|
|
الرحيل الوردي |
|
|
|
|
تاريخ النشر
20/09/2007 06:00 AM
|
|
|
حين يرتحل بسام الوردي، فان رحيله يكون مختلفا ، فهو ليس كأي رحيل. بل هو رحيل الشمس الى مغيبها، ورحيل الورد إلى عطره ، ورحيل السيف إلى غمده : "منجردا كالسيف أتيت لا يبكي السيف ، ولكني في الغمد بكيت " هذا هو بسام الذي حمل إلينا التلفاز خبر رحيله يوم الثلاثاء 18 أيلول / سبتمبر 2007 عن 65 عاما كانت أيامها الأخيرة صراعا مريرا مع المرض ، وانتصارا عليه . فالجسد المسجى لابد أن يتمرد على العلة المستعصية ، ويرتحل نحو الشمس. ها هو يستعصى على الغمد ، وينطلق نحو الذاكرة ونحو الخلود. ها هو يأتي " منجردا " في وجه القبح والضغينة والظلام . بسام لم يكن مخرجا سينمائيا فحسب ، كما جاء في النعي الذي بثته أكثر من قناة فضائية عراقية ، بل كان شاعرا وإنسانا وعاشقا . وكان مناضلا صلبا في وجه الفاشية: "" ها يالغارق بدمك دشدّ تراب قبرك وارفع الراية " وحين تحول القاف إلى جيم معطشة ، كما في الدارجة العراقية ، فأن هذا المقطع من الشعر الشعبي العراقي يكون صرخة تؤرخ للنضال ضد الفاشية التي أغرقت البلاد بالدم في انقلاب 1963 الأسود ، ما زال صداها يتردد إلى الآن ، وأرض العراق ما زالت تحتضن كل يوم كوكبة من الشهداء ، ضحايا الغدر والدكتاتورية البغيضة وقوى الظلام . دعوني أعترف : ارتبطت ببسام الوردي في علاقة نَسَب ، الا أني وجدت فيه ، منذ أواسط ستينات القرن الماضي ، صديقا ورفيقا بدد ما كان عالقا أو شبه عالق في ذهني من ترسبات ذات منحى يساري غائم ومشوّه . عندها أدركت أن الشمس حمراء ، ليس في مغيبها فحسب ، بل حتى حين تتوارى خلف المدى . المدى الذي طالما تاق إليه بسام ، وأبدع له فيلما عن الفنان والقاص يحيى جواد . المدى الذي حلّقت فيه ، وتحت ظلاله ، طيور الفنان العراقي الخالد أرداش كاكافيان ، في فيلم وثائقي جميل لم يكتب له أن يشهد النور . وهذه حكاية لم يتضمنها خبر النعي. ففي زيارة له إلى بغداد ، في النصف الأول من سبعينات القرن الماضي ،زار بغداد الفنان أرداش كاكافيان ، بعد اغتراب طويل في فرنسا ، فلمعت في بال بسام فكرة إنتاج فيلم عن هذا الفنان لمصلحة المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون والسينما . وفعلا جندت الإمكانيات لهذا الإنتاج ، ووضع بسام السيناريو، وباشر في إخراج الفيلم . إلا أن المتغيرات في أجهزة إعلام السلطة وقتها ، والحقد الأعمى ، أجهض هذا المشروع الفني الكبير . ماذا يمكن أن أزيد ؟ الذاكرة محملة بكل ما هو جميل ووردي عن بسام . هل أسترجع بهاء وكبرياء هور الجبايش ونخيل أبي الخصيب ، حين شددنا معا الرحال إلى جنوب العراق ، في رحلة لإعادة اكتشاف الوطن والذات والحقيقة ؟ الوطن الذي كان يئن ويتطلع عبثا إلى مستقبل أفضل .. يومها كانت الشاحنات تأتي من كردستان محملة بأبطال ومناضلي الكرد " اليشمه ركه "في أوسع عملية تهجير إلى الجنوب ، حيث كانت المقابر الجماعية في انتظارهم ، بعد اتفاقية الجزائر التي وقعها الدكتاتور مع شاه إيران ، وعاد فمزقها ، ثم عاد وألصق قصاصاتها المتطايرة . وبين التوقيع والتمزيق والإعادة سالت جداول من دم لا يزال ينزف . نعم . شاهدنا الشاحنات المحملة ، لكننا لم نشاهد المقابر الجماعية إلا بعد حين . هل أسترجع القسم الثقافي في تلفزيون بغداد في السبعينات ؟ الذي كان يرأسه الناقد محمد مبارك ( وقد رحل عنا قبل أيام ) ، حيث كان بسام الوردي مخرجا أنجز العديد من المشاريع الثقافية والفنية الهامة ، بمشاركة العديد من الفنانين والمبدعين والأدباء التقدميين ، وكان من بينهم الشاعر حميد الخاقاني والمخرج المصري حسين حامد وآخرون . ومن بين تلك المشاريع البرنامج الثقافي " البرنامج الثاني " الذي كان يقدمه الشاعر صادق الصائغ ويخرجه بسام الوردي ، والذي كان يعنى بالثقافة التقدمية والإنسانية الرفيعة ، وكان أن تعرض إلى تبرم ومضايقات القيادة الدكتاتورية المتخلفة، بل وأحمد حسن البكر شخصيا، فأجهض هذا المشروع التنويري الواعد. أم هل أستحضر فرقة مسرح اليوم التي كان بسام الوردي من مؤسسيها ، إلى جانب الفنان الراحل جعفر علي وقاسم حول ومنذر حلمي وعلي فوزي وآخرين ؟ حيث كانت هذه الفرقة تشكل إلى جانب جارتها في" عمارة الأخوان " بشارع السعدون ، فرقة المسرح الشعبي ، دعامة راسخة للمسرح التقدمي الجاد . لنتأمل بعضا من عناوين أفلام ومسرحيات وقصائد بسام الوردي: فيلم " ليلة سفر " الذي تعرض للمنع طويلا .. وحصد جوائز هامة .فيلم حكاية للمدى .. مسرحية الصليب . ومن قصائده " مرثية إلى رشدي العامل " و " المفاتيح الأسئلة " وغيرها مما لم تجمع في ديوان شعري حسب علمي . الرحيل الوردي لبسام ليس دعوة للحزن والبكاء . وان كانت الدموع قد رسمت خريطة هذه الكلمات ومسارها . هذا الرحيل ، وهذه الكلمات : دعوة إلى الجميع لجمع تراث هذا الفنان الشامل والمناضل والمبدع ، في الشعر ( الشعبي والفصيح ) وفي المسرح والسينما ، وإشاعته بين الناس أمثولة للالتزام بقضاياهم ، وارتقاء بوعيهم الجمالي والإنساني الشامل. |
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ فراس عبد المجيد
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|