ينتابني من الألم فاتحمله بصبر وجلد فهي رغم كل شيء شابه رقيقة وليس من الحكمة اجهادها وتحتاج إلى الراحة ايضا وربما ازعجتها طلباتي الكثيرة ولكنها كانت لا تنتبه لوجودي وعندما اصرخ بشدة لتاخذ قسطها من الراحة وان لا تجهد نفسها بسببي تغرق بالضحك غير مبالية باحتجاجاتي ثم تسكت عن اجابة طلباتي وتعود إلى وضعها بجواري ممسكة بيدي تحنو عليّ وكاني طفلها الذي كنت اتمنى بكل شوق ان اراه يهل علينا. مسحت شعري ووجهي فقبلت يدها فانتبهت على صوت الشيخ يقول متمتما وهو يسقيني العلقم المر: -استغفر الله يابني … استغفر الله ولمحته بين اليقظة والمنام وكانه يمسح وجهه بكوفيته وربما دمعة طفرت من عينيه. سارت الابل تغذ المسير مسرعة بصورة ملفتة للنظر وكان قوة غير منظورة تشدها إلى الامام شدا. قالت عائشة تخاطب والدها: -لعل سيرها لا يؤثر على جريحنا يا أبي. -اجاب الشيخ بعد صمت وجيز: انها تشم رائحة اهلها فنسيم الصبا يحمله اليها فيثير في نفسها الحنين اليهم ان هذه العجماوات تدرك انها اصبحت قريبة منهم. اني لاعجب كيف يمكن ان يخون الخائنون بلادهم، ايخون انسان بلاده؟ فلياخذ الموت كل من لا يحن لتراب وطنه. ثم تلفت يمينا وشمالا وقال: سنصل مضاربنا انشاء الله قريبا. -وهل سينفعه دواءنا يا ابتي؟ سالته عائشة. -اجاب الشيخ بعد فترة وجيزة؛ لن ينعفه دواء كما تنفعه عقاقير الصحراء فاصاباته خطيرة ومن المتعذر رعايته في المدينة بمثل هذه الظروف. ان علاج الصحراء هو ما يحتاجه والشفاء بيد الله وحده. -ولكن انستطيع حقا ان ننقذه كررت عائشة سؤالها. -علينا ان نشكر الله يا ابنتي على بلاءه كما نشكره على نعمائه فكم من محنة في جنبها رحمة وكم من نقمة في ضمنها نعمة فالمحن تصلح من الانفس بمقدار ما تفسد من العيش، والنعم تصلح من العيش بمقدار ما تفسده من الانفس. -انعم بالله واكرم … قاطعته عائشة. فاجابها الشيخ: -ان الله يحفظ من توكل عليه من جهات لا يهتدي خاطره اليها ولا يعول فكره عليها. جعلني النوم المحموم ازداد الما على الم أما عائشة فقد كانت تاتي وتذهب في لحظات بين اليقظة والخيال صبية جميلة كما كانت دائما ولولا قرابتي للشيخ ومحبته لي فما كنت استطيع ان اكلمها ولكني كنت اعرف تماما بانه مسرور بي ولم اعد اتذكر متى تزوجت مريم ولكني كنت اعلم بانها تحبني حبا صادقا وقد تركت اهلها وعشيرتها وجاءت معي إلى الصحراء. فقلت ضاحكاً: -لم يعد لي احد في الدنيا سواك فلا ام لي ولا اب ولا قريب ولا نسيب ولهذا صرت رهينة ضعيفة بين ايديكم فانا يتيم واستحق حق الرعاية لاني قريبكم فارحموا من في الارض يرحمكم من في السماء. ضحكت من قولي واقسمت بانها سوق تعطيني هدية مناسبة لوجه الله بمناسبة العيد لتاثرها باسلوبي الجذاب في تقليد الفقراء والمساكين وابناء السبيل ولما طلبت منها ان تعطيني قبلة بدلا من هديتها المزعومة اكراما لوجه الله ضحكت طويلا هي تقول: -لقد ساق لك الله رزقا وانت رفضته فسوف لن تحصل على شيء. كانت شابة نبيلة بكل صفات المروءة والنبل وكنت احبها حقا واستشعر باني لا استطيع الحياة بدونها وما دامت هذه المرأة معي فانا استطيع ان اتحمل الكثير من أعباء الحياة ولن ادخر وسعا في ان احبها واخلص لها واقدم لها بصدق كل ما استطيع من المودة فهي أهل لذلك. ورغم انها تخفي بمهارة مظاهر الحمل فانا اتخيل ان ابننا أو ابننتنا ؛ مولودنا المقبل سيكون شبيها بها فافرح في قرارة نفسي فمثل هذا المخلوق الصغير سوف يزيد من متانة رباط الحب المقدس الذي يربط قلبينا فهي في قمة شبابها وقوتها وستلد اولادا كثيرين وسيكون لنا احفادا اكثر وربما صرنا قبيلة اخرى تسمى باسمي أو باسمها أو حتى باسم الشيخ سعد الله. ناديت عليها ولكنها لم تسمع ندائي. اعدت النداء ثانية بصوت اعلى الا انها لم تات وعندها ادركت بانها ذهبت عني والى الابد فصرخت ملتاعا: لقد قتلوا مريم، ورحت اصرخ من فرط الألم والعذاب وانا اعلم بان مريم قد ذهبت عني وانها لن تعود أبدا ... أبدا.
الفصل الثالث الشيخ سعد الله الطائي
راحت السماء ترتدي حلة قشيبة من السحاب المرصع بالنور عندما أوقفتنا دورية انكشارية تألفت من خليط متنافر من الافراد لا توافق في الوانهم ولا تناسق في اشكالهم ولا تآلف في سحناتهم أو ملامحهم ووقف رئيسهم آغا الانكشارية الشاب منتفخ الأوداج يكاد الغرور ان يتفجر منه لو لم تتداركه الأحزمة والأنطقة التي يشد بها اسلحته على جسده الضخم فوق كومة من الحجارة وهو يتوعد افراد قافلة تجارية اجلسهم على الارض مع جمالهم بشكل دائري ووقف في وسطهم يرعد بكل غطرسة وكبرياء: "لن نسمح للذين يحاولون تخريب الاشكال التاريخية المقدسة باسم الاختراع والتطور ولن تفتح الابواب ليلعب هؤلاء المغامرون المتطفلون امامنا لعبة الحرية ليخرجوا من مقاييس العصر الصحيحة، اننا نراقب حتى اصوات الببغاوات واحاديث العجائز وتناقل الاخبار، وخيركم من تكون له القدرة على الاحتفاظ بالصمت فالافراط بالكلام ممنوع حتى عند