بلاد الرافدين , ارض مابين النهرين , ذلك هو العراق قديما وحديثا , جبال وهضاب ثم سهل رسوبي يمتد جنوبا , ليلتقي الرافدان ويمنحا الخصوبة والحياة لما حولهما , حيث استقر منذ فجر التاريخ وبداية نشوء الحضارات , مزارع ثم بنى قرية فمدينة , بعدها كان العراق قصة ماء وارض وبشر وبناء , خاصة في قسميه الأوسط والجنوبي , هكذا خلق النهر الاستقرار والمزارع والمراعي , في بقاع ماكانت أمطارها لتولد غير واحات نخيل مبعثرة في الماضي , ودور ثانوي في الحاضر قياسا بالأنهار وتفرعاتها .
واقع الحال يقول إن الجبال التركية هي المنبع الأساس للنهرين ينحدران جنوبا نحو ا لسهول ويعبران الاهوارالى حيث شط العرب والخليج ومائه المالح الذي ماكان ليتحلى وأهل البصرة القاحلة لولا هذا الشريان المانح لارتوائهم بعض العذوبة ولأرضهم الخضرة والشجر , ولبيئتهم بعض الهواء العليل .
تفتقد المناطق التركية للبترول مصدر الطاقة , بينما البصرة والجنوب والوسط وحتى الصحراء الغربية غنية به , وتحتاج إلى المزيد من المياه لتخضر وتزدهر مساحاتها وتروى الماشية والإنسان .
فهل نحتاج بعد هذه المقدمة للتأشير بان الماء والنفط لعبا وللسنوات الخمسين الماضية من تاريخ العلاقات العراقية التركية , ادوار مختلفة بين السلب والإيجاب رغم البديهية التي كان من الواجب فرضها لإيجاد توازن وتبادل فعال وتكامل على مستوى توفير الاحتياج المتبادل للمياه والبترول وتفرعاتهما كبناء السدود أو إنشاء مصافي النفط ولكن الواقع يقول إن الطرفين فشلا تقريبا فيما نجحت به الكثير من الدول المجاورة ,من تبادل للمنفعة ,فلا العراق يرتوي بما يكفيه من الماء , بل إن النسبة تقل , ولا تركيا تحصل على حاجتها الفعلية من النفط والغاز من اقرب جار ,وأسباب الفشل في اغلبها عراقية , يلعب فيها عدم الاستقرار الداخلي العامل الأكبر , واقلها تركي حيث يجري تغليب المصالح القومية , حتى ولو كانت على حساب تقاسم المياه حسب الأعراف الدولية , لتقل المناسيب في دجلة والفرات , ويصيب التصحر والجفاف أراض زراعية خضراء , وتتغير بيئة الوسط والجنوب ويبقى موضوع اكتفاء العراق من المياه معلقا بطبيعة العلاقة مع الجارة الشمالية تركيا , فما الذي سيستجد في قادم الأيام ؟ .
- بين الجبال والحدود التركية وتلال وسهول وسط وجنوب العراق يقع إقليم كردستان وتتهادى في أراضيه وبين جباله الشاهقة ووديانه الخضراء , ماتسمح به السلطات التركية من حصص مائية تنحدر جنوبا نفخت في الماضي والحاضر روح الحضارة والاستقرار لموجات زاحفة من البشر , شرقا وغربا وجنوبا لتجد مستقر لها في ارض السواد ارض العراق .
- قصة قوميات فرض عليها التاريخ والجغرافيا أن تتجاور وتتعايش , ضمن حدود آمنة ومعترف بها , ولكن التجاوز يحصل عندما لا يعترف المرء أو الكيان أو العنصر , بحدوده , بكل معاني الكلمة , وذلك ما يحصل للسادة الماسكين بزمام الأمور في إقليم كردستان بشقيه ا لسائران (بعون الله ) في طريق التوحد , بعد أن عبرا درب الآلام وصراع الإخوة الذي امتد إلى منتصف التسعينات .
- عام 2007 يشرف على الأفول , والعراق يبحث عن استقراره ووحدته , بعد أن خيم شبح التقسيم فوق سمائه نتيجة للسياسات الخاطئة والمتعثرة لقيادات شعبه , وعدم التأكيد او احترام الثوابت الوطنية التي أولها وحدة الأرض وضمان تدفق المياه , وهنا يستوجب ان يكون الهدف واحد وواضح خاصة لزعماء الوسط والجنوب ومن بقي منهم مرتبط بالشعب والأرض , فما بال سياسيوا كردستان يتناسون ما يعنيه المزاج التركي إذا انقلب , بالنسبة لطبيعة ارض العراق ! .
