مقدمة:
كنت أعيد قراءة بردة شوقي في برنامج كنت أعددته لقضاء أوقات شهر رمضان، فاستوقفني البيت:
يالائِميفيهَـواهُوَالهَـوىقَـدَرٌ" "لَوشَفَّكَالوَجدُلَمتَعـذِلوَلَـمتَلُـمِ
وتذكرت أن هذا البيت ذاته قد يكون موجودا في بردة البوصيري ، فلما رجعت اليها وجدت البيت:
يا لائمي في الهوى العذري معذرة مني إليك ولو أنصفت لم تلمِ
وهنا قررت الكتابة عن قصيدة شوقي مقارنة بقصيدة البوصيري بهدف تحديد أوجه الشبه والخلاف بين القصيدتين.
لابد لي أولا أن أقول أن ظاهرة المعارضات الشعرية التي شاعت في القرن التاسع عشر ليست إلا دليلا على العقم الذي عانى منه الشعر العربي أبان تلك الحقبة من الزمن لأنها كانت تزود الشاعر بقالب لغوي وموضوعي جاهز وما عليه سوى استعراض مهاراته اللغوية ، حسب معايير ذلك العصر ، ليملأ ذلك القالب.
وفي القصيدة موضوع البحث نجد أنفسنا أمام شاعر بارع اللغة مثل شوقي يحاول النسج على منوال قصيدة رجل دين ، صنع قصيدته صناعة ، من أجل هدف ديني هو الإمام البوصيري الذي لم يعرف عنه أنه كتب شعرا الا في المديح النبوي وهو قليل لا يعرف منه الناس إلا البردة التي مطلعها:
أمن تذكر جيران بذي سلمِ مزجت دمعا جرى من مقلة بدمِ
وعارضها شوقي بقصيدته التي أولها:
ريم على القاع بين البان والعلمِ أحلّ سفكَ دمي في الأشهر الحرمِ
وتجدر الإشارة هنا أن البوصيري كان أكثر ابتكارا من شوقي ، فنهج البردة قصيدة اعتمد فيها على المنهج الموضوعي لقصيدة البردة الشهيرة لكعب بن زهير:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم إثرها لم يبدَ مكبول
فبردته ليست معارضة بالمفهوم التقليدي لبردة كعب بن زهير، بل تشترك معها في الموضوع فقط وتخالفها في القافية والأسلوب، أما بردة شوقي فهي معارضة تقليدية لبردة البوصيري مع اتكاء واضح في كثير من المواضع عليها كما سنبين لاحقا.
المقدمةالطللية:
يبدأ كلا الشاعرين قصيدتيهما البداية الطللية التقليدي ، لكن ثمة سمات كان البوصيري حريصا لى ان تتسم مقدمته بها تماشيا مع غرض المدحة النبوية الذي هو الغرض الرئيس والوحيد للقصيدة .
السمة الأولى التي كان البوصيري حريصا عليها هي أن يظهر موضوع الغزل بوصفه ذكرى قديمة يصاحبها الندم على ما فات رغم إن هذه الذكرى لا تحمل في طياتها شيئا مخجلا او يتعارض مع كون المتكلم في القصيدة يرمي الى غرض ديني ، فأول كلمتين فيها (تذكر – جيران) تيلان الى مرجعيات اجتماعية ودينية مهمة، فالتذكر يرتبط بكرة (التوبة) التقليدية التي يشترط فيها حسب الموروث الديني الإقرار بالذنب والندم على ما فات. أما كلمة (جيران) فترتبط بمبدأ أخلاقي اجتماعي ديني تقليدي هو منزلة الجار التي تفرض الحفاظ على شرفه وعرضه وعده شريكا أصيلا في الحياة اليومية. وهكذا يبدأ الشاعر غزله بتقديم المسوغات التي تبعد التجربة عن الشبهة الأخلاقية.
