيك وتتأكد من صدقي. قلت : لعلهم يؤذونني فهم لا يعرفون عني شيئا. قال : كلا بل يعاقبون من يستحق العقاب بإذن الله فهم يعلمون الناس كيف يترقون بحياتهم حتى تصير الحياة على الأرض أكثر يسرا وسهولة وحضارة. فقلت له : أنا رجل بدوي لا أعرف من حياتي سوى حيواناتي ، ومعيشتي كلها معتمدة على نتاجها وما زاد بعته في السوق واشتريت بثمنه ما أحتاجه. اما الآن فلا أحتاج أي شيء. فمن صوفها وجلودها ملابسي وخيمتي ولولا النكبة التي أصابني بها الأقيرع لكنت أسعد الناس فلا شأن لي بزوارك ولكني أكرمكم فإكرام الضيف واجب أن أقبلوا علينا. ضحك الراهب كثيرا من قولي هذا. وقال نعم الأخلاق أخلاقك وسأرد بعض جميلك فأعلمك شيئا مما أعرف من أمور الدنيا والباقي عليك. فأجبت : إن غدا لناظره قريب ( قلتها وأنا بين الشك واليقين ). سكت عبيد قليلا وغص في كلامه وكأنما أخذته رعدة ثم استأنف يقول:ومنذ ذلك الحين علمني الراهب القراءة والكتابة وفتح عيني على أمور لا أعرفها ولا أدرك كنهها عن الناس والأشياء في السماء والأرض والحياة والموت والمعرفة والجهل. كان يعرف القرآن الكريم والتوراة والأنجيل وكتب الأقدمين مطلعا على علوم الأولين والآخرين فحدثني عن الطوقان العظيم الذي أغرق الأرض أيام النبي نوح ( ع ) وعن الأمم التي أبادها الله بذنوبها وقص علي فصصا ما سمعتها من أحد قبله ولم يتحدث بها إلى أحد بعده. كانت لديه أشياء كثيرة عن الدنيا يتحدث بها وبتفصيل دقيق أما شكله فلم يكن يشبه أحد طويل القامة أشقر الشعر ، أزرق العينين ، يختلف لون أحداهما عن الأخرى للفاحص المدقق ، معتدل الأنف ، جميل الشكل لست أدري لماذا يتبادر إلى ذهني بأنه أحد سكان جزيرة اطلانتس العظيمة التي غرقت في بحر الظلمات قبل آلاف كثيرة من السنين - وسبق ان حدثني هو عنها – ولما سألته في إحدى المرات أن كان منهم ضحك من قولي طويلا وقال بأنهم بادوا من زمن بعيد. قص علي عبيد ذلك واحمر وجهه من شدة التأثر وهو يريني قطعة صغيرة من الذهب تبرق كالزجاج بعد أن جعلني أقسم بأغلظ الأيمان أن اكتم سرها وقال انها ذهب نقي خالص لا يوجد له مثيل على سطح الأرض تركها لي الراهب قبل أن يمضي كتذكار. قال عبيد ذلك وترقرقت الدموع في عينيه فقد كنت أشعر بأن هذا الرجل البدوي كان صادقا في كل كلمة قالها. فسألته : وكم أمضى معك من الوقت وكيف غادرك ؟ فأجاب عبيد : بعد تسع سنين من الانتظار فقد كان يذهب إلى صخرة الملائكة ويقضي الأيام الثلاث التي يكمل فيها البدر والتي نسميها الأيام البيض ويبقى منتظرا عندها. إلى أن كانت ذات ليلة استيقظت من النوم على صوت الكلب وهو ينبح نباحا غريبا فخرجت من الخيمة وكنت أعلم أن الراهب عند الصخرة ولكني كنت أتوقع عودته مثل كل مرة فقد كنت وفي أحيان كثيرة أجلس معه ونحن ننتظر أما هذه الليلة فلا أدري ما أصابني فقد ، كنت متعبا واستغرقت في النوم وعندما نظرت إلى الصخرة حيث يجلس الراهب رأيت عندها كتلة من اللهب راحت تبتعد بسرعة خارقة وفي لحظة وجيزة غابت عن النظر وأصبحت نجمة لامعة فقدتها بين نجوم السماء. وعند مكانه في الخيمة وجدت قطعة الذهب هذه وكان قد أراني إياها في مرة سابقة وقال لي أنه سيعود في يوم ما ليأخذني معه إذا انتظرته عند هذه الهضبة فهم يذهبون كل أربع سنوات ونصف إلى كوكبهم الذي هو أرضهم التي تشابه الجنة. وربما أرسلوا خلال هذه السنوات آخرين منهم إلى بقاع أخرى من الأرض غير صخرتنا هذه وسعيد الحظ من واتته الفرصة بالذهاب معهم. وانتظرت بعد سفر الراهب عشر سنوات ثم عدت إلى أهلي بعد أن مرضت وكان الشيخ سعد الله يسأل عني دائما فنحن أصدقاء الطفولة وما أن رآني حتى أمسك بي واستحلفني أن لا أترك العشيرة وان أبقى معه وكان العمر قد تقدم بي وهدني المرض والوحدة فقد جاوزت الأربعين آنذاك ولم يعد لي أمل كبير في السفر وقصصت على الشيخ قصتي بحذافيرها واشترطت عليه أن أذهب إلى صخرة الملائكة أن بقيت معه كلما شئت ولم يعرف بهذا السر إلا الشيخ سعد الله وأنت والله شاهد على ما اقول. قلت لعبيد مطمئنا أن ما اخبرتني به سيبقى سرا بيننا وقد شوقني حديثك عن الراهب فهل يمكن ان تقص علي المزيد من أخباره واطرف ما سمعته منه ؟ قال عبيد وقد سره كلامي : على ارحب والسعة وسأروى لك ما تحب من أخباره فقد حدثني الراهب بان الأرض قبل أزمان بعيدة موغلة في القدم ولم يكن سطحها كما نعرفه الآن فقد كان الجليد يغطي معظمها ويصل إلى قرب البلاد المطلة على بحر الروم من الشمال وبلاد الزنج والسودان من الجنوب ، وكانت قطعة الأرض المحصورة بين هاتين المنطقتين ومنها صحرائنا هذه وصحراء نجد والحجاز والربع الخالي وصحراء العرب الشمالية والبوادي الأخرى التي تعرفها الآن أرضا مشجرة تتخللها الأنهار والمياه والغابات الوارفة وكانت تسكنها حيوانات عملاقة حجم الحيوان الواحد يصل إلى عشرة جمال وطيور ضخمة تطير بين أغصانها كالأفيال الطائرة وشاءت إرادة الخالق أن يرى راية في أرضنا هذه فأمالها وهي تجري إلى مستقرها ميلانا قليلا عن درب سيرها ، فتغير مسارها واقتربت من الشمس وذاب جليدها وانزاح من اماكنه وصعد إلى الشمال وكان فيضانا تفجرت الأرض منه ينابيعا ومياها وحل محل الجليد سهول معشبه وجنان خضراء وغابات ظليلة وظهرت على الأرض فصولها الأربع التي نعرفها الصيف والشتاء والخريف والربيع. أما الجنائن القديمة فتحولت إلى صحارى قاحلة ومنها صحرائنا هذه ولكن الذي حدث لزوار السماء الذين يزورون الأرض أن تغير دربهم الذي كانوا يأتون ويذهبون منه إلى السماء فقبل ذوبان الجليد كان دربهم فوق أرض بابل في الصعود والنزول فاللسماء دروب كدروب الصحراء لا يصل السائر فيها إلى هدفه الا عن طريقها ولهذا فمعنى كلمة بابل أو باب – أيل تعني باب – الله فكلمة أيل باللغات القديمة تعني الله سبحانه وتعالى. أما بعد الفيضان فقد أصبح دربهم من فوق بيت المقدس فلا يتم الصعود إلى السماء الا عن هذا الدرب ، سواء كانت آلات طائرة أو أطباقا أو بساطا سحريا ثم يعرج من هناك إلى سفينة فضائية هائلة تأخذهم إلى كواكب السماء بسرع خيالية أسرع من ضوء البرق ، قلت لعبيد مقاطعا : لا تؤاخذني على ما أقول ولكن ما سمعته أغرب من الخيال قال عبيد فالتسمع مني ما هو الأطرف عن الكتب القديمة. فقد حدثني الراهب عن الكتب القديمة وذكر لي اسم سفر أخنوخ وذكر أسماء الزوار الذين جاءوا من السماء إلى الأرض ليعلموا الناس صناعة الحديد والمعادن وان اثنين منهم قد أخذا أخنوخ معهم إلى السماء في رحلة استغرقت شهرين ثم أعيد إلى الأرض ومعه بعض الكتب ولكنه رجع ثانية إلى السماء وبقى فيها وقال الراهب : - ان رجالا من هؤلاء الزوار قد تزوجوا بنساء من الأرض وان أبناء السماء هؤلاء قد أنجبوا من نساء الأرض ذرية غريبة الأشكال والأحجام مثل رجال عمالقة لهم أجسام الخيول وآخرين يشبهون الثيران المجنحة كما في نينوى أو كأبي الهول قرب أهرام الجيزة في مصر. وان قصة غرام قد حدثت بين أحد هؤلاء الزوار وفتاة من الأرض رفضت أن تتزوجه لأنه لم يعجبها أو يؤثر في عواطفها فراح العاشق يهدد بإحراق العالم وركب سفينته وراح يحوم في السماء حول مدينة الفتاة ويطلق النار ويثير الغبار لعلها ترضى ولكن الفتاة أصرت على الرفض وجلست مرفوعة الرأس شامخة الأنف والحبيب الولهان يطير في السماء والناس خائفون وهم يركعون ويتوسلون اليها ولكن الفتاة أصرت على رفضها وقد رسمت هذه القصة على كهف بصحراء مصر الغربية. حدثني أحاديث غريبة عن زوار وردت أسماءهم في الكتب المقدسة منهم هاروت وماروت وقال أنهم ملكان من إحدى مجرات السماء ممن ينقلون العلوم إلى حضارة أور. ومدينة أور هذه هي مدينة سيدنا ابراهيم الخليل ( ) أبو الأنبياء وقد عوقبوا بسبب فسقهم مع إحدى نساء الأرض فهؤلاء الزوار كما أخبرني ليسوا ملائكة روحانيين وانما هم أناس كونيون ماديون وكان واجبهم نقل العلوم المادية إلى الأرض كطريقة التعامل التجاري بالنقود واستخراج الذهب وتعليم سكان الأرض القراءة والكتابة ومبادئ الحساب والفلك وقد حدثت قصتهم قبل أكثر من ستة آلاف سنة أي قبل حكم الملوك السومريون الذين حكموا دويلات أور حيث كان البحر يصل عندها وكانت مركباتهم هذه تهبط في البحر ثم يتم الاتصال بالانسان لتعليمه المبادئ الأولية للعلوم فمن تلك العلوم وصل الانسان إلى ما هو عليه الآن. وعندما نزل هاروت وماروت ، في هذه المنطقة لم يتمكنا من العودة لسبب غامض ربما يكون خرقا لقوانين السلطة المسؤولة عن إرسالهم. وإن كانت هناك أسطورة تقول أنهم أحبوا إحدى نساء الأرض – وقد تكررت مثل هذه الأسطورة في الأرض كثيرا – وإن هذه المرأة خيرتهم بين نفسها أو قتل زوجها أو شرب الخمر فاختاروا شرب الخمر لأنه الأقل ضررا فلما سكروا فسقوا مع المرأة وقتلوا زوجها فحق عليهم العذاب مضاعفا فكانوا يدلون بين السماء والأرض إلى مسرح جريمتهم ليتعذبوا وأنهم لا يموتون مثلنا بل يضعون حدا لحياتهم بأنفسهم. وقال بأن أحد الأعراب قد رآهم متدلين من شعر رأسهم بين السماء والأرض أيام الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان وتحدث اليهم وأنهم سألوه هل حدث شيء خطير في الأرض فقال لهم الأعرابي بأنه قد بعث نبي اسمه محمد ( ) وأنه دعا إلى دين التوحيد فأخبروه بأن عذابهم سوف ينتهي قريبا. وكان من هولاء الزوار من له علاقة بكل الاحداث الغابرة التي حدثت للاقوام البائدة كقوم لوط وأرم وعاد وصالح وثمود ومن لاتعرفهم وهم الاكثر. ثم حدثني الراهب عن الارض فقال عنها بأنها كوكب في مجموعة عظيمة من الكواكب أسمها