بعد روايته المثيرة للجدل «مصابيح أورشليم: رواية عن إدوارد سعيد»، أصدر الروائي العراقي علي بدر رواية إشكالية جديدة، ومثيرة للجدل أيضا، بعنوان «الركض وراء الذئاب» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2007). تتناول الرواية حياة مجموعة من الشيوعيين العراقيين الهاربين من قمع نظام صدام حسين أواخر السبعينات من القرن المنصرم إلى أفريقيا ومن ثم الالتحاق بالجيش الأممي الذي أسسه الضابط الأثيوبي الشاب منغستو هيلا مريام في أديس أبابا، وتدور أحداث الرواية في هذه المدينة الأفريقية. هكذا يواصل علي بدر مشروعاً روائياً يُراجع من خلاله جانب مهم من الثقافة السياسية العربية في شكل عام والعراقية في شكل خاص.
صيغة المشروع تغلب على كتابة علي بدر، ورواياته خاضعة لاستراتيجيات فكرية تقوم على مراجعة الثقافي والسياسي ونقدهما وفضحهما. وإن كانت السخرية السوداء والتهكم الفلسفي وروح الدعابة السريالية تغلب طاغية على روح علي بدر وأسلوبه، غير أنه يتمكن من التحليل الدقيق والنظرة العميقة والقدرة على الاستنتاج والحكم، وهو أمر واضح في معظم رواياته تقريباً، بدءاً من روايته الأولى «بابا سارتر».
تبدأ أحداث روايته الأخيرة « الركض وراء الذئاب» بعد سقوط نظام صدام حسين مباشرة، ومن مدينة نيويورك، حيث تكلف وكالة الصحافة الأجنبية في أميركا أحد مراسليها، وهو أميركي من أصل عراقي بكتابة تقرير مفصل أو ريبورتاج عن شيوعيين هاربين إلى أفريقيا أواخر السبعينات. ومن خلال السرد نتعرف على حياة هذا الصحافي الذي يقوم بمهمة سرد الأحداث، وبالبحث عن هؤلاء الشيوعيين الهاربين.
إنه صحافي أميركي مشهور ولامع، من أصل عراقي يبلغ من العمر الخامسة والأربعين من عمره، يعمل باسم مستعار محللا للأخبار في قسم الشرق الأوسط من الوكالة، سافر إلى أميركا في العشرينات من عمره للدراسة أولا، ثم تزوج من أميركية، وحصل على الجنسية الأميركية. كان في بداية حياته يسارياً، إلا أنه يتأثر شيئاً فشيئاً باليمين المحافظ، ويصبح من أتباع المفكر اليميني ليو شتراوس، ثم يبدأ مسيرة أخرى في الدفاع عن أفكار اليمين المحافظ مثل بول وولفوفيتز وريتشارد بيرل وفؤاد عجمي وكنعان مكية وسواهم، ويتوصل إلى هذه النتائج من خلال علاقته السرية مع عشيقته البولونية فيرسولوفا، التي يطلق عليها اسم فيفي.
بين هاتين الحياتين، العلنية مع زوجته وابنه وابنته، والسرية مع عشيقته، وبين تجاذبه وسط فكرين: الفكر اليساري القديم بعدالته والفكر اليميني بهيمنته وتقدمه، يبدأ هذا الصحافي بالبحث عن الوثائق والمعلومات والأخبار الصحافية التي تتناول حياة هؤلاء الثوار في العراق. وتتقدم الرواية في شكل بارع بالمزج بين خطين متوازيين: الأول يتناول المسيرة الفكرية لهذا الصحافي العراقي الذي يعيش في أميركا، والخط الثاني أثر حياته الجديدة في إعاقة تقدم فكره اليساري الذي جلبه من منطقة الشرق الأوسط، وإيمانه شيئاً فشيئاً بالفكر اليميني.
من كل المقابلات التي أجراها مع ثوار متقاعدين التقى بهم في أميركا وأوروبا، ومن كل الوثائق التي وصلته، أو التي حصل عليها من العراق، أو الوثائق التي حصل عليها من طريق الوكالة، هناك ثلاث شخصيات ركز عليها قبل الرحيل إلى أفريقيا: الشخصية الأولى هي الصحافي جبر سالم، وهو ثوري معروف، كان يعمل صحافياً بـ «القطعة»، جاء من الناصرية إلى بغداد في الستينات، وقطن في حجرة قذرة في البتاويين وسط العاصمة، وكل الوثائق تعرّف عنه بأنه ثوري نادر.
الشخصية الثانية هي أحمد سعيد: ثوري عقائدي، عاش طفولته وشبابه في بغداد، ثم التحق بالثورة الشيوعية في الأهوار، وشارك في حرب العصابات في الجبال أيضاً، ثم انتقل إلى بيروت بعد أن أطاح البعثيون بالثورة، ثم انتقل إلى أديس أبابا بعد صعود الضابط الشيوعي منغستو إلى السلطة في أثيوبيا. الشخصية الثالثة هي ميسون عبد الله التي أحبها أحمد سعيد ورافقته في مسيرته النضالية، من الأوكار الحزبية إلى حرب العصابات، وعرفت بمقاومتها الضارية للبعثيين في ذلك الوقت، وكسجينة سياسية عانت أكثر صنوف التعذيب شراسة ووحشية. ومن خلال هذه الرواية نتعرف على العمل الشاق في الحركة السرية الثورية في بغداد حيث كان يجلس الشيوعيون في مقهى البرلمان. وتتوالى الأحداث حتى يجمع هذا الصحفي أكبر قدر ممكن من المعلومات، وبعد ذلك يرحل إلى أفريقيا.