من ناحية أخرى لا بد من ملاحظة الغياب الملق للمتغزل بها في مقدمة البوصيري، فهي خالية من أية اشارة تعرض صفة من صفاتها او فعلا من أفعالها، وفي المقابل هناك الحضور القوي المليء بالحزن والدموع للمتكلم في القصيدة الذي هو اشاعر أو قناعه. وما ذلك الا ليظهر نفسه بمظهر المذنب العاصي التائب تمهيدا لمرحلة التضرع وطلب شفاعة النبي.
ما مقدمة شوقي فهي بعيدة عن هذا المدخل اذ جاءت مقدمة غزلية تقليدية فيها الكثير من استعراض صفات المتغزل بها باستخدام لغة مكشوفة:
سَرىفَصـادَفَجُرحًـادامِيًـافَأَسـا"
"وَرُبَّفَضـلٍعَلـىالعُشّـاقِلِلحُلُـمِ |
مَـنِالمَوائِـسُبانًـابِالرُبـىوَقَـنًـا"
"اللاعِباتُبِروحـيالسافِحـاتُدَمـي |
السافِـراتُكَأَمثـالِالبُـدورِضُحًـى"
"يُغِرنَشَمسَالضُحىبِالحَلـيِوَالعِصَـمِ |
القاتِـلاتُبِأَجـفـانٍبِـهـاسَـقَـمٌ"
"وَلِلمَنِيَّـةِأَسبـابٌمِــنَالسَـقَـمِ |
العاثِـراتُبِأَلبـابِالرِجـالِوَمــا"
"أُقِلنَمِنعَثَـراتِالـدَلِّفـيالرَسَـمِ |
المُضرِماتُخُـدودًاأَسفَـرَتْوَجَلَـتْ"
"عَـنفِتنَـةٍتُسلِـمُالأَكبـادَلِلضَـرَمِ |
هنا وصف تقليدي لمفاتن النساء من قدود وسور وأجفان وخدود ماكان أبعد البوصيري عنه:
أمن تذكــــــر جيــــــرانٍ بذى ســــــلم |
مزجت دمعا جَرَى من مقلةٍ بـــــدم |
َمْ هبَّــــت الريـــــحُ مِنْ تلقاءِ كاظمــةٍ |
وأَومض البرق في الظَّلْماءِ من إِضم |
فما لعينيك إن قلت اكْفُفاهمتـــــــــــــــا |
وما لقلبك إن قلت استفق يهـــــــــم |
أيحسب الصب أن الحب منكتـــــــــــم |
ما بين منسجم منه ومضطــــــــرم |
لولا الهوى لم ترق دمعاً على طـــــللٍ |
ولا أرقت لذكر البانِ والعلــــــــــمِ |
فكيف تنكر حباً بعد ما شـــــــــــــهدت |
به عليك عدول الدمع والســـــــــقمِ |
وأثبت الوجد خطَّيْ عبرةٍ وضــــــــنى |
مثل البهار على خديك والعنــــــــم |
نعم سرى طيف من أهوى فأرقنـــــــي |
والحب يعترض اللذات بالألــــــــمِ |
يا لائمي في الهوى العذري معـــــذرة |
مني إليك ولو أنصفت لم تلــــــــــمِ |
يلاحظ ان البوصيري يتحدث عن نفسه بصيغة المخاطب من اجل اظهار الندم على ما فات فكن ذلك العاشق شخص آخر يقوم الآن بتأنيبه وتقريعه، أما شوقي فهو منذ المطلع يعلن عن نفسه بصيغة المتكلم ويبدو متوحدا مع ذاته (أحلّ سك دمي في الأشهر الحرُمِ).
وانظر الى التركيز على شخصية العاشق لا العشيقة، وانظر الى البيت الأخير الذي بدأنا به هذه المقالة، فهواه (عذري) شريف ومع ذلك يرى نفسه في مقام المذنب الذي يحاول التماس العذر، بينما لم يتنبه شوقي الى هذا، فأسهب ي غزله مستعرضا قدراته اللغوية وما يمتلك من رصيد من موروث الغزل التقليدي.