اطلاق النكات أو التحدث بكلمات الغزل". ثم قطب جبينه ورفع يده فضج افراد الدورية بالضحك ثم عاد فانزلها فسكت الجميع. واستانف مخاطباً افراد القافلة بغضب (يمنع منعا باتا اطهار أي نوع من انواع الضجر أو الملل فانتم محتجزون هنا حتى يتم التاكد من انكم غير مطلوبين للعدالة). وما ان وضع الشيخ سعد الله كيسا من النقود في يده حتى سحب جميع اعتراضاته وكل ما قاله في خطبته واظهر استحسانا لفعلة الشيخ وهو يخاطبه أما الآخرين مربتا على كتفه باستئناس: ـ اننا هنا لاحتجاز الفارين من سلطة الحكومة وليس لاعتراض الحجاج الشرفاء من امثالكم القادمين من بيت الله فأجابه الشيخ بحكمته المعهودة وهو ينظر للآخرين ان يحذوا حذوه "من عرض نفسه للمظنة فلا يلومن من اساء به الظن". سارت قافلتنا الصغيرة بابلها الخمس تطوي الارض طيا. وصوت جميل يحدو لها بوقع شجي له ايقاع الموسيقى متوافقاً مع وقع اخفافها فتهتز احمالها وكانها ترقص طرباً فيقضي باهداء السلام ذمامــــها هل الود الا ان تلوح خيامها وتصهل افراسي ويدعي حمامها وقفت بها ابكي وترزم ناقــتي امان من الفقر المضر التثامــــها إلى ان لثمنا كف حسان انـها تدفق بالجود الصريح غمامـــها فلما استلمنا راحـة (ابن مفرج) وحسان منها ركنها ومقامــــها ألا ان طيا للمكارم كعبــــــة نشطت ابلنا وهي تغذ السير مسرعة بصورة تبعث على الدهشة وقد انقذتنا فكرة الشيخ من الاشتباك في معركة مع الانكشاريين لا يعلم نتائجها احد. وسارت قافلتنا يتقدمها جمل الشيخ ثم جملّي مرافقيه (عبد وعبيد) ثم جملي وجملا للحمل وكانت فكرة الشيخ انه قام بوضع هودج مغطى بعناية على جملي يبدو للناظر ان فيه احدى نساء الشيخ تحسبا للطوارىء ومنعا لأعين الفضوليين والرقباء وقد بدت القافلة بابلها الخمس وهودجها المموه وكانها قافلة صغيرة للحجاج قادمة من بيت الله وراح الشيخ يهيء اسلحته بعناية وكذلك فعل مرافقوه (عبد وعبيد) اللذان استعدوا للمعركة بعد ان طلب منهما الشيخ ان ياخذا حذرهما بمجرد ان لمحوا عن بعد دورية الانكشاريين وقدروا بان افرادها لا يتجاورزن العشرة وشرح الشيخ خطته وافهمها لمرافقيه بانه في حالة اصرار آغا الانكشارية على تفتيش الهودج، فسيطلق الشيخ نداءهم المعهود الذي يتنادون به في الملمات ويقوم في هذه اللحظة بقتل آغا الانكشارية ويجهز (عبد وعبيد) على اربعة من افراد الدورية بالغدارات (وهي اسلحة نارية قبيحة المنظر حديثة الصنع يكرهها الانكشاريون ولا يميلون لاستخدامها ولكن الشيخ كان يعرف قيمتها في الصحراء فكان يتسلح ويسلح مرافقيه بها). وقبل ان يعرف باقي افراد الدورية بما حل برفاقهم يكون الشيخ ومرافقوه قد استلوا سيوفهم وقضوا على باقي الدورية فقد اصبحت مضاربهم قريبة وفي لحظات ستبتلعهم الصحراء. وكان على كل واحد من مرافقي الشيخ ان يقتل ثلاثة من افراد الدورية، أما الشيخ فكان عليه ان يجهز على آغا الأنكشارية اضافة إلى نصيبه من افراد الدورية. هذا في حالة إذا قاومهم افراد الدورية واصروا على الاستماتة في القتال فقد كان الشيخ يعرف شجاعة مرافقيه جيدا ويعلم علم اليقين بان صوت اطلاقة من غدارته سوف تجعل افراد الدورية يهربون ولن يوقفهم شيء حتى يصلوا إلى قلعتهم المهدمة وقال عبد (ان آغا الانكشارية يشبه الشخص الذي حاول قتلي عندما امسكت به وهو يحاول سرقة خيولنا في بغداد وتسبب بجرحي هذا واشار إلى بطنه واني لم انسى ما جرى منه برغم مرور عشر سنوات على هذه الحادثة). وقد اقسم لي عبد وعبيد وهما يرويان هذه الحكاية بان آغا الانكشارية كان يعلم تمام العلم بان منيته ستكون على يد الشيخ سعد الله لو تجرأ وطلب منه ان ينظر من بداخل الهودج الذي كنت أئن بداخله من الألم بسبب الجريمة الشنعاء التي دبرت في مقهى القرية في الليلة السابقة. فلا آغا الأنكشارية ولا السلطان محمود الثاني نفسه يسمح له بالنظر إلى النساء وهن داخل هوادجهن المستورة أما كيس النقود فلا قيمة له عند الشيخ سعد الله. بدت الشمس غافية تحت صفحة الافق عندما التقيت بالأهل والأقرباء والأصدقاء وتعرفت على شباب أهلي وعشيرتي منهم من كنت رايته رضيعا ومنهم من كنت اعرفه طفلا ومنهم من لم اكن اعرفه ولم اعلم بوجوده من قبل. عرفني احد اقربائي المسنين فاحتضنني وبكى. وحملوني إلى خيمة اعدوها لي وجاءت زوجة الشيخ فاتحة ذراعيها مهللة بمقدمي. حاولت ان اتحرك لأشكرها فخانتني قواي ومزقتني الآلام فاخذت تبكي وكل من حولنا يبكي، انه لمشهد مأساوى تنفطر له اقسى القلوب الا قلوب من سببوا لنا هذه التعاسة والآلام. اخذت مخالب الحمى القاسية تنهش جسدي وانا ممدد على فراش من فراء الغنم في خيمتي اتأرجح بين الحياة والموت أفكر احيانا بما قام به الشيخ سعد الله معرضا حياته وحياة رفاقه للخطر من اجلي ورعايته الآن لي فبرغم مشاغله الكثيرة فهو يشرف كل يوم على علاجي بنفسه فقد تعهدني برعايته عندما مات والدي وتعهدني اليوم كما لو كنت ابنا من صلبه ولست قريبا من اقربائه، ولكنه