المجرة ويطلقون عليها أسم درب التبانة وهي متوسطة العمر أو قديمة نسبيا بالنسبة لعمر الكون. فكوكب الارض مجرد كوكب مهمل في طرف هذه المجرة ليس فيه ما يميزه عن ملايين الكواكب الاخرى سوى حياة بدائية ويسكنه أنسان يتميز بالقسوة والشراسة وحب السيطرة والعدوان والغرور والتعالي وسفك الدماء وأن هذه الارض وما فيها لايعدوان جناح بعوضة بالنسبة لمجرتها وأن مجرتها لا تعدو أن تكون جناح بعوضة بالنسبة للكون وأن انسان هذه الأرض سوف يقوم بتدمير أرضه ونفسه عندما يتمكن من السيطرة على النيران الباهرة التي يسعى للحصول عليها من ذرات المادة ليتقاتل بها مع أبناء جنسه. فهذا الانسان سيصل في يوم من الأيام إلى مراحل من العلم يستطيع بها أن ينقل الحوادث والأخبار إلى مختلف بقاع الأرض بالصوت والصورة ويجعل من أرضه صغيرة جدا بواسطة آلات طائرة تنقله بين مختلف بقاعها بالهواء أو على سطح البحر أو بآلات تحت سطح الماء ولكنه سوف يقضي على نفسه بمجرد أن يحصل على النار الباهرة التي ستقضي عليه وعلى أبناء جنسه حيث ينتهي إلى غير رجعة وان هؤلاء الزوار يحذرونه دائما من هذه النار ومن القضاء على نفسه ويقولوا لنا أحبوا بعضكم بعضا واعملوا على أن تعيشوا بسلام ومحبة وإلا فستقضون على أنفسكم بأنفسكم وسوف لن يبقى على سطح هذه الأرض الا الخنازير وبعض الطيور فعلى الانسان أن لا ينسى بأن جميع الناس اخوة وان الحب والتفاهم والسلام هو الطريق الأمثل للسعادة وللعيش بحياة حرة كريمة نادت بها الأديان السماوية رحمة بسكان هذا الكوكب وبكل لغات الأرض ليبعدوا الانسان عن أسلحة الدمار والحرب والشرور ما تجره عليه من كوارث. فهم يحذرون الانسان من شروره ولهم علاقة بكل ما جاء به الأنبياء والقديسين والمصلحين والأولياء الذين أرسلوا بأمر من الله عز وجل لغرض خير الانسان وتيسير أمر معيشته بسلام ومحبة على سطح هذا الكوكب المرمي في طرف الكون. ولا بد أن يكون آدم عليه السلام قد أنزله الله سبحانه وتعالى من كوكب آخر على سطح الأرض فكانت بذلك بداية الهجرات إلى الأرض ولا بد أن تكون هذه الهجرات قد تمت في سفن فضائية. وكان هذا آخر ما تحدث فيه الراهب عند صخرة الملائكة معي ونحن ننتظر الزوار قبل أن أرجع إلى الخيمة وينطلق هو معهم. سكت عبيد قليلا وبان عليه التأثر واضحا وهو يأخذ يدي بين يديه ويضع قطعة الذهب الوهاج الغريب فيها وهو يقول: - لم يبق لي من العمر الا قليل فأنا أحس باقتراب أجلي وقرب نهايتي وما أسعدها من لحظة عند رب غفور رحيم والبركة فيك فلعل الله عز وجل يجعل على يديك ما عجزت أنا عنه وتلتقي أنت بمن انتظرتهم أنا طويلا ولتبق هذه معك تذكرك بي ودليلا تقدمه اليهم أن التقيت بهم. ولكني رفضت هديته الثمينة هذه فقد كانت أثمن من أن أقبلها وهي محور حياته. **** **** *** *** **** أما عبد الله فهو الاسم الحقيقي ( لعبد ) وان غلب عليه هذا الاسم حتى اشتهر به وهو صورة مناقضة لعبيد. فهو طويل القامة ، قوي البنية ، ضاحك السن ، مرحا شاعرا ، ظريفا ومحدثا ، لبقا تهذبت طباعه من كثرة تردده على المدينة. يطرب له السامع إذا غنى ولكنه كان يأنف من الغناء أمام من لا يعرفهم وربما غنى بين المعارف والأصدقاء بعد أن يطلب منه الشيخ سعد الله وهو يقول له متغاضبا ليحثه على الغناء. - لست بأفضل من الملوك أو الأمراء الذين يجيدون الغناء فيسره ذلك ويأخذ بالعزف على ربابته ويبدأ الغناء. وهو إلى ذلك عارفا بأنساب العرب وتواريخهم ونوادرهم وأشعارهم مزواجا مطلاقا وزير نساء خفيف الظل له مواقف في الشجاعة والشهامة جعلته قريبا من قلب الشيخ. فصار هو وعبيد مرافقيه ومساعديه ومستشاريه أحيانا. وأن امتاز بميزة الترفيه عن الشيخ عند تأزم الأمور بنوادره وظرفه والاثنان مضرب المثل في إخلاصهم له. أما احتفالات العشيرة وأعراسها التي لا يحضرها الشيخ فلا يمكن اعتبارها أعراسا مميزة فبالاضافة لكون حضوره تشريفا لأهل العرس فقد كانت ضحكات عبيد ونوادره وربما غناءه ، أيضا – رغم ندرته – يجعل من حضورهم فرحا آخر يضاف لذلك العرس ، وقصة علاقته بالشيخ سعد الله تعود إلى الأيام التي كان فيها الشيخ يدرس العلم في بغداد وعبد الله يقوم بحلقة الوصل بينه وبين أهله في البادية. وهو يكثر من مديح الحكيم عبد الوهاب أغا الجراح ويعتبر شفاءه على يديه من جرح إصابة به أحد اللصوص عندما حاول سرقة أحد خيوله معجزة من المعجزات فقد كان عبد الله من عائلة توارثت نقل الخيول إلى بغداد ومصر والشام من خيول أمراء آل ربيعة التي كانوا يتقربون بها إلى الملوك والسلاطين بإهداءهم عقائل الخيل التي دأب هؤلاء على طلبها منهم وكان جد عبد الله الكبير مختصا بنقل خيول الأمير عيسى ابن مهنا وابنه مهنا إلى السلطان الناصر قلاوون سلطان مصر