كانت جدتي لامي ( رحمها الله ) تعيش بمفردها بمنزل قريباً من منزلنا ، ومنذ طفولتي كنت أتطفل عليها وتضاحكني وتحكي لي حكايات عن ( السعلوا) وغيرها من حكايات الخيال، وحاولت مراراً أن أتطفل على اشيائها التي تحتفظ بها من الإبرة الى ( صرة صغيرة ) من قماش سيره ناعمة الملمس سمائية اللون ، كلما حاولت إن أضع يدي عليها تتحول حكاياتها ومزاحها الى غضب عارم وسرعان ماتزجرني وتحاول ضربي بكل شيء تطاله يدها ، واهرب منها وتنقطع علاقتها بي لدقائق معدودات ، بعدها أعود إليها فأجدها كما عرفتها منذ إن رائيتها أول مرة في حياتي ولااتذكر متى كان ذلك لكنها كانت ممتلئة بالحيوية والنشاط ودائبة الصلاة تصلي الفرض في وقته ، ومرت بي الأيام والسنين ومازال فضولي يدفعني الي معرفة ماتخبئه جدتي في تلك( ألصره ) التي تخشى عليها من كل شيء ، حيث تزيل عنها الغبار بين فترة وأخرى دون إن تفتحها ، الى إن حدث أمرا لم يكن بالحسبان حين توفى شقيق والدي الوحيد بصورة مفاجئة كان زوجاً لخالتي ، كنت أتذكر ذلك جيدا عندما ذهبت إليها والدتي لتخبرها بموت عمي بعد منتصف الليل وبدل البكاء تحول الأمر الي جدال عقيم اختلط مع بعض عبارات الأسف والإصرار على عدم التفريط بماذا لااعرف إلا إن انجلى الموقف وأخرجت جدتي ( صرتها السمائية ) ودفعتها الى أمي وبكت وكنت أظن أنها بكت على عمي لكن الأمر ليس كذلك ، أنها تبكي على الصرة ، خرجت والدتي مسرعة وتبعتها ممسكاً بأذيالها وتبعتنا جدتي يبطئها المعهود الاان وصلنا بيتنا بعد بضع دقائق رأيت الدار قد ملئت بالجيران حيث لااقارب لنا في تلك المدينة البعيدة عن أهلنا الذين يقطنون في اهوارالجنوب وبالتحديد في مدينة العمارة وأبي وأمي وأخيه المرحوم وخالتي وجدتي هم الذين فارقوا اهلهم و سكنوا جنباً الي جنب في مدينة الموصل لأسباب تخص وظيفة والدي حيث ولدت انا وإخوتي الباقين هناك ، وصلنا دارنا وللناس دوي لكون الجميع قد ذهلوا بتلك الميتة المفاجئة ، وجسد مسجى وسط باحة الدار وبعد إن تم تغسيله تناول ( الملا ) الصرة وفتحها وقد فتح معها لغزاً حيرني لفترة من الزمن ، اخرج منها قطعة قماش طويلة في لونها سمرة تطغي على بياضها وعرفت فيما بعد بأنها ( الكفن ) وبعد إن كبرت وكبر احترام جدتي لي سألتها لماذا الإنسان يهيئ كفنه وهو حي وقد يكون أمامه سنين طوال يعيشها فحدثتني أنها خسرت كفناً غاليا على قلبها لأنها جلبته بعد إن ذهبت لزيارة ولي من أولياء الله الصالحين في أرضه إلا وهو الأمام ( علي بن موسى الرضا علية السلام ) في ايران ، وذلك الكفن مبارك لأنه طاف معها الضريح وأصبح قماشاً طاهراً وأردفت بأنه ليس خسارة في عمك رحمه الله ، وقدر لها الله سبحانه وتعالى إن تذهب الي بيته الحرام في احد مواسم الحج وقد علمت أنها جلبت معها ( كفنين) لها ولوالدي من القماش الأبيض لأسمرة فيهما واعتقد أنها لأتعرف بأنهما مبروكان أكثر من الكفن الأول لأنهما لامسا جدران الكعبة المشرفة ، واحتفظت به وحافظت عليه هذه المرة بطريقة أكثر امناً من( الصره ) بعد إن أشترت لها صندوق من حديد بإمكانها إن تضع له قفلا لكي لايعبث به أخوتي الصغار بعد إن سكنت مع عيال عمي وابنتها الثكلى وشاركتهم في غرفتهم الصغيرة وساعدتهم كثيراً حيث أنفقت عليهم من مالها