كان يشتري المعروف كما يقول عنه عارفوه وكما عرفته بنفسي إنسانا كبير القلب والعقل. ضمدت جروحي وجبرت كسور يدّي ورجلّي وظهري وفكي وعظم الترقوة وضلوع صدري. لقد انقذني من الموت فعلا وقولا وعملا؛ كنت ممزقا من راسي حتى قدمي. في البداية كانت عملية العلاج اليومي عملية تعذيب مستمرة أما تبديل الضمادات وتحريكي فقد كانت حفلة تعذيب اخرى. كنت يائسا حتى الموت وانا اجبر على شرب ذلك الحليب الدسم الممزوج باعشاب الصحراء مرات ومرات كل يوم حتى صار الحليب الدسم يخرج من مسام جسدي والشيخ يقول لي مشجعا: اشربه فهو دواءك الشافي باذن الله ثم يقومون بتدليكي بسمن اخر ويسقوني اعشابا وعقاقير تجعلني اشعر بغثيان اشد ايلاما مما انا فيه من الألم. وكثيرا ما دفنوني عاريا في رمال الصحراء الحارة ساعات وساعات حتى اصرخ من الالم. ورغم ما يصيب الشيخ من التعب وهو يقوم بنفسه على علاجي ويضمدني بيديه فلم اره متبرما أو ضجرا يوما بل على العكس فقد كان الجميع يهتمون براحتي ويقلقهم ما اعاني ويتألمون لألمي. حتى مرت الايام والاسابيع بطيئة متثاقلة قبل ان تلتئم كسور فكي واستطيع الكلام وقبل ان تعود الحياة لجسدي المضني والى قلبي الكسير فأندملت الجروج واختفت الأورام والتأمت الكسور وعدت احاول العيش من جديد ثم انقضت الاسابيع والشهور قبل ان استعيد عافيتي واعود لممارسة حياتي اليومية ولن انسى صنيع الشيخ سعد الله ما حييت عندما وهبني الله حياة ثانية بفضل عنايته. من مضيفه تعلمت الحكمة وخبرة الحياة ودرست على يديه دروسا حقيقة في التعامل مع الدنيا. كان الشيخ يعاملني معاملة كريمة كأبن من ابناءه واعتدت ان اجلس بين رجاله وهو يبت في امور عشيرته اتزي بزيهم مرتديا ثيابهم المريحة الفضفاضة بأكمام طويلة وكوفية حمراء اثبتها بعقال على رأسي يتهدل باقية خلف ظهري ومتحزما بسير من الجلد يتدلى منه جراب للسلاح. كنت آمنا معهم برغم الندبة الباقية في قلبي وانا استمع إلى كلام بليغ تتمثل فيه الفراسة وحسن الخلق والادراك لمسؤولية المشيخة التي تلقى على عاتق شيخ العشيرة، فالمشيخة نوعان اصيلة متوارثة على الخير فهي قيادة خيرة واخرى شريرة تعمل بالاغتصاب والحيلة وقد تنجح مؤقتا الا انها تحمل في طياتها البذور التي تقضي عليها بسبب الجشع والطمع والتضليل وعدم الاصالة لانها شيء كاذب ينبعث عن شخصية قوية. وكلما اشتدت قوة هذه الشخصية كان تدميرها النهائي اسوأ. وان كلا الشيخين الطيب والشرير يحتاج إلى الشجاعة التي تساعده في ممارسة مسؤولياته، فالشيخة صراع لاكتساب قلوب الرحال وافكارهم وهي تعني الارادة والقدرة على حشد الرجال والنساء في سبيل غاية مشتركة مع توفر الصفات الاخلاقية العالية التي تبنى على الحقيقة والحق. في عالم الصحراء الذي اعيشه الان اشعر بان الشيخ سعد الله خادم للحقيقة يعرف ما يريد ويملك العزم لانجازه بطريقة توحي بالثقة لكل الناس الذين حوله فهو يحكم على الامور حكما صحيحاً ويعرف الطبيعة البشرية ويرى المشكلات التي تطرح امامه بصورة حقيقية وشاملة ومقدرة في السيطرة وضبط النفس وانه ليحسن اختيار مرؤوسيه، وذو معرفة بدخائل الناس واخلاقهم تتداول كلماته كالامثال وهو يقول لمستشاريه ومن هم دونه بالامرة من امراء العشيرة "لا يصلح لصحبة الدنيا الا اهل الدنيا ولا يليق بصحبة الاشرار الا الاشرار" أو يقول لهم "إذا اخطأ العاقل استدرك خطأه" ونادراً ما رأيته هازلا أو مازحاً وعندما سألته قال: "انما يضيع الملك باللهو والهزل ورأس الامر العدل وحسن السيرة" وكثيرا ما كنت ابدي إعجابي بأسلوب ادارته وكيف يسيطر على غضب الغاضبين عندما يختلفون حول القضايا الشخصية ومسائل الرعي والسقي وما ان تثار النزاعات حتى يقوم بحلها بما يرضي جميع الاطراف وهو يقول: إذا كان الغضب عن سبب يعرف، كان الرضا سهلا ميسورا وان كان بلا سبب كان الرضا صعبا ممتنعا". فمجلسه يستهوى القلب ويترك فينا عندما نغادره شعورا بالثقة وارتفاعا بالمعنويات لعلها نوع من تلك السعادة التي يسعى اليها الانسان في كل زمان ومكان والتي جعلتها فلسفة الأقدمين وتعاليم المفكرين هدفا وغاية يطلبها الناس جاهدين. شاهدت في مضيفه القابع في قلب الصحراء براعة فن السياسة في اثارة الاعجاب واساليب الاقناع والمناورة البارعة التي تشبه الدسيسة ثم تسوية الامور بعد ذلك الجهد وإرضاء الجميع بإعطاء كل ذي حق حقه. في أحد الأيام نشب نزاع بين افراد من عشيرته مع بعض الأفراد من عشائر اخرى كاد يتطور إلى قتال مسلح فتدارك الشيخ الامر بحكمته فأرضى الجميع وفض النزاع وخرجوا من عنده يدعون له بالخير وكنت مسروراً بما انتهى اليه الامر فسألني على حين غرة: ما تقول يا ابن اخي في ما رأيت وانت ابن المدينة ونحن بدو الصحراء؟ فاجبته بمنتهى الصدق والاخلاص والصراحة:لكي يكون المرء انسانا عظيما ذا منزلة كبيرة يجب إن تكون له صفات اخلاقية عالية ورأي صائب في الامور وذكاء لامع ومقدرة على رؤية مشاكله برمتها وحقيقتها وبعبارة اخرى يجب ان يرى الامور بغير مبالغة أو تأثر بالعاطفة وان يكون لديه القرار الصحيح وانك يا شيخ سعد الله تملك مثل هذه الصفات. فنظر الي بتواضع وقال: "لا تتاثر كثيرا بما ترى يا بني فلذة الدنيا كزهر الربيع في الصحراء يعود بعد قليل شوكاً. فإذا اجتهد المرء رأيه واستشار نصيحة واستخار ربه فقد قضى ما يجب عليه ويفعل الله بعد ذلك ما احب. فكل شيء محتاج إلى العقل والعقل محتاج إلى التجارب وعليك بعلوم اصحاب التجارب فانها تقوم عليهم بالغلاء وعليك بالمجان. والعاقل لا يقدم على شيء الا بعد اليقين والثقة. اما الحق فيعرف بنفسه لا بشهادة من يشهد له ورضى من يرضى به". ونصحني مرة وقد رآني عابسا متجهما بقوله : " أبشر يا بني فالبشر الحسن دفع صغيره بأيسر مؤنة والحكماء تقول احفظ السلطان بالحذر والصديق بالتواضع والعدو بالحجة والعامة بالبشر. فأبشر يا بني أبشر ". كان يعجبني هدوءه في الأزمات وقدرته على التفكير وشجاعته في التعبير عما يريد وثباته على الرأي الذي يراه صحيحا ويرشد الآخرين إليه متحليا بالكرم والفضائل الدينية وكثيرا ما يسري عني عندما يراني مكتئبا أفكر بما أصابتني به الدنيا حدثني ليلة عيد الأضحى وكنت أسمر عنده بأن السبب الذي دعاه ، أن يأتي بي إلى دياره هو ما سمعه في الطريق أثناء عودته من الحج ومعه بضعة مئات من حجاج عشيرته بأن الوضع خطير في بغداد وأن داود باشا قد عزم على قتل سعيد باشا وأن جماعته يدبرون أمورا خطيرة لإبادة كل من يشبهون به وحذروه من إجراءات وضعت لهذا الغرض. قال الشيخ (قررت أول الأمر أن أرسل اليك من يحذرك وأطلب منك الحضور إلينا حتى ينجلي الموقف لعلمي بأنك لا تطيق المدينة بهذا الشكل ولكن الأخبار تواردت بأن الوضع صار خطيرا في بغداد وصعب على الناس أن يغيروا أماكنهم وانقطع السفر والتنقل بين المدن وقتل عدد كبير من الأبرياء بلا سبب فعزمت على المجيء اليك بنفسي فانفصلت عن قافلة الحجاج وأرسلتهم إلى العشيرة وخاصة بعد أن سمعت وأنا في الحج من (الدليل عويد) دليل القافلة التي جئت أنت معها إلى البادية بأنك قد قررت السكن في القرية عندما قابلني في " المدينة المنورة " فأخبار القرية تصلني باستمرار منذ وفاة جدتك رغم أن الدار متروكة طوال سفري ولذلك جئتك رأسا وأنا أحس بالقلق عليك يرافقني (عبد وعبيد) ولولا إلحاحهم المستمر ما وافقت على مجيئهم معي رغم فائدتهم الكبيرة لي بسبب حراس القلعة ورئيسهم الجشع أغا الانكشارية فالغريب عن القرية أكثر أمنا على حياته وماله من أبناء القرية فيالسخرية الأقدار !!! والباقي معروف فقد رأيت بيت جدتك الذي تسكنه مغلقا وكذلك بيوت أصحابك الشيخ عبدل وعبد الله وصالح وسمعنا الناس يتهامسون بأنك قد قتلت مع من قتل في أثناء الهجوم على المقهى وقد قتل مع أصدقاءك الثلاث أبرياء آخرون وكان الليل قد أوشك أن ينصرم عندما وصلنا إلى القرية ورأينا الناس وهم يأخذون الجرحى فوجدناك على آخر أبواب الدنيا وأول أبواب الآخرة وأقول الحق لولا لطف الله وصحبة (عبد وعبيد) لكان قد سبق السيف العذل فالحمد لله يا بني على نجاتك ولتهنأ معنا بصحة وعافية وراحة بال فكل ما تطلبه ميسور تحت يدك. هنا قطع كلامه صوت ابنته عائشة وأمها يستأذنان بالدخول لتهنئتنا بالعيد ( فزوجته قريبتي أيضا وتربطها صلة قرابة وصداقة بوالدتي لم تنسها يوما من الأيام وكان الجميع يهابونها ويطلقون عليها لقب الشيخة ). أذن لهما الشيخ مرحبا فدخلت عائشة وأمها الخيمة وابتدرتا بالتحية والتهنئة وقد بدتا على طبيعتهما أميرتين عربيتين بكل صفات النبل والفتنة والسمو الروحي وما أن جلستا قليلا حتى استأذنت الشيخة وخرجت لبعض شأنها وقد امتلأت الخيمة برائحة العبير وهب نسيم الليل يحمل شذا الصحراء الذي يثير الشجن. ونادرا ما كنت أراهما بمثل هذه المناسبات. وأجلس الشيخ عائشة إلى جواره فقبلت يده فقال لها باسما : - أخشى على ضيفنا العزيز أن يكون قد مل معيشتنا وحنت نفسه إلى المدينة وانكشاريتها. فبانت البغتة على وجهها ونظرت إلي وأنا لا أدري ما أقول وسألتني باحتجاج طفولي : - مالك وهؤلاء أتركهم وشأنهم وانصرف لكتبك وقراءاتك ولا تعد إلى المدينة أليس ذلك أفضل ؟ وكأنها تقول ألا يكفي ما حل بك. فأجبتها مؤمنا على كلامها وأنا أنظر إلى الشيخ فأتذكر صورة والدي أمامي والجيش الذي يحاصر بغداد. - تغدو الحياة عذابا كل يوم عندما تصبح الحقيقة مدعاة للاشمئزاز والألم فهؤلاء عصابة من الأفاقين والخونة المتعظشين للسلطة لا يمكن الركون لغدرهم أي حق يرغمني على الولاء لمن لا يقيممون وزنا لأية قيم لقد حولوا كل الناس الذين كانوا يخلصون النية إلى بلدهم ويؤمنون بالله وبالمثل والمبادئ إلى تراب في مقابر جماعية ولست أدري ما سأكون عليه غدا. فالتفتت تخاطب والدها وهي تقول بلطف : - هون عليه يا أبي لعل الكتب التي طلبها قد تصل غدا. فأجابها باسما وهو يشير إلي متعمدا تغيير مجى الحديث. - أليس هو السبب الأول في تعليمك القراءة والكتابة فقد