المملوكي الذي كان شغوفا بها. وكان يردد أمامي دائما أن من بين أحد أسباب السعادة والوجاهة التي كانت لأمراء آل ربيعة وآل فضل عند الملك الناصر محمد بن قلاوون الذين أخلف إياه على السلطنة أنه كان يشتري الخيول من عرب آل مهنا وآل فضل ويبالغ في إكرامهم حتى تمكنوا في أيامه من الرتب العلية بعد أن أهدوه كرائم الخيل العربية الأصيلة. قال عبد الله : "كان السلطان يرسل إلى مهنا وأولاده أن يحضروا بخيول السبق التي عندهم للسباق. ثم يركب إلى ميدان السبق خارج القاهرة بين قلعة الجبل وقبة النصر. ويرسل الخيل وعددها ما ينيف على مئة وخمسين فرسا إلى أن بعث مهنا مع ولديه سليمان وموسى ومعهما فرس شهباء على أن سَبَقت كانت للسلطان وأن سُبِقَت ردت عليه وشرط أن لا يركبها ألا بدويها الذي قادها وكان ذلك البدوي هو جدي. فلما ركب السلطان والأمراء ووقفوا على العادة ومعهم أولاد ، مهنا بالميدان وأرسلت الخيل من البركة. كما جرت به العادة ركب جدي فرس مهنا الشهباء عارية بلا سرج وقد لبس قميصا ولا طية فوق رأسه وأقبلت الخيل تتبع بعضها بعضا وهي قدام الجميع. فلما وقف جدي بالشهباء بين يدي السلطان صاح بصوت ملأ الخافقين " السعادة لك يا مهنا لا شقيت " وألقى بنفسه إلى الأرض من شدة التعب ". ولا أنسى كم كان فخورا وهو يقصها علي. كان عبد الله يقص علي حكايات كثيرة تدل على ولعه بالأنساب وحوادث التاريخ وسير الشخصيات ورغم ما كان يقصه أموراً تفصيلية لم ترد إلا بإشارات عابرة في كتب التاريخ ولكنها كانت جزء من تراث أصيل تتناقله الشفاه وتعرفه القبيلة وخاصة فيما يتعلق بتاريخ إمارة آل الجراح وإمارة آل ربيعة الطائية التي خلفتها نابعا مما جرته حوادث التاريخ – التي يرويها – من ويلات على قبيلة طي وأحلافها رجالهم ونسائهم فما يقصه ليست سيرة لقبيلة تتنازع مع قبائل أخرى أو تتحالف مع قبائل أخرى بل هوامش وتعليقات عن حوادث فخمة دونها التاريخ وكتب سيرتها ولكن بإشارات عابرة. أو يقص أخبارا عن شخصيات بسيطة لم تنل حظها من الاهتمام أو السلطان ولكنها تحملت شيئا من أحداث هامة أو عرفت مجريات الأمور التي كانت وراء هذه الأحداث رغم أن التاريخ كان يتغاضى عنها فيما يكتبه وهو أمر مألوف فيه فإن لها نصيبها وصحتها من الواقع. وربما دأبت المبالغات على تضخيم أدوار هذه الشخصيات لتجبر السامع أن يوليها اهتماما أكبر مما تستحق ولكني كنت ألمس الحقيقة في ما كان يرويه عبد الله من سيرة هذه الشخصيات على ربابته بكل بساطة وحلاوة ويذكر الأبطال بكناهم وأسماءهم ويعرف أنسابهم وأبناءهم ، وأحفادهم ومنهم من كانوا يعرفونه ويعرفهم من أهل البادية وهو يقص أخبار ذويهم مثلما قص علي حكاية جده وهو يركب الشهباء ويفوز في سباق السلطان قلاوون : قص علي ذات مرة وهو يتحدث عن جده بأنه كان من المقربين للسلطان الظاهر بيبرس قبل أن يصبح سلطانا في فترة تشريده ببلاد الشام في نهاية أيام الأيوبيين عندما نزل على الأمير عيسى بن مهنا في عربه فبالغ هذا في إكرامه وقدم له أفضل خيله بينما رفض عمه علي بن حديثة امير العرب آنذاك أن يعطيه فرسا. وما أن تبوأ بيبرس حكم مصر بعد معركة ( عين جالوت ) حتى عزل علي بن حديثة وولى ابن أخيه عيسى ابن مهنا أمرة العرب وأرسل إلى جدي هدية ثمينة فقد قاتل جدي مع أمراء قبيلة طي عيسى اين مهنا وأحمد بن حجي تحت قيادة بيبرس في معركة عين جالوت وهو يقود مقدمة الجيش الإسلامي لرد المغول الذين جاءوا من بغداد بعد سقوطها للاستيلاء على مصر والشام واستطاع أن يخدع كتبوغا قائد ميسرة جيش هولاكو الذي استولى على بغداد وأسقط الخلافة العباسية قبل سنتين وهو يقود الآن الجيش المغولي الذي أنقض على بيبرس معتقدا بأنه يهاجم القوة الرئيسية لجيش المسلمين الذي كان بقيادة الأتابك سيف الدين قطز مختفيا بعناية في أحراش عين جالوت منتظرا اللحظة الحاسمة للهجوم. وما أن احتدم وطيس القتال بين مقدمة بيبرس التي صمدت بوجه المغول حتى فاجأهم قطز بجيشه فتمكنوا من الانتصار عليهم في هذه المعركة الفاصلة التي منعت زحف المغول إلى الشام ومصر ومنعت توسعهم خارج حدود العراق باتجاه الغرب. ولثقة الأمير عيسى بن مهنا بجدي الثقة الكبيرة فقد أرسله مع من يثق بهم لحماية الأمير أبي القاسم أحمد ابن الخليفة الظاهر بن الخليفة الناصر ابن الخليفة المستضيء بالله العباسي الذي نجا من القتل بعد أن قتل هولاكو الخليفة المستعصم وعائلته واختبأ عند جماعة من طي من عرب آل مهنا بن الفضل بن ربيعة وهو يريد دمشق ليلتحق بالملك الظاهر السلطان بيبرس بمصر فوردت مكاتبة من السلطان بذلك وأن يسير معه حرس خاص لحمايته من دمشق إلى مصر. وهناك شهد العربان وجدي معهم بأن الأمير أحمد هو ابن أمير المؤمنين الظاهر ابن الخليفة الناصر