- أزمة تتصاعد وتشتد حدتها بين الحكومة التركية وقواتها المسلحة من جهة , والقيادات الحاكمة في كردستان العراق , بسبب النشاط المسلح لحزب العمال الكردستاني , والتهديد التركي بدخول الأراضي العراقية للقضاء على هذا الخطر ,مما يعني اندلاع حرب لايرغب بها العقلاء حتما في الجانبين لتتحول المنطقة الأكثر استقرارا من الأرض العراقية إلى بؤرة ملتهبة , تدمر وتحرق مابناه الشعب الكردي وقواه العاملة طيلة أكثر من عشر سنوات من الإمساك بزمام الأمور والهدوء والسلم الأهلي , كما إن مجرد تفجر الأزمة خطابيا , تسبب في بداية سحب الاستثمارات التركية من مناطق شمال العراق , وتقدر بالمليارات وتوفر فرص عمل للآلاف من كادحي كردستان ,كما قد يطيح النزاع في حالة استمراره بكل الآمال الكردية في التمتع بالسيادة والحقوق الوطنية المكتسبة بالعرق والدماء والدموع للأجيال الكردية ولعشرات السنين , فهل تعي القيادات الكردية مخاطر ماتسير إليه الأحداث ؟ وهل يوجد قرار موحد مدروس ؟ , أم إن الأحلام القومية تفرض سحرها وتغشى لوهجها الأبصار , ويعود العامل والفلاح الكردستاني لحمل السلاح بدل العمل على ازدهار كردستان , لان القادة او بعضهم يرغب بالتصعيد مع تركيا تدفعهم رغبتان كلتاهما تدمي أشواكها صدر العراق , فمن يستمتع برؤية الدماء تسيل ؟ .
- الرغبة الأولى هي الطموح القومي الكردي الشبيه بأخيه العربي , وما تلعبه العاطفة من تغليب مساندة متمردين أكراد من خارج الحدود وإيوائهم والدخول في لعبة اكتساب الشعبية لعموم كردستان , وهو الدور نفسه الذي مارسه النظام السابق عندما وضع الفلسطينيون في مقدمة اهتمام السياسة العراقية وإمكانات البلد حتى لو كان مقابل ذلك الإضرار بالمصالح الوطنية العراقية , ليصبح شعار المعارضة العراقية ومنها القيادات الكردية (العراق أولا ) فما الذي تغير لتصبح كردستان الكبرى أولا ؟ .
- الرغبة الثانية قضية ضم كركوك , التي فاحت رائحتها النفطية حتى أصبحت تزكم الأنوف , وينتقل الحديث إلى الصراحة التي مفادها ان القيادة الكردية تحلم وتخطط لدولة نفطية تعتمد الاقتصاد ألريعي على النمط الإيراني حيث مركزية السلطات والتضخم الإداري, والحكومة المستدامة والشعب غير المنتج , لا النمط التركي حيث الاستثمارات والعمل والإنتاج المدني وانتقال السلطة السلمي , والتبادل السلعي .
كركوك مقابل حزب العمال , تلك هي المحصلة النهائية للف والدوران الحالي , ونتساءل ما الذي تغير في الموقف السابق لمنتصف التسعينات حين لاحقت بيشمركة السيد ا لبرزاني عناصر العمال التركي في الجبال والمدن وقتلهم لمصلحة علاقات منفعة مع السلطات التركية حينها ؟ . ولا يجري الاتعاظ بالتجربة السورية في إيواء السيد أوجلان وبعض قيادات حزبه , ثم فشل دمشق في محاولة ابتزاز الحكومة التركية ,لتتغير المعادلة إلى المشاركة وبشكل غير مباشر , في اعتقال القائد الكردي ونقله إلى الأراضي التركية .
- لا احد يتحدث او يبحث عن عدالة وصواب أو خطا المسيرة الطويلة وطريق الكفاح المسلح الذي اختطه ومارسه حزب العمال الكردي التركي , ولكن الجميع مستعد لاستغلال مصاعبه ودماء أفراده خدمة للمصالح الذاتية .
- ما يتوضح الآن إن مراهنة حافة الهاوية للقيادة الكردية العراقية تبدو فاشلة ومحفوفة بالمخاطر , خاصة إذا استهدف الجيش التركي بأسلحته المتطورة القيادات الكردية وتجمعات البيشمركة النظامية والمكشوفة على عكس تمدد وانتشار عناصر حزب العمال التركي , والأدهى والأمر إن الجيش التركي سيضرب بقوة , لما يعتقد إنها فرصته لاستعادة النفوذ والسطوة المستلبة لمصلحة السلطة المدنية , خاصة وان الشارع التركي والمزاج الشعبي مهيأ ومتحمس كالعادة في بداية كل حرب لضربة كهذه , لايبدو إن المراهنين على محدوديتها هم الرابحين .