كان والده رحمه الله يقول لي إنك طفلة نابغة عندما كنا في المدينة أتعلم وأعلم في أروقة مساجدها وأعد تلميذي هذا – وربت على كتفي – ليكون فيها خليفة بعدي ووالده يأخذ على عاتقه والقيام بتعليمك بعد أن رأى شغفك بالدرس والتحصيل وأعتقد بأنك أنت من تنتظرين وصول الكتب لتقرأيها حتى قبل أن نراها نحن ولعلي كنت مصيبا في تعليمك برغم هذه الصحراء. فأجابته والسرور يغمرها وهي تشير اليه : - إذا أردت أن تفحم عاقلا فأحضر له جاهلا فالجاهل أعذر من العالم. وأنت يا والدي أفضل الناس ومالت عليه تقبله. فسرته حركتها وقال وهو ينظر إلي : - قد يبلغ الضعيف بالحيلة ما لا يبلغ القوي بالقوة فالماء يؤثر في الصخرة الصماء إذا دام قطره عليها. ثم نظر إلي والبشر يعلو وجهه وقال : - رب امرئ أهلكته حيلته. ومن مدحك بما ليس فيك عند رضاه ذمك بما ليس فيك عند غضبه فالفاضل من كان الفضل ذريعة عنده والناقص من كان التملق أوكد الأسباب عنده فلا تمدح عاقلا ، بما ليس فيه فيكون ما زدته عما يعلمه من نفسه نقصا لك عنده. فقلت للشيخ برجاء : - إني عاجز عن إبداء شكري لكم فقد زادت أفضالكم علي وأنكم لتخجلونني بما تتجشمونه في سبيلي !! قالت عائشة والفرح يتطاير من عينيها وهي تخاطب والدها : - إنه يضع كتابا عنا يا أبي فاسأله ماذا كتب عنك ... انه يضع كتابا عنا. نظر الشيخ إلي بطلف محبب وقال باسما وهو يشير لعائشة " لقد وضعتك تحت نظرها وراحت ترقبك فاحذر النساء ". قلت أجل. قال الشيخ بتواضع أقرب للخجل : - بحقي عليك لا تزد على الحقيقة أي شيء ولعلك تنسانا مع الزمن. فأردفت عائشة وهي تخاطبني برجاء : - أقسمت بالله عليك ألا أن تقرأ ما كتبته عنه وأن لا تخجلني أمام أبي. فتضاهرت بالاستكانة وأخرجت أوراقا من جيبي كنت أسجل فيها خواطري وقرأت : - الشيخ سعد الله الطائي ، شيخ لطيف محبوب ربعة القوام ذو عينين نفاذتين يبدو دائما بمظهر المنتصر وهو عالي الهمة تنطوي نفسه على المآثر والأمور الجميلة والحسنة التي تجعله مهابا ساحر التأثير عمليا إلى أبعد الحدود في إخلاصه وإيثاره وإدراكه لحالات المشاكل وحلها عالما وفارسا وشيخا نادر الصفات لأحد أفخاذ قبيلة طي. كان سرور عائشة عظيما بما قرأته حتى خلت الفرح يكاد يتطاير من عينيها. ردت عائشة بحماس وهي تشجعني : - لك أن تسأل أبي ما تشاء وهو معلمك وقريبك وأنت من الأثيرين لديه ومنزلتك عنده كبيرة فلتنجز كتابك ما دامت الفرصة سانحة. أجبتها بارتباك وأنا أنظر إلى الشيخ : - لن أثقل على الشيخ بأسئلتي وحسبي ما أسمعه من هنا وهناك فأنا أسجل بعض الملحوظات عن المأثورات الشعبية في البادية ولست أؤلف كتابا. بدا الشيخ جادا وهو يقول : - لا تضع فرصة وجودك معنا فإن مضيع الفرصة في وقتها حقيق بالندامة في أثرها ومع الندامة تكون الحسرة ومع الحسرة يكون الضنى في القلب والكبد. أجبت الشيخ بأحد أقواله المأثورة التي كنت أسمعه يرددها ( لا ينبغي للعاقل أن يكتسب بأزيد مما فيه ولا يصحب إلا المقارب له في خلقه ومن لم يكن عقله أغلب خصال الخير عليه كان هلاكه في أغلب خصال الخير عليه ). ابتسم الشيخ وهو يقول : سأحدثك عن صاحب هذا القول فهو من مأثورات ( الأمير المفرج بن دغفل بن الجراح ) التي تجري على لسانه مجرى الأمثال والحكم وهو إلى هذا مرهوب الجانب تتقرب منه السلاطين وتحسب لسطوته حسابا. ترأس قبيلة طي وأحلافها خلفا لوالده وأسس إمارة آل الجراح في البلقاء والرملة وأطرافها في فلسطين وأرسلت له مراسيم الأمرة أقطاعا من الخليفة الفاطمي العزيز بالله نزار سجل فيها ولايته على الرملة بعد أن انتصر على أمير الحمدانيين ( أبي تغلب بن حمدان ) في موقعة باب الرملة. وخلف بعد وفاته ولده ( الأمير حسان ) أميرا على طي الذي حاول مع الأمير سنان بن عليان أمير قبيلة بني كلب والأمير صالح بن مرداس أمير قبيلة بني كلاب أن يقتسموا بلاد الشام ويستقلوا بها إلا أن هذا الحلف البدوي الثلاثي فشل على يد القائد الفاطمي ( البربري ) الذي هزمهم في معركة الاقحوانة فقتل سنان وهرب حسّان إلى بلاد الروم ثم عاد بعد عشرين سنة إلى إمارته في الرملة وتوفي فيها وخلف ولده ( علان ) الذي لم يستطع الاحتفاظ بها ونازعه أعمامه وأقرباءه عليها وبذلك انتهت إمارة آل الجراح. قلت متسائلا وقد أعجبني حديثه : - وكيف كان أمر الدولة العباسية في هذه الفترة الحرجة من القرن العاشر الميلادي ؟ قال الشيخ : - كان الخلفاء في هذه الفترة ألعوبة بيد الأتراك فقد كان المفرج طفلا عندما قتل الأتراك الخليفة المقتدر وجاءوا بالخليفة القاهر وبعد سنة ونصف سملوا عينيه وخلعوه وجاءوا بالخليفة الراضي الذي حاول الفاطميون في عهده الاستيلاء على مصر ولكنهم فشلوا. وما أن توفي بعد ست سنوات حتى جاءوا بالخليفة المتقي واسمه ( ابراهيم بن المقتدر ) الذي حكم خمس سنوات جاهد خلالها أن يقضي على نفوذ الأتراك بمساعدة الحمدانيين ولكن الأتراك وعلى رأسهم أمير الأمراء ( توزون ) تغلبوا عليه فسملوه وخلعوه أيام ناصر الدولة وأخيه سيف الدولة الحمداني وجاءوا بالخليفة المستكفي الذي حكم سنة ونصف ودخل البويهيون في نهاية عهده بغداد بعد أن طردوا الأتراك ورأى المفرج وهو شاب صغير يزور بغداد لأول مرة عندما كان يصلي في جامع المنصور كيف وقف القاهر بعد أن خلع وبويع المستكفي بالخلافة يشنع عليه وعلى المتقي بالله (ابراهيم بن المقتدر) بين صفوف المصلين وهو يقول (تصدقوا علي فأنا من عرفتم) ثم أنشد: صرت وابراهيم شيخي عميلا بد للشيخين من مصدر مـا دام تـوزون لــه أمـــرة مطاعـة فالميــل بالمجمـر - والميل حديدة تحمى بالجمر تسمل بها العيون تعلمها الأتراك البغداديون من البيزنطيين – وبعد المستكفي خلعوا الخليفة المطيع الذي دخل الفاطميون مصر والشام أيامه ثم خلعوا الخليفة الطائع بعده ونصبوا الخليفة القادر الذي حكم إحدى وأربعين سنة وقد توفي في زمنه الأمير المفرج بن الجراح ثم توفي ابنه الأمير حسان في عهد الخليفة القائم الذي حكم بعده أربعا وأربعين سنة فيها انتهى حكم البويهيين وابتدأ حكم السلاجقة الذي أقام أحفاد آل الجراح في أيامهم إمارة آل ربيعة الطائية نهاية زمن المقتدي ومن بعده الخليفة المستظهر الذي قامت في أيامه الحروب الصليبية التي استمرت قرنين من الزمان. - قلت وأنا أستزيده وكيف ظهرت إمارة آل ربيعة الطائية في مثل هذا الخضم من الأحداث. قال الشيخ : - بعد وفاة الأمير حسان بن المفرج بن الجراح أفرج الخليفة الفاطمي ناصر الدولة عن حفيدي المفرج الأميرين حازم بن علي بن المفرج وحميد بن محمود بن المفرج من أسر الخليفة الذي سبقه المستنصر الفاطمي وكانا قد أقاما محبوسين في أسر المستنصر لاشتراكهما مع عمهما الأمير حسان في العصيان عندما استولى الفاطميون على الرملة في معركة الاقحوانة. وبعد إطلاق سراحهما وعودتهما إلى صحراء القدس تعاون حازم بن علي وولداه بدر وربيعة مع أمير الجيوش الفاطمي بدر الجمالي في قتال القائد الخوارزمي (أطسز) عندما توجه إلى مصر لفتحها فتصدى له أمير الجيوش الفاطمي يساعده بدر بن حازم المتولي لكسرة (أطسز) ومعه أخوه ربيعة بن حازم وقد كانت قيادتهم لقبيلة طي في أثناء المعركة السبب الرئيس في انتصار الفاطميين على الخوارزميين. وقد تمكن ربيعة بعدها من أحكام سيطرته على قبيلة طي وأحلافها في بادية الشام وبادية العراق وهكذا ظهرت إمارة ربيعة إلى الوجود وهو يقاتل إلى جانب طغتكين أتابك دمشق الصليبيين ثم اتصل بآل زنكي من أتابكة السلاجقة في الموصل والشام وخاصة الشهيد نور الدين محمود أستاذ صلاح الدين الأيوبي الذي آل اليه شمال سوريا وحلب وصارت له ولأبيه عماد الدين زنكي زعامة الجبهة الإسلامية على الصليبيين وقد حارب ربيعة مع الزنكيين ايام الخليفة المقتدي بأمر الله العباسي الذي أخلف الخليفة القائم العباسي وهكذا وطد ربيعة بن حازم حفيد المفرج بن الجراح إمارة آل ربيعة الطائية بعد زوال إمارة آل الجراح. قلت وماذا جرى بعد وقاة الأمير ربيعة ؟ قال الشيخ : - خلف ربيعة أربعة أولاد هم فضل ومري وثابت ودغفل وقد صارت رئاسة طي بعد وفاته إلى ولده مري ثم انقسمت الأمرة بين مري وأخيه فضل. فكان فضل وأتباعه في المناطق الشمالية من الشام ومري وأتباعه في المناطق الجنوبية وبرية العراق. وقد وقف مري موقفا حازما من الصليبيين الذين زحفوا بجيوشهم الجرارة لاحتلال الشام فكانت له موقعة مشهورة مع جوسلين أمير أمارة الرها وتل باشر عندما زحف بقواته ليكبس (بني ربيعة) ببلدة دمشق وأميرها يومئذ مري بن ربيعة وتأخر جوسلين فضل عن عسكره وأوقعوا بالعرب فنصر الله العرب وقتلوا من الأفرنج خلقا كثيرا وقد ظهرت نتائج هذه المعركة بعد عشر سنوات عندما سقطت إمارة الرها بيد المسلمين وكانت سببا في إشعال الحرب الصليبية الثانية التي جاءت بجيوش أوربا وملوكها إلى الشام لأهميتها عندهم لأنها أولى الإمارات الثلاث التي شكلها الصليبيون مع مملكة بيت المقدس عند بدء هذه الحروب ولذا فقد كان سقوطها كارثة عظيمة حلت بهم ولهذا السبب تراني أتحدث به. قالت عائشة معلقة : - ذو الهمة تأبى نفسه إلا ارتفاعا كالشعلة من النار يوجهها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعا. فأجابها الشيخ : - الشريف إذا تقوى تواضع والوضيع إذا تقوى تكبر ومن وضع نفسه دون قدرة رفعه الناس فوق قدره ومن رفعها عن حده وضعه الناس دون حده. قالت عائشة وهي تردد إحدى أقوال أبيها المأثورة : - أفضل الرجال من تواضع عن رفعة وعفا عن قدرة. قلت وماذا جرى بعد ذلك لآل ربيعة وقبيلة طي وأحلافها. فأجاب الشيخ : - استشهد مري بن ربيعة في المعركة التي جرت بينه وبين تاج الملوك بوري بن طغتكين أمير أتابكية دمشق من سلاجقة سوريا الذي كان يريد مهادنة الإفرنج فثار عليه مري بن ربيعة وتقاتل معه أما أخوه الأمير فضل بن ربيعة فكان قبل ذلك قد أبعده أتابك دمشق فرحل إلى شمال الموصل ثم عاد إلى الشام حيث توفي فيها. واتصل حفيده حديثة بن عقبة بن فضل بالعادل الأيوبي