فقام السلطان وبايعه كخليفة باسم أمير المؤنين المستنصر بالله ودعا له على المنابر ثم تلقى منه خلعة السلطنة فعزز بذلك مركز المماليك في العالم الاسلامي وأظهرهم بمظهر الحماة للخلافة العباسية. ثم أراد الخليفة أن يسير إلى بغداد ليسترجعها من المغول وعزم السلطان أن يبعث مع الخليفة عشرة آلاف فارس حتى يستقر ببغداد ويكون أولاد صاحب الموصل بخدمته – وكانوا بزيارة له في مصر – فخلا أحدهم بالسلطان وأشار عليه أن لا يفعل وقال له " أن الخليفة إذا استقر أمره في بغداد نازعك وأخرجك من مصر " فرجع إليه الوسواس ولم يبعث مع الخليفة سوى ثلاثمائة فارس وركب السلطان لوداع الخليفة ومعه أولاد صاحب الموصل الثلاث الذين فارقوه أثناء الطريق ورجع كل منهم إلى مملكته فوصل الخليفة إلى الرحبة على الفرات من أطراف العراق فأتاه الأمير علي بن حديثة من آل فضل بن ربيعة – وكان لا يزال أمير العرب آنذاك – بأربعمائة فارس من العرب ورحل الخليفة من الرحبة إلى مشهد علي بجانب مقر إمارة آل ربيعة الحالي قرب عنه في العراق فوجد رجلا أدعى أنه من بني العباس وقد اجتمع إليه سبعمائة فارس فأنضم هذا الرجل ومن معه إلى الخليفة وفي الأنبار التقى جيش الخليفة بجيش التتار وكانت موقعة حاسمة لم ينج منهم سوى الأمير أبي العباس أحمد بن علي ابن أبي بكر ابن الخليفة المسترشد الذي قدم بعدها إلى مصر وتلقب بالخليفة الحاكم بالله ونجى معه الأمير ناصر الدين ابن مهنا من آل ربيعة وجدي ولم يعثر للخليفة على أثر ولم يفكر بيبرس بعدها باحتلال بغداد. أما أقوى مغامرات جدي رحمه الله فاشتراكه بمعركة حمص في عهد الناصر قلاوون عندما توجه منكوتيمور ابن هولاكو والأخ الأصغر لأبغا ابن هولاكو حاكم العراق إلى بلاد الروم عن طريق الشام. فشرع السلطان في عرض العساكر واستدعى الناس فحضر الأمير أحمد بن حجي من العراق يقود جماعة كبيرة من آل مري تتكون من زهاء أربعة آلاف فارس ولاقاهم المير عيسى ابن مهنا ( أمير العرب ) ومعه عربة في وقت المعركة واعترضوا التتار من خلفهم فتمت هزيمة التتار ولولا هذه القبيلة وقادتها أحمد بن حجي وعيسى ابن مهنا وثبات الملك قلاوون لانتصر التتار وكان عيسى ابن مهنا في هذه المعركة حاملا ريشة على رأسه فلقب ( أبو ريشة ) وامتد هذا اللقب إلى أحفاده. قال عبد الله : سوف أروي شيئا غريبا عن هذه المعركة رأيته بعيني وسوف أريك إياه يوما عندما تسنح الظروف. فسألته وما هو ذلك ؟ فأجاب عبد الله : - لا تعجل علي ودع ذلك في حينه. قلت في نفسي: لعل في الأمر ما له علاقة بجده فقد كان التاريخ مرتبطا به.
الفصل الخامس قرية أرض - ماء أو ( أرضمه )
طرحت السماء جانبا خصلات الليل السوداء وارتدت حلة ذهبية وأخذ ضوء الفجر يلون الأفق ويشع بين الأشياء وسرعان ما راحت الشمس ترسل شواظا من نار ونحاس على أديم الصحراء فيتوهج السراب منتظرا الليل ليجنح مع القمر عابرا السماء الممهدة مخلفا وراءه أمواجا من النجوم الرائعة المليئة بالحنان وكأن السراب قد انقلب بفعل السحر إلى حب يولد مع كل قمر جديد. ففي صحراء العرب الشمالية المؤلفة من بادية الشام وأطراف الجزيرة الفراتية وبادية العراق وفي قلب هذه البوادي الشديدة الغرور تقيم القبيلة صيفا وشتاء منتقلة بين أطرافها الشرقية عند مدن الفرات عانه وحديثه وكبيسه والجابرية وعين تمر وغيرها لتكون قريبة من الأنهار والجداول فتنتقل في أواخر الربيع وأوائل الصيف من مناطقها الشتوية في قلب الصحراء إلى الأطراف المزروعة من الريف شأنها شأن القبائل العربية الأخرى التي تعيش في هذه الصحراء الشاسعة يغزو بعضها بعضا وتمارس الرعي وتعشق الحرية وتعتبر خضوعها لأي سلطة أخرى غير شيخها نوعا من الذل والمهانة فمن خلاله فقط يتم تعاملها مع العالم الخارجي. فالقبائل تركيبات اجتماعية متماثلة بدقة وقد انسلخت بعضها عن البعض الآخر. وكلها تدين بنفس الأفكار والعقائد وتتبع نمطا واحدا في السياسة ونظام الحياة الاجتماعية وأساليب المعيشة الداخلية والخارجية ولها عين الأهداف وتتألف من نفس الهرمية الاجتماعية وهيكل الزعامة ومشيخة القبيلة، فالشيخ لا يتكبر على أبناء عشيرته ولا يتميز عنهم في لباس أو طعام أو سكن إلا نادرا. وهو يحرص أن يكون في خدمتهم دائما فينظر في قضاياهم ويحل مشكلاتهم ويسد عوزهم ولذا نجدهم يفتخرون به ويتعصبون له. وقد يغضبون إذا شتم شيخهم أمامهم أما إذا رفع الشيخ رايته وأطلق ( هوسة ) القتال التفوا حوله وقاتلوا معه من غير تردد أو اعتذار ولهذا كانت السلطات الحكومية تسترضي رؤساء القبائل بالهدايا والخلع والرتب وإسناد إمارة القبيلة إلى من يبدي استعدادا كاملا من بيت الرئاسة لمساعدة الحكومة وكان، هدف الحكومات من ذلك إضفاء صفة الشرعية للشيخ لممارسة