عندما وصل الشاعر الكبير أحمد الصافي النجفي بغداد لم يكن في مقدوره أن ينعم برؤيتها، إذ كان قد فقد بصره، فقال كلمته المعروفه: أسمع بغداد ولا أراها.
مشكلتي، هي اني أرى بغداد ولا أسمعها!! رغم اني لم أفقد بعد حاسة السمع، وبغداد التي أعنيها هي كل العراق، بنخله وزيتونه، بقبابه ومنائره وكنائسه وبيعاته، بطيبة أهله وعشقهم اللامحدود للأرض والحرية والعيون السود وريحة هلي.
- أرى الشيوخ والنساء والأطفال يعيشون بين مطرقة الإرهاب وسندان المزايدات الرخيصه، دون أن أسمع ما يفترض أن يكون هديرا مدويا يدين الإرهاب والإرهابين وعصابات القتلة والمجرمين. - أرى الناس في البصرة والكوفة والديوانية، في الرمادي وتكريت والموصل والنجف.......في كل العراق تقريبا، يعانون من زحف قوى الشر والظلام والهمجية التي تستهدف تكريس التخلف الحضاري والجمود الفكري وإقامة مجتمع الرق والعبودية وإلغاء إنسانية الإنسان، دون أن أسمع من يصيح بصوت عال: لا.
- أرى العراق بجنوبه وشماله، بشرقه وغربه، يتعرض لتامر إقليمي يستهدف تمزيقه وإغراق تجربته الوليدة في بناء المجتمع الديموقراطي الحر في بحر من الدماء والدموع، دون أن أسمع من يفضح هذا التامر والهجوم علنا، ويضع النقاط على الحروف جهارا نهارا.
- أرى التحالف الدولي وإداراته المختلفه، يتخبطون في تجريبية قاتله في التعامل مع الإرهاب المنظم، فيما المواطن الإعتيادي يبحث دون جدوى عن الأمن والإستقرار والعمل الشريف والخدمات التي لا وجود حقيقي لها، ولا أسمع من يدعو بصوت عال الى تسليم الأمور للأيدي والعقول العراقية القادره على معالجة الوضع الذي يزداد تدهورا، فاهل مكة أدرى بشعابها.
- أرى الجريمة تستفحل وعصاباتها المنظمه تتزايد وتولد في اللغة العراقيه كلمات جديدة غريبة عن المجتمع العراقي وأخلاقياته، كخطف الأطفال والنساء ورجال الأعمال، وتجارة المخدرات وتهريب السلاح ووزارة التحويلات المالية......الخ ولا أسمع صوت حسيب أو رقيب!!
- أرى قادة وسياسين وطنيين والى جانبهم اخرون ظهروا كالفطر السام بعد أمطار ربيع الحرية.... من اين وكيف ولماذا؟ لا أحد يعلم ولا من مجيب، مع أن هؤلاء يقررون أو يشاركون في تقرير مصير البلاد والعباد!!
- أرى قوى التخلف والتعصب والعودة بالانسان الى العصور الحجرية في موقع التصعيد والهجوم وتستغل كل الأحاسيس المرهفة النبيلة والرغبة اللامحدودة للتغير والتقدم لدى الاف الشباب ليكونوا ضد أنفسهم ومستقبلهم بالذات، في الوقت الذي تقف فيه القوى العلمانية والديموقراطية والمدافعه عن حقوق الأنسان وكرامته في موقع التهدئة والدفاع مكتوفة اليد أمام الكارثة التي توشك أن تحل بالقوى الإجتماعية الشابة في بلادنا والتي من المفترض إعدادها لقيادة حركة التغيير الديموقراطي وسبحان مغير الأحوال!!
صحيح اني أرى أيضا الأمل في العيون والإصرار في القسمات على المضي قدما نحو المستقبل الأفضل، إلا ان المعضلة الحقيقية تبقى، انني أرى الكثير ولا أسمع إلا النزر القليل: •لا أسمع عن جبهة وطنية حقيقية للقوى الديموقراطية والتقدمية وبرنامج عمل وطني شامل يعالج مشاكل البلاد •لا أسمع بكفاح وطني مشترك ضد التخلف والهمجية واللاعقلانية، يحرر الأنسان العراقي من القيود التي تكبل إرادته الحرة وتشوه تفكيره المتحضر •لا أسمع بحملات وطنية تفضح المتصيدين في الماء العكر وتقدم سارقي المال العام وثروات البلد الى المحاكم •لا أسمع عن وقفة جادة نابعة من أمجاد الحركة الوطنية العراقية تستعيد السيادة والإستقلال الحقيقي دون شروط وعوائق وقرارات هلامية نعم أرى بغداد ولا أسمعها و( الف رحمة ) على روح شاعرنا الكبير الصافي النجفي الذي كان يسمع بغداد ولا يراها. |