حاكم دمشق وشقيق السلطان صلاح الدين الأيوبي فولاه مشيخة العرب بعد أن عاونه في طرد كيكاوس ملك الروم من حلب ثم صارت المشيخة إلى ابنه مانع ثم إلى ابن مانع مهنا ثم ابنه علي بن حديثة ينافسه عليها ابن أخيه (عيسى بن مهنا) وقد حضرا مع السلطان قطز سلطان مصر المموكي قتال التتر والانتصار عليهم في معركة عين جالوت بأرض فلسطين بعد سقوط بغداد بيد هولاكو فأسند السلطان بيبرس الذي أخلف السلطان قطز إمرة جميع العرب في الشام إلى عيسى بن مهنا وأقطعه مدينة السلمية. ومن الذين حضروا عين جالوت مع قطز وقتال معركة حمص التي جرت بعدها بربع قرن مع السلطان قلاوون الذي أخلف السلطان بيبرس ضد التتار أمير الفرع الثاني لقبيلة طي من آل ربيعة في المناطق الجنوبية من بلاد الشام وبرية العراق أمير آل مري ( الأمير أحمد بن حجي ) وكانت إمرة آل مري مستقلة عن إمرة آل فضل إلا أنهم نظريا كانوا جميعا تحت إمرة أمير العرب. وفي هذه الفترة كان المغول بعد أن استباحوا بغداد بقيادة هولاكو في أسوأ كارثة حلت على البشرية يحاولون الاستيلاء على مصر والشام ولكن معركة عين جالوت أخضدت شوكتهم ... قلت متسائلا : - هل معنى ذلك أن قبيلة طي كانت تقاتل الصليبيين والمغول. قال الشيخ : - نعم يا ولدي فقد تحملت قبيلة طي وأحلافها عبئا ثقيلا ولمدة طويلة في هذه الفترة بمحاربة المغول والصليبيين وهي قبيلة بدوية وليست دولة. قلت : وكيف عاش الأمير المفرج بن دغفل بن الجراح؟ قال الشيخ وقد بدا عليه شيء من التأثر : - عاش جبارا أمام الأحداث العظيمة التي حفلت بها حياته وإن كان في أعماقه شاعرا يهزه بيت من الشعر أو وجه بدوية حسناء وعينين نفاذتين وشجاعة لا تعرف الحدود. ويوم دفنه خرجت الدنيا تشيعه إلى مثواه فقد كان كريما يغدق عليها بلا حساب. عاش كأسطورة فارس عربي. عشق الحرية وفكر بطريقته الخاصة. تعلم من الدنيا وعلمها ودخل التاريخ بقوة فارضا نفسه بالشجاعة والكرم وسجايا المروءة العربية. سكت الشيخ وقد لاحت قطرات العرق تلمع على جبهته فاستأذنته بالانصراف متمنيا له ولعائشة عيدا سعيدا وليلة هانئة. خرجت إلى الليل المقمر وقد اضطجع بجانب خيمة الشيخ شخصان تعالى شخيرهما نظرت اليهما وقد طافت برأسي سحابة من الذكريات وأنا أتجه إلى خيمتي عن الأيام التي جمعتني بمرافقي الشيخ عبد وعبيد.
الفصل الرابع عبد وعبيد
عبد وعبيد شخصيتان غريبتان حقا جمعتني وإياهما ظروفا جعلتنا نصبح أصدقاء حميمين. وقد كان الشيخ سعد الله يعتمد عليهما اعتمادا كبيرا فكان ذلك سبب البداية لتلك الصداقة التي ربطتني بهما. فعبد وعبيد مرافقا الشيخ وأقرب الناس له وألصقهم به متناقضان في الهيئة والشخصية والتصرف وان كان ما يجمعهما هو الولاء المطلق الذي لا يعرف الحدود للشيخ. ففي حين كان عبد طويل القامة سريع الانفعال والحركة عجولا يكثر من الحديث وخصوصا عن النساء كان عبيد قصيرا هادئا نادر الكلام. إذا سأل أجاب صموتا كتوما غامضا تحس وأنت تكلمه بأنه يحمل بين جنبيه سرا ما. والاثنان لا يفترقان ما داما مع الشيخ فلا يتركانه إلا عند النوم وربما ناما بالقرب من خيمته. ولم أكن أعرف الكثير عنهما إلا أني فهمت من عبد بأنه متزوج وله أولاد وأحفاد كثيرون أما عبيد فلم أكن أسمع صوته إلا فيما ندر. وقد خط الشيب فوديهما وشاربيهما جاوزا الخمسين من العمر تنم ملامحهما عن الثقة بالنفس ويوحي مظهرهما بالاحترام بدويان تهذبت بداوتهما بمخالطتهما أهل الحضر. كان عبيد أثناء مرضي قد كلفه الشيخ أن يقوم بتمريضي وأن يتولى أمر العناية بي. فكان يسهر الليل ليسقيني الدواء واللبن. ولم أتذكر أني احتجته في أمر ما أو فتحت عيني إلا ووجدته أمامي يقدم لي ما أحتاجه. وفي حادثة سوق القرية التي جرت بين المرأة العجوز وأغا الانكشارية حيث كانا معي وطلبت ، إليهما الذهاب إلى الشيخ ليخبراه بما جرى وأصررت على ذهابهما ، علمت فيما بعد أن الذي ذهب هو عبد أما عبيد فقد بقى في القرية ساهرا علي دون أن أشعر بوجوده فقد كان مسؤولا عن سلامتي أمام الشيخ وهو أمر كان يضعه فوق كل اعتبار. ويوما بعد يوم ازدادت علاقتي به توطدا وتحولت إلى صداقة فكنت أعامله معاملة الأخ والصديق وأشعر بأنه كان يقابل الود ، بالود ثم صار يطمأن لي وراح يواسيني ويخفف عني عندما حدثه الشيخ سعد الله بكامل قصتي. وبالخطر الذي يحدق بحياتي منذ مقتل والدي ولا يعرف سببه. كنت متأكدا من انه يحمل سرا خفيا في أعماقه لا يبوح به لأحد سرا يعيش معه ويتغلغل في كيانه وكنت ألاحظ وبصورة منتظمة تقريبا بأنه يتعلل بحجج واهية فيغيب أربعة أو خمسة أيام كل شهر بحجة التفتيش عن رعاة الشيخ أو التأكد من قطعانه في مناطق لا يذكر عنها شيئا اما الشيخ فكان يسمح له بالذهاب ولم يكن ليذهب في شأنه إلا بعد أن يتأكد ويطمأن بوجود عبد معنا وانه سوف لن يتركنا ما دمنا في عرب الشيخ أما إذا كانا خارج القبيلة فقد كان الموت أيسر عليه من أن يترك الشيخ لوحده. وكنت أظنه أميا لا يعرف القراءة