مهامه، وقيادة عشيرته في الحرب والسلم وتلبية طلبات السلطة بتقديم الفرسان لإسناد قوات الجيش وتأمين الطرق التجارية وغير ذلك من الواجبات والمهام المطلوبة منه. وبالرغم من مرور عام ثان على وجودي في البادية وأنا أعيش فيها كشيخ من الشيوخ فقد تاقت نفسي للعودة إلى المدينة إلا ان الشيخ سعد الله نصحني بالتريث، فلا زالت أحوالها مضطربة رغم سيطرة داود باشا فانها تسير من سيئ إلى أسوأ. وكانوا قد جهزوا قافلة صغيرة إلى سوق قريتنا الذي بدأ موسمه لتكتال ما يحتاجون إليه وإغرائي بالذهاب معهم للتفرج وللتسلية والاطلاع على أحوال القرية وتنسم أخبارها وأخبار المدينة. وبعث معي مرافقيه ( عبد وعبيد ) على أن نعود إليهم بعد بضعة أيام. وصلنا إلى القرية بعد يومين ونزلنا في دارنا التي تم ترميمها وأعدت للسكن بعد أن أوكل الشيخ سعد الله بها شخصا يثق به للاعتناء بها أثناء غيابنا فأعاد تجديد ما تخرب منها وأكمل بناء سقيفة تشرف على القرية والمنطقة المحيطة بها وأثثها أثاثا جديدا بدلا من أثاثها القديم بعد تلك الليلة الليلاء التي هاجمنا فيها الملثمون بمقهى القرية ليلة المذبحة. كانت الدار تعود لجدتي وقد سكنت فيها فترة من الزمن أيام والدي. وحتى قبل أن يعود الشيخ سعد الله إلى البادية كان هو من يتفقد شؤونها ويعتني بأمر جدتي التي بقيت فيها. وكان بعض الأعراب يسمونها ( بيت الشيخ سعد الله الطائي ) معتقدين بأنها تعود إلى الشيخ سعد الله. أما أنا فلم يكن يعرفني إلا القليل من الناس. وبرغم القلق الذي يعصف بي فقد كان عزمي شديدا في التفتيش عن السبب الحقيقي وراء هذه المذبحة، وقد أهمني انقطاع الأخبار عني طوال الأشهر التي قضيتها مع القبيلة في مشاتيها في قلب الصحراء وها هو وقد حل الصيف الآن ونزلنا عند الفرات وأريافه. خرجت من الدار متفقدا القرية التي لا زالت على حالها متجولا في سوقها الذي يعج بالأعراب وهم يبيعون ويشترون متخذا طريقي إلى المقهى الذي لم يعد له وجود ولا لسوره الحجري بعد أن حوله أصحابه إلى خان لإيواء المسافرين. كان الألم يعصرني وأنا أتفرس في الوجوه بحثا عمن أعرفهم ليزودوني بأخبار الأصدقاء في المدينة وما هي إلا ساعة حتى طوق القرية والسوق فرسان من الانكشاريين يقودهم أغا القلعة الشاب الذي راح يبرهن على مقدرته ويثبت كفاءته أمام مرؤوسيه فجعل يضيق الخناق على الأهالي ويفرض الضرائب والإتاوات ويجبي الرسوم ويطالب بالغرامات والديون ويجمع الواردات ويوقع الحجز على الأموال والبضائع دون الالتفات إلى جواز حجزها أو عدمه متجاوزا على حقوق الجميع. إلى أن جاء دور أرملة عجوز تقوم بغزل الصوف فطالبها بدفع ضريبة عن مواشي لا تملكها فلم تفهم المقصود واعتذرت بضيق ذات اليد واسترحمته الصبر عليها ريثما يرزقها الله أو يساعدها الطيبون من أبناء العشيرة وأفهمته باستحالة الدفع، فلم يقبل لها عذرا وقام يهددها بالحجز فأفهمته بأنها لا تملك من الأثاث ما يمكن حجزه فتوعدها بالحبس فعادت تسترحمه وتستعطفه إلا ان قناته لم تلن فلما رأت منه عنف الإصرار وشدة الإعراض عن توسلاتها واسترحاماتها رفعت ثوبها عاليا استهزاء به وتهكما عليه وقالت تخاطبه ( تعال احبس … ) جن جنون الرجل بعدما ضج جميع من في السوق بالضحك عليه فما كان منه إلا أن تناول سوطه وراح يجلدها حتى خلصنها النسوة من يديه وهي تنوح وتبكي بحزن يفيض بالألم والتوجع وتندب حظها العاثر بصوت مليء بالتفجع على إذلال قبيلتها وعربها وعلى العزة والكرامة التي داستها الأقدام والحرية التي أصبحت نسياً منسياً والأفراح التي دالت دولتها منذ اليوم ولن تعود إلى آخر الزمان. كان النسوة يشاركنها في نواحها الحزين بالنحيب والعويل الصادرين من قلوبهن فعلا ويهتفن متفجعات معها ( أسفا عليك أيها الموت يا من طويت الشباب والرجال فصرنا بعدهم بلا من يعين ولا من يعيل إلا رحمة الرب الكريم. فأين ذهب كل أولئك الأحباب الفرسان ذوي الملاحة والشجاعة والكمال والذين يدخرون لمثل هذا اليوم ) فيرتفع بكاء جميع المحيطين بالعجوز من النساء والأولاد والشيوخ من ذوي القلوب الرقيقة وقد أخضلت عيون الجميع وهم يعددون أحبابهم من الأبناء والأحفاد والأخوان والآباء والأزواج ويتحسرون على فراق أولئك الأعزاء الذين طواهم الردى بلا عودة. كان أغا القلعة الانكشاري الشاب يلحظ العجوز ومن معها من النساء بنظرات، متطلعة وملامحه لا تنم عن شيء. وسأل أحد فرسانه بلغته التركية: - " ماذا تغني هذه المرأة العجوز ولماذا يبكي جميع السامعين " فأجابه الرجل ( انها تغني ذلك الضرب من الغناء الذي يحبه مولاي انها تبكي بلادها التي ماتت حريتها تحت أقدام الانكشاريين وترثي مجدها الغابر الذي ولى ولن يعود ). انبسطت أسارير أغا القلعة الانكشاري الشاب بفرح وقال