لا تتحرك الرواية فقط عبر الأحداث، إنما وسط التحليل السياسي والثقافي الاجتماعي لتحول فكر يساري، تروتسكي تحديداً إلى فكر يميني محافظ. فالبطل قادم من الشرق الأوسط، يعيش في نيويورك، متزوج من امرأة أميركية، يخونها مع مهاجرة بولونية، ولديه أولاد أميركيون لا يعرفون شيئاً عن الشرق الأوسط ومشكلاته، كان مؤمناً باليسار والحركات الثورية، ومتعاطفاً مع القضية الفلسطينية ومع الاستقلال، ويعمل في مؤسسة أميركية يملكها ميردوخ، أكبر كارتل صحافي في الغرب. هكذا تتوالى تناقضات هذه الشخصية، فهو يساري من الداخل لكنه مؤمن بالديمقراطية وبحقوق الإنسان مثل أكثر الغربيين، يميني في الوكالة ومنفتح مع عائلته جداً، لم يكن يوماً ضد الحداثة أو معادياً للغرب، ودرس في جامعة شيكاغو، حيث قرأ منظري المحافظين الجدد مثل ليو شتراوس ومايكل ليدن وغيرهم.
كان وصول البطل إلى أفريقيا عسيراً، فهو من جهة يجد في البحث عن الشيوعيين الهاربين من بغداد وبطش النظام السابق، ومن جهة أخرى يقع في قبضة صحافيين أفريقيين، لاليت وآدم، فيعرفانه على أفريقيا زمن انهيار الثورة، ويخضع لابتزازهما. نصل في هذا الفصل إلى مفهوم جديد تطرحه الرواية هو فكر ما بعد الثورة، أو الفكر الناقد للثورة بعد انهيار الثورة وسقوطها... مرض الشك الدائم. فهذا المرض ملازم للثوار، ما أن تصبح ثورياً حتى تصاب بهذه العدوى: الكل يتآمر ضدك. وحينما تكون لديك السلطة والسلاح والقوة، وكي تحافظ على نفسك ووجودك تعلن بداية قطع دابر المؤامرة (المصطلح الذي كان يستخدمه صدام ومنغستو لتصفية المعارضين)، هكذا تبدأ حملة تصفيات المنشقين - أو المشكوك في ولائهم - ومن ثم تتحقق أسطورة الثورة. الثورة مستمرة يعني أن الجريمة مستمرة بأبشع صورها. تصوّر الرواية دولاً كثيرة انهارت في هذا الشكل الكارثي لتعود أسوأ مما كانت عليه من قبل، تبتلي أولاً بالكولونيالية، ثم تأتي الثورة لتخلص الناس من نير الحكم الكولونيالي، لكن الثورة يقودها ديكتاتوريون يعيدون السياسة الكولونيالية في صورة أبشع من السابق، ثم تبدأ الانشقاقات وتجهض الثورة. ولكن الأمر لا ينتهي إلى هذا الحد بل تبتلي البلاد بالحروب الأهلية والفوضى. تصور الرواية أيضاً رطانة المثقفين في أوساطهم وأينما كانوا: مصطلحات الماركسية، البنيوية، السيميولوجي، آثار الصورة، ما بعد الكولونيالية. يعتقد الراوي أن المثقفين في كل مكان يجترون الكلمات ذاتها، وهم خليط بين عبودية وتحرر، مزيج بين ثقافة وكراهية، خليط بين تقليد أوروبي وتراث أفريقي فاضح.
تنتقل سوسينا المثقفة الماركسية الجميلة للعيش مع البطل في شقته، أما آدم فكان يلتقي به كل يوم تقريباً، غير أن صديقيه الأثيوبيين يخفيان كل المعلومات عنه ويتعمدان عرقلة اتصاله مع الشيوعيين الهاربين هناك. غير أنه وبالصدفة، يلتقي إحدى هذه الشخصيات، وهو جمال وحيد، في فندق «المسكال» في أديس أبابا. ويتعرف على حياته. كان جمال وحيد يعيش في بغداد السبعينات شيوعياً، ألقي عليه القبض بعد وصول صدام حسين إلى الحكم وشروعه في مذبحة الشيوعيين العام 1979، فيودع في السجن لمدة شهرين ويتعرض لتعذيب شديد. غير أنه يطلق سراحه بعد ذلك فيهرب إلى الاتحاد السوفياتي ويعمل في وكالة نوفوستي فترة، ثم يطرد ويلاحقه الشيوعيون أنفسهم إذ يتهم بالعمالة للاستخبارات العراقية، فيصل إلى أديس أبابا للعمل في مؤسسة أوروبية لحماية الحيوانات البرية، ولا سيما الذئاب.
كانت المعلومات التي استقاها من جمال وحيد سطحية ومعكوسة، ولكن في نهاية الرواية يتوصل القارئ شيئاً فشيئاً إلى حل لغز حياة جمال وحيد، ذلك أن خروجه من السجن كان لقاء وشايته برفاقه، غير أن هذا الاعتراف كلفه غالياً، لا عبر شكوك رفاقه به فقط، إنما جعله ضحية وسواس الاضطهاد القهري. وفي الليلة الأخيرة التي يعترف فيها للبطل بكل تفاصيل حياته، يعترف له أيضا أنه لا يعمل في مؤسسة أوروبية لحماية الحيوانات البرية، إنما في مؤسسة لمطاردة الذئاب في أفريقيا وقتلها وبيع جلودها، وما حماية الحيوانات البرية إلا غطاء لأعمالها. |