والكتابة ولكني وجدته ، ولدهشتي يحسن القراءة أكثر من الكتابة وهو أمر نادر الحدوث في البادية وقد أهديته مرة ألفية ابن مالك في النحو فكان يبتسم عندما يقرأ بعض أبياتها وهو يقول لي : - عندما شاب أدخلوه الكتاب. وصار يرتاح في حديثه معي وقد ازدادت صداقتنا رسوخا وقال لي ذات مرة : - ( ليس لي في الدنيا هذه من أحد سوى الشيخ سعد الله وأنت فقد دخلت إلى قلبي وصارت منزلتك كمنزلته عندي ). وكان أكثر ما يسألني عن علم الفلك وعن الأمم البائدة وما جاء في الكتب المقدسة حولها ويدهشني بسعة اطلاعه حول أشياء لا تخطر على البال ومعرفته بأحداث تاريخية قديمة تجعلني مندهشا عن كيفية حصوله على معلومات كهذه. وهو يطلق أسماء غريبة ونعوتا على كواكب تلمع في السماء ويفسر بطريقة واضحة أحداثا وقعت على هذه الأرض كنت أجد نتفا من أخبارها في تفاسير القرآن الكريم أو الأساطير التي اندثرت عن أقوام انقرضوا وبادوا فكنت أستمع اليه مندهشا متصورا أن معلوماته هذه جمعها من كثرة ارتحاله أو من استماعه إلى شيوخ البادية وعرافيها. ولما سألت الشيخ سعد الله بدى وكأنه لا يريد الخوض في الحديث وقال : - انها هوايته وتسليته الوحيدة وانها لا تضر أحدا وان عبيد أهل لكل ثقة بجسمه النحيل وروحه الشفافة وحساسيته المفرطة قالها ضاحكا وهو يحرك يديه في الهواء وكأنه يرسمه فأجبته : - ان ما تقوله صحيح ولكني أعتقد أن في حياته سرا لا يريد أن يطلع عليه أحد وربما كان له علاقة ببعض الناس المهمين في البادية. فأجاب الشيخ : - نعم أعتقد ذلك. ولكن هذا السر ليس له علاقة بأحد من الناس فهو ابن القبيلة وقد تربى تحت بصري وهو إلى هذا يودك كثيرا وربما حدثك عن خلجات نغسه وعن شيئا من أسراره. قلت للشيخ : ليت الأمر كما تقول فمعلوماته في بعض جوانب التاريخ والأساطير والأمم البائدة تثير العجب كما انه كثير النظر إلى السماء والنجوم ويسأل كثيرا في علم الفلك وأسئلته تدل على انه ذو اطلاع وتفهم. فأجاب الشيخ وكأن الحديث أعجبه : - كنت أعرف هذا عنه وأسميه أحيانا بالعاشق لكثرة نظره إلى السماء وتقلب بصره فيها وله ولع في قراءة القرآن الكريم والكتب السماوية الأخرى فقد كان في شبابه صديقا لأحد الرهبان أنقذه من الموت في الصحراء فعلمه هذا الراهب القراءة والكتابة كما علمه الأساطير التي يتحدث بها معك وهذا كل ما أعرفه وربما حدثك بنفسه في أحد الأيام عن ما لم يطلع عليه أحد فهو صديقك ويحترمك ويقول عنك مادحا ( انك أهل لكل ثقة وعالم موزون ). وأنا أعتقد بأن صديقه هذا لم يكن راهبا قط وانما شخص غريب عن هذه الديار وربما كان من ( عشيرة الصلبة ) فحاماه عبيد واعتنى به بعد أن أنقذه من ورطة ما وحافظ عليه ثم غادره متوقعا أن يرجع اليه بعد فترة من الزمن ويلتقي به رغم ان هذه الحادثة قد وقعت منذ ما يقرب من العشرين عاما فلا زال عبيد يعيش على ذكراها ويأمل أن يلتقي بصديقه هذا ولا أظن بأنه حدث أحد بهذا الأمر غيري. وهنا سألت الشيخ : أليس له عائلة ؟ أجاب الشيخ : كلا حسب علمي فهو معي منذ عشر سنوات وكل الذي أعلمه بأنه طلق زوجته منذ ثلاثين عماما هام منها في البراري ما يقرب من عشرين سنة فعمره الآن قد جاوز الخمسين وهو كما قلت شغوف بالآثار القديمة وأذكر عندما سافرنا إلى الحج ثم إلى مصر كان يصدع رأسي بالحديث عن آثار الجيزة والصعيد لغزارة معلوماته عنها وكنت أعجب من أين له القدرة على حفظ هذه المعلومات التي تعلمها من صديقه الراهب. كما زار آثار العراق ومناطق أثرية في الشام والحجاز واليمن. ولو حدثك عما يعرفه عن قصص الهنود والفراعنة والعرب البائدة وأهل الصين والأجسام الطائرة المستديرة التي تشبه الكرات والتي لا يسمع لها صوت وهي تروح وتجيئ كالبساط السحري أو البساط الطائر أو الطبق الطائر كما في قصص ألف ليلة وليلة لصدع لك رأسك. فسألته بتعجب: أهناك أطباق طائرة سحرية أو بسط طائرة؟ أجاب الشيخ : أعتقد بوجودها. قلت : ولكن من أين تأتي ومن يستخدمها ؟ قال الشيخ : لست أدري من أين تأتي فالأرض منبسطة ومفتوحة لكل من هب ودب وبالمناسبة فإن عبيد لا يعتقد بأن الأرض منبسطة بل هي كروية كالكمثرى وان الأطباق الطائرة هذه ، مذكورة في كل الكتب المقدسة وكتب الهندوس وغيرها واننا لسنا الوحيدين في هذا الكون العجيب الذي خلقه رب القدرة وأنا أصدقه. فعندما أنظر إلى السماء في ليل الصحراء أحس بقدرة الباري عز وجل وعظمته واتساع هذا الكون وأنه لا يقاس بالفراسخ فلا عين رأت ولا أذن سمعت بحدوده وقررت بعد هذا الحديث مع الشيخ أن أتحدث مع عبيد في شأنه وكنت متأكدا بأنه سوف يجيب على كل سؤال أسأله ولا يخفي عني أمرا وفعلا فقد صح ما توقعته فبعد يومين جمعتني جلسة مع عبيد في خيمتي فرجوته أن يحدثني عن نفسه ولو شيئا يسيرا لأكون على بينة من أمري. وقلت له : أنا صديقك ولست أحب أن أسمع أخبارك من شخص آخر غيرك. فأعجبه كلامي وقال متفكرا صدقت والله فأنت صديقي. قلت: فأخبرني بما تريدني أن أسمعه منك. |