كما سمعت من عبيد: - ( يا للسماء هذه هي الأغنية التي أطرب لسماعها فعلا فلينتحب العالم جميعه كيما أضحك أنا، وليحيا القتل والقتال. آه لو تعلمون سعادتي حين أضع قدمي على صدر عدوي وأسمعه يصرخ ويتوجع ويطلب الرحمة ولا أرحمه ). وانطلق الرجل يقهقه بصوت كالرعد والتفت فجأة إلى جماعته عابسا وكأنه لم يكن يضحك منذ لحظة وكأن الخمرة التي كان يعاقرها طوال الليل قد فقدت تأثيرها عليه. وقال بكل هدوء وجد: - ليبقى جباة جمع الخراج والضرائب فقط وليتبعني الباقون. ولكز جواد فطار به تداعب عرفه الرياح وانفلتت من خلفه جماعته تاركين المجموعة الباكية تغرق بأحزانها بالدموع والتفجع وما أن غابوا عن الأبصار حتى حدث ما لم يكن بالحسبان فقد تنادت عشيرة المرأة العجوز إلى أسلحتها وهجموا على من بقى من الانكشاريين في السوق فهرب هؤلاء بصورة مخزية وراح الأعراب يطاردونهم وقد ازداد عددهم بمن انضم إليهم من الناقمين، ثم عمدوا إلى الطرق التجارية فقطعوها وأخذوا يسلبون القوافل وينهبونها وما أن عاد أغا القلعة الانكشاري في اليوم التالي على رأس انكشاريته من القلعة لمهاجمة القرية وقبل أن يدخلها أوقع به الأعراب هزيمة منكرة بعد أن قتلوا أحد أعوانه وجرحوا عددا آخر. ولما رأى جموعهم المتزايدة، وقدر أن قوته الصغيرة لا تستطيع مقاومتهم هرب باتجاه الأنبار تاركا قتيله في أرض المعركة. طابت لي الحياة في القرية بعد هذه الأخبار التي سمعتها وأقنعت عبدا وعبيدا بالعودة إلى العشيرة وإبلاغ الشيخ سعد الله بما استجد من الأحداث فامتثلا لما طلبته منهما ولكني علمت فيما بعد بأن عبد هو الذي ذهب أما عبيد فقد بقى في القرية ساهرا عليّ وبعد أيام سمعنا بأن الوالي داود باشا قام بعزل أغا الانكشارية من منصبه وطرده شر طردة. وبقيت القلعة بانتظار رئيس جديد للحراس بدلا منه، بعد أن أوغر الوشاة والحساد قلبه عليه وأخذ داود باشا يسترضي الشيوخ والقبائل بالخلع والهدايا حتى تمكن خلال الشهر نفسه من إخماد الفتنة التي أوقدتها المرأة العجوز التي تعقدت حياتها وتحول مسار عيشها الساذج البسيط الذي كانت تحياه إلى النقيض فلم تستطع أن تتحمل ما جرى لها وغدت هذه الحادثة نقطة تحول في حياتها فصار معظم حديثها يدور حول تصرفات الانكشارية وما يلحقونه بالناس من المظالم والشرور وهي تردد جملة صارت تعرف بها (( الانكشاريون المتوحشون الكسالى الذين يجب أن يخجلوا من أنفسهم )) هي السمة المميزة لأحاديثها وتضيف إلى كلماتها صيغ المبالغة وهي تقول ( ان آلامي تصل إلى أعماق روحي فنحن معشر الأحرار أكثر قناعة من الآخرين ) وصارت تقضي أيامها بالحديث عن غلاء الأسعار وشحة المواد الغذائية وظلم الانكشاريين ثم تقطع حديثها فجأة وهي واقفة في السوق لتهرع إلى كوخها متظاهرة بأنها تريد الاطمئنان على طعامها خشية أن يحترق وراحت تتوهم أحداثا غريبة جرت لها مع الانكشاريين ينصت لها السامع ما بين مكذب ومصدق. وأصابت الحادثة أغا الانكشارية المعزول بعكس ما أصابت به المرأة العجوز فتعقدت، حياته أيضا. بعد أن اتهمه حساده وأعداؤه الكثيرون بأنه دعي وليس كما كانوا يتوهمون من شجاعته وجسارته فهو لا يخيف حتى الأطفال والعجائز وقد أصبحت هذه الحادثة نقطة التحول في حياته، بعد أن عزل وامتلأ قلبه حقدا على الوالي فتعقدت نفسيته وأصبح لا يخرج إلا ليلا ولا يرى أحدا فالفشل الذي أصاب غزوته في السوق استغله خصومه الكثيرون وأشاعوا عنه الضعف والادعاء، فازداد إدمانه على شرب الخمر فتغيرت تصرفاته وأصبح لا يدري من يمدح أو من يذم وراح يعاني من عذابات نفسية مثلما تعاني منها المرأة العجوز وهي تتظاهر بالقوة ومعاداة الانكشارية وراح الاثنان يعيشان أوهاما من نسج خيالهما جعلتهما يبتعدان تدريجيا عما ألفه الناس من تصرفاتهما. وقد علق الشيخ سعد الله الطائي على التهويل في نقل أخبار هذه الحادثة وإعطاءها هذا الاهتمام الكبير فقال: - ان الشخص الذي يتأثر بمثل هذه الأخبار يعيش غي عالم الأوهام. وبالرغم من ان الأوهام ضرورية للإنسان، فلولاها لما استطاع أحد أن يعيش واقعه ويحب حياته وما من شخص على سطح الأرض إلا ويحمل بذرة من الجنون والوهم ولكن العاقل من يتستر على مشاعره ويتظاهر بالتعقل فيوصف بأنه عاقل أما المجنون فلا يبالي بما يقوله الناس فتظهر مشاعره ويجاهر بها. فالعاقل من يمتلك القدرة على التمييز بين الأفعال التي ترضي المجتمع وتلك التي يرفضها أما المجنون فلا يملك مثل هذه القدرة فتراه يكشف أمام المجتمع ما يشعر به تجاه نفسه واتجاه الآخرين ولا يكتم منه شيئا فظاهره وباطنه سواء. وعندما يرفضه المجتمع فهو يخلق له من أوهامه مجتمعا خاصا يعيش فيه على هواه فيفصم نفسيا عن مجتمعه الحقيقي ويعيش في أوهامه. أما أنا فلي رأي آخر