التخلص الى المديح:
لم تكن مهمة البوصيري في التخلص من الغزل الى المديح عسيرة، بالنظر الى السمات التي قدمنا الحديث عليها في مقدمته، فإظهار الندم كاف ليكون بابا للدخول الى المديح على اساس طلب الشفاعة:
فإن أمارتي بالسوءِ ما أتعظــــــــــــــت |
من جهلها بنذير الشيب والهــــرم |
ولا أعدت من الفعل الجميل قــــــــــرى |
ضيف ألم برأسي غير محتشــــــم |
لو كنت أعلم أني ما أوقــــــــــــــــــــره |
كتمت سراً بدا لي منه بالكتــــــــمِ |
من لي برِّ جماحٍ من غوايتهـــــــــــــــا |
كما يردُّ جماح الخيلِ باللُّجـــــــــُم |
فلا ترم بالمعاصي كسر شهوتهــــــــــا |
إن الطعام يقوي شهوة النَّهـــــــــم |
والنفس كالطفل إن تهملهُ شبَّ علــــى |
حب الرضاعِ وإن تفطمهُ ينفطــــم |
فقد انتقل من المقدمة الطللية الى تقريع الذات بيسر للترابط الوثيق بين طريقة تناول الغزل وفكرة التوبة.ثم بعد عدة أبيات يصل الى مرماه بطريقة انسيابية ومتسلسلة:
أمْرتُك الخير لكن ما ائتمرت به وما اســـــتقمت فما قولى لك استقمِ
ولا تزودت قبل الموت نافلــةً ولم أصل سوى فرض ولم اصــــم
ظلمت سنة من أحيا الظلام إلـى أن اشتكت قدماه الضر مـــن ورم
وشدَّ من سغب أحشاءه وطوى تحت الحجارة كشحاً متـــــرف الأدم
وراودته الجبال الشم من ذهبٍ عن نفسه فأراها أيما شــــــــمم
يمكننا ملاحظة التعبير المنطقي الذي نقله نقلة طبيعية من المقدمة الى المديح وهو (ظلمت سنة من.....) فهذا تعبي منسجم مع ما سبق، مترتب عليه انطلاقا من فكرة الندم على ما فات.
أما شوقي فقد أوقعه غزله البارع في مشكلة التخلص منه الى المديح، ولنتأمل هذه الأبيات التي تبين حرج الشاعر في نقطة التخلص:
لَمأَغشَمَغناكِإِلافـيغُضـونِكِـرًى"
"مَغنـاكَأَبعَـدُلِلمُشتـاقِمِــنإِرَمِ |
يانَفسُدُنيـاكِتُخفـىكُـلَّمُبكِيَـةٍ"
"وَإِنبَدالَـكِمِنهـاحُسـنُمُبتَسَـمِ |
فُضّيبِتَقواكِفاهًـاكُلَّمـاضَحِكَـتْ"
"كَمـايَفُـضُّأَذىالرَقشـاءِبِالـثَـرَمِ |
ففي البت الأول من القطعة لم يجد شوقي سبيلا لإيقاف تدفق غزله الذي أطال به وشرّق وغرّب الا ان يحوله الى حلم، ومع انه اقف ذلك التدفق فهو لم يستطع الامساك بخيط المديح فجاء تخلصه عن طريق ذم الدنيا في البيت الثاني مبتورا فهو ينتقل فجأة من الغزل الى مخاطبة النفس ووعظها في بيان أحوال الدنيا وتقلباتها.
في الحقيقة نرى أن قصائد المعارضات لا تهدف الا الى إبراز مواهب الشاعر اللغوية ، ولهذا فان قصيدة المعارضة غالبا ما تكون بعيدة عن فلسفة القصيدة الأصل وما دراستنا لهذه المقدمة الا مثالا يصلح مدخلا لدراسة مطولة لبرهنة هذه الفكرة |