- مايهمنا كعراقيين هو الوطن وتدفق المياه , وحديث الوطن مؤجل , بعد أن ابتلع الساسة كل إرادة حرة للجماهير الشعبية و ويثبتون انتشارهم على اكتاف تقطيع أوصال النسيج الاجتماعي ومن بعده الجغرافي .
- لكن للماء بحث آخر .
لنتصور (مجرد تصور ) دخول تركي ضخم ومقاومة وخسائر كبيرة من الطرفين , وإعلام متعدد الجنسية يجد فرصته الذهبية الملطخة بدمائنا كالعادة , ويبدأ بالشحن والتوتير وتستمر المعركة وتتوسع وتتواصل الإمدادات وتتداخل الخنادق , ويبدأ الطرفان باستخدام مايمتلكانه من أنواع الأسلحة , الضارة بصمود المقابل وإضعاف دفاعاته ولا نعتقد بصعوبة التخمين عن هل ومتى سيلجا الأتراك , للتهديد بقطع المياه او تقليل الإمدادات , وكيف سيكون الموقف السوري المشارك لنا في حصة نهر الفرات ؟ والمخفي أعظم , والمتضرر الأكبر هم أهل الوسط والجنوب في حرب لاناقة لهم فيها ولا جمل .
وحتى لأكثر الاحتمالات تفاؤلا , فان توتير الأجواء المتعمد مع جار مصيري كتركيا لايخدم مسيرة المفاوضات المستمرة لزيادة حصة العراق المائية التي توفر حياة أفضل للأجيال القادمة .
- هنالك حاجة ملحة بان يتفهم الساسة الأكراد وقياداتهم بان سياسة حافة الهاوية تضر بالآخرين ولا تخدم مصالحهم , وإنهم ليسوا الوحيدين في المركب ليقرروا إغراقه أم لا , فما زالت تجمعنا السفينة العراقية , والراية المرفوعة فوقها , هي ليست لقراصنة او مغامرين بل هو علم العراق (رغم رفضهم لشكله الحالي ولكن ليس لمضمونه ) , ونحمل جنسية الوطن , الذي لازال موحدا , حسب القانون الدولي , وقرارات الأمم المتحدة , وما زال حوارا متواصلا موضوع الأقاليم الفدرالية , كما إن التعايش مع الوضع الواقعي الحالي والحقوقي الخاص للشعب الكردي ومنطقته حتى باعتراف المزاج الشعبي العام (وبتقديري هو الأهم) لايعني التجاوز او إيذاء المكونات والمناطق الأخرى , كما إن للحكومة الاتحادية المركزية ومسئوليها التنفيذيين , سلطة أعلى من الأقاليم لاسيما في قضيا الدفاع والسياسة الخارجية ولكن يتم عزل وتغييب حكومة بغداد عما يجري على الحدود الشمالية للوطن , ويسود الصمت المريب الذي يكاد يصل إلى حد المشاركة بالإثم , القوى والأحزاب التي تخطط لقيام إقليم الجنوب , لاعتقادهم إن درجة استقلال القرار الفدرالي الكردي ستنعكس إيجابا على مشروعهم بحجة التشبيه , وليس لديهم هموم متعجلة في مسألة كركوك اومياه دجلة والفرات , فهي قضايا ستشغل الجماهير وتضعفها أكثر , فالهم الحقيقي لهم أي دعاة إقليم الجنوب (ونتمنى ان يكون بعض الظن إثم) كما أكراد الشمال دولة أخرى ريعية نفطية تكون فيها الثروة والقوة متركزة بيد الحاكم , وليبحث المواطن عن قطرة ماء يشربها أو يحفر بئره بيده! .
- لازال العراق الوطن ينادي , ولنتجاوز بوعي الواقع المريض الحالي الذي يقسمه لدويلات أمراء الحرب والنفط , ولنفتش عن قوى داخل البرلمان وخارجه تؤمن بان العراق لم يتحول بعد إلى جثة هامدة ليتم تقطيعها ,حسب الطلب , والإلحاح , وسرعة الانجاز , وليفهم ويتفهم من وضع هذه الأقصوصة كهدف ستراتيجي , وأغمض العين عن سواها , إن مايربط أهل الوسط والجنوب , بالجار الشمالي , هو شريان الحياة نفسه , لا مشاكل حدودية عابرة , أو مناورات ومناوشات تكتيكية يتخللها صلح وخصام . |