ربما كان خاطئا ولكنه رأيي على كل حال ويتلخص رأيي " في أن هذين الشخصين من النوع الجدلي وقد أصيبا بازدواج في الشخصية لوقوعهما تحت تأثير قوتين متناقضتين من " القيم والشخص الجدلي عادة يندفع وراء إحدى القوتين تارة ثم وراء القوة الثانية تارة أخرى " وهما يناقضان نفسيهما دون اكتراث لأنهما أكثر الناس، هياما بالمبادئ والمثل العليا التي يطلقونها في كلامهم وجدلهم وهذه هي القوة الأولى المؤثرة عليهما ولكنهما في الوقت نفسه أكثر الناس انحرافا عن تلك المثل في واقع حياتهما وهذه القوة الثانية فلكل منهما أكثر من شخصية واحدة وليس هناك ارتباط بين الشخصيات التي يعيشونها، والجدلي نفسه لا يشعر بهذا التناقض إضافة إلى ان النزعة الجدلية عادة تشتت الذهن والآراء والأهواء ولا تستقر على رأي واحد. فهذه النزعة تجعل من الناس مثاليين في تفكيرهم وفي نفس الوقت أكثر انحرافا عن حقيقة القيم في واقع حياتهم، كما ان لهم ميزة أخرى في طرح آراء تصلح لتأييد أي رأي أو لتأييد نقيضه. وما أكثر هذا التناقض الذي يقع فيه الشخص الجدلي ولكنه لا يشعر به ولهذا السبب نراه مزدوج الشخصية أكثر الأحيان. وازدواج الشخصية شائع في المدينة إلا انه نادر في البادية ومما يؤدي إلى استفحال، الازدواج في الفرد سعة الهوة بين تفكيره وسلوكه فأغا القلعة الانكشاري نشأ تحت رعاية الدراويش - كما أعرف وهو يحترم المواعظ البليغة ولكنه لا يستطيع اتباع ما جاء فيها فقد نشأ طفولته على أخلاق تناقض ما تدعو إليه المواعظ الدينية. فالمواعظ تدعو إلى الحلم والمساواة والعفو والرحمة أما تربيته الواقعية فمبنية على اللؤم والخسة والدناءة والغدر فهو يتشدق بمعايره الخلقية من التعاليم الدينية السامية أما في حياته الواقعية فهو يسير على ما يناقضها، وكذلك المرأة العجوز التي راحت تتظاهر بالقوة وتدعو إلى الثورة وهي أضعف المخلوقات. وبسبب الحادثة وما نتج عنها من التأثير أدى ذلك إلى ظهور عقدهما وبانا على حقيقتهما ". ان هذا هو رأيي على أية حال ولست أدعي أنه رأي صحيح من كافة جوانبه ولكنه اجتهاد لتفسير ما حدث في سوق قريتنا بين شخصيتين متناقضتين تحركهما أهواء متناقضة أيضا ربما هي نفس الأهواء والقوى التي تحرك كل فرد منا يعيش تحت وطأة الخوف والسحق بالأقدام في ظل هؤلاء الانكشاريين الذي يجب أن يخجلوا من أنفسهم كما تصرح به الأرملة العجوز بمناسبة وبدون مناسبة ". وربما كونت رأيي هذا بسبب الكره الشديد الذي أحمله لأغا الانكشارية ولا أدري سببه ومرت الأيام مملة والليالي متشابهة وكنت أتوقع أن ما استجد من هذه الأمور في قريتنا سيكون له صدى في المدينة. إلا ان شيئا من هذا لم يحدث وفكرت بأن عودتي إلى القبيلة ثانية سوف تبعدني عن الناس وتقطع عني أخبارهم وأخبار القرية والمدينة أيضا وتعوق بحثي عما أبحث عنه ويعيش في ذاكرتي مقتل أبي ومذبحة القرية. غلبتني الحيرة على أمري وكنت محتاجا إلى من يشير علي وجاء الفرج بحضور الشيخ سعد الله إلينا وهو يدخل الدار بين مرافقيه كان سروري به عظيما وترحيبي حارا فقد كان حضوره صباح هذا اليوم هو الشيء الذي احتجته فعلا وما أن جلسنا في السقيفة التي تشرف على القرية حتى ابتدرني قائلا: - لا يغرنك ظواهر الأمور يا بني، ولا تثق بأن عزل رئيس حراس القلعة أغا الانكشارية سوف يحسن الأوضاع هنا بل سيجعلها تزداد سوء فالذي سيأتي بعده ربما سيكون ألعن منه. وأنا لا أستطيع أن أجبرك أن تعود معي ولكن كل ما أرجوه هو أن تأخذ حذرك وأن لا تصدق كل ما تسمعه عنهم سواء هنا أو في المدينة فما يثير غضبهم أو يقلقهم سوف لن يسكتوا عنه وهم يتفننون في جمع الأخبار عن كل ما يريبهم أو يريدون معرفته أو يهمهم أمره بصورة تدعو إلى الدهشة فلا تغرنك الظواهر، قلت متسائلا: - ولكني بعيد عن المدينة الآن وأحسب نفسي في مأمن هنا إلى أن تعود المياه إلى مجاريها وأستطيع العودة إلى حياتي الطبيعية في المدينة قال الشيخ يتؤده: - ليس قبل أن يمضي وقت طويل ويقع ضحايا آخرين أما هنا فقد وصل إلى القلعة رئيس جديد للحراس بسلطة كبيرة وصلاحيات أكبر بقرار صادر من السراي تم فرضه بأمر الوالي، قلت متفاجئا بما قاله الشيخ: - من الطبيعي أن يتم تعيين أغا جديدا للقلعة بدلا من رئيسها القديم، الذي سام الناس هنا أنواع المذلة والظلم ما داموا قد عزلوه، ولكن هل سيكون الجديد خيرا ممن سبقه كما تفضلت؟ قال الشيخ: - سيضطهد الكثير من الأبرياء بسلطة القانون وسيتهمون بأنهم رفعوا السلاح بوجه العدالة فقد مر شهران على حادثة السوق. وأول أمس فقط أصدر أغا القلعة الجديد أمرا بإعدام الشخص الذي قتل أحد الحراس في السوق وربما سنرى إعدامه اليوم أو غدا ولكني أعتقد بأنه أفضل من السابق وأعني به أغا القلعة الجديد قلت محتارا: |