“أنا ضباب يا مي، أنا ضباب يغمر الأشياء، ولكن لا يتحد وإياها. أنا ضباب، وفي الضباب وحدتي، وفيه انفرادي ووحشتي، جوعي وعطشي؛ ومصيبتي هي أن الضباب وهو حقيقتي، يتوق الى استماع قائل يقول: لست وحدك، ونحن اثنان، أنا أعرف من انت”.
رجعت في إحدى سويعات نهارات العيد الى ذكرى جبران ومي، بعد أن تلقيت رسالة من صديق قديم، كان مر في قصة حب مستحيل، او ميؤوس منه، كما في حب جبران ومي، وعشق مي لجبران.
زعمت أني اقتنيت أغلب ما نشر عن هذين الحبيبين المدهشين. لكن كتاباً صغيراً صدر سنة ،1950 وأحتفظ به بين أعز مقتنياتي، قال لي: “لقد بذلت جهدك، لكن كتاب بربارة يونغ، المعنون: “ذلك اللبناني” ليس عندك، وليس عندك مجموعات مجلة “المكشوف” اللبنانية حول هذا الحب الفريد، و..”.
..وليس عندك أيضاً، ما يعرف ب”متحف جبران”.
أجبت صاحب ذلك الكتاب، الأديب جميل جبر: “نعم، أصبت أيها الكاتب الباحث، لكن الذي عندي هو ما كان ينادي به جبران”.
“ما بعد الحب”، هكذا استكملت فكرتي.
ذات يوم، كنت أقرأ شيئاً من حكاية مي وجبران على مسامع آنسة رقيقة عاقلة، فشاهدتها محمرة العينين، مفخورة بالحمرة من الوجنتين حتى أطراف أنامل اليدين، فعرفت أن كلامي أصاب موقع الجرح عندها.
وفي مساء ذلك اليوم، حملت على رأسي صُرة قماش وقصدت منزلها الذي يقع في أحد أرقى أحياء المدينة، وهناك توقفت، ونشرت ما في الصرة، فكانت خيمة صغيرة، تتسع لشخص واحد فقط.
ثم وقفت عند تلك الخيمة، وأخرجت المسودات الأولى من كتاب “مجنون زينب”، وأخذت أنشد بما لدي من بقايا صوت: “أنا مجنونك الأخير”.
كان ذلك مفاجأة لتلك الآنسة الرقيقة، كما أنه كان بمثابة النازلة على أصحاب الدار، لأن رب المنزل كان يرى فيّ وقاراً واتزاناً. فقلت له: “يا صاحبي، إن الذي يبحث عن ما بعد الحب، يستوي عنده الجنون والعقل”.
ولما رأى أني أتكلم بلغة أهل الضاد، وبمثل هذا الوضوح، قال لي: “تعال أقص عليك قصتي”.
قلت: تفضل.
قال: “كنت أظن أنني الوحيد المجنون في عائشة، فوجدت من ينافسني في عائشة الأخرى”. |