الخاص الذي جنته من ربح التجارة ( بالعباءات والفوط النسائية ) التي تذهب بين فترة وأخرى الي بغداد لزيارة بقية بناتها هناك وتشتري موادها من الكاظميه وتعود بهما الي الموصل في نفس القطار الذي كانت مقاعده من الخشب ، لشحة تلك المواد هنا في الموصل باستثناء المواد التي كانت تأتي من سوريا ولا يرغبها الناس لكونها غالية الثمن، واستمر الحال وطورت جدتي تجارتها بحيث إضافة أليها ( الذهب والفضة )التي أصبحت تبيعهما الي ( معامليها) بالأجل وبالتقسيط المريح وأصبح الإقبال شديدا على سلعها وأصبحت تذهب شهريا الي بغداد وتعود على جناح
السرعة لتصريف بضاعتها ، إلا إن ذهبت مرة ولم تعد ألينا حيث فارقت الحياة لإصابتها
بتمزق حاد باحدى الركبتين على اثر سقوطها على الأرض من جراء انزلاقها بـ ( قشرة موز ) وبعد اقل من شهرين توفيت بالسرطان الذي سرعان منتشر في جسمها ودفنت في النجف الاشرف بعد إن غسلت و( كفنت ) هناك وتركت كفنها المبارك داخل الصندوق الحديدي في الموصل والذي ورثه عنها والدي ( أطال الله في عمره ) ، وبعد إن أحيل على التقاعد انتقلت الأسرة الي بغداد ومعها الكفن طبعاً وأصبح الكفن أكفان بعد إن ذهبا الوالدان الي بيت الله الحرام ولم ترضى أمي إن يخصص لها كفن لأنها كانت تتشاءم منه وتخاف من الموت ،وكانت حصتي كفناً ابيضاً مباركا ، ومرت السنين واكتشف والدي إن كفن جدتي لم يعد (صالحاً ) للاستخدام لكون (الصراصر ) قد عاثت به تمزيقاً وتقطيعاً وأحدثت فيه ثقوبا يلج منها الجمل واستخدم لإغراض أخرى لااتذكرها بالضبط ، أما انا فأحتفظت بكفني لأنني كجدتي أؤمن بان الموت حق وانه سيقدم في يوم من الأيام وينال مني ولامناص من ذلك وسوف لن أثقل على أولادي بشراء كفن جديد لي عند مماتي تضاف الي مصاريف العزاء اللذين سيتحملون أعبائها بعد رحيلي عنهم ،وبعد حين اقتنعت وأقنعت نفسي بعدم جدوى الاحتفاظ بالكفن لان الموت في العراق قد تغير وأصبح له لون وطعم غير الذي كنا نعرفه من مراسيم التغسيل والتكفين ووضع السدر والكافور في أماكن متفرقة من جسم الميت بل إن اغلب الذين أصبحوا يموتون يوميا تتناثر أجسادهم أشلاء مبعثرة في الهواء ويحتاجون الى ( أكياس النايلون ) لا الى أكفان مباركه بيضاء كانت أم سمراء ومنهم من ذهب ضحية الانفجارات العنيفة دون إن يجبر أهله على شراء حتى كيس النايلون رحم الله من مات ولم يثقل على أهله في ثمن الكفن المحلي أو المبارك إنه كرم بعد الرحيل وعسى إن يجد فيه حسنات ويكون في مصاف الأولاد الذين تربوا على حسن الأخلاق . وعلية قررت أن أبيع كفني حتى ولو بنصف ثمن الشراء واشتري بدلا عنه أكياسا من النايلون من باب ( الاحتياط واجب ) عسى وان يتبقى من جسدي أشلاء تجمع بتلك الأكياس بدلاً من إن أكون طعاما للكلاب السائبة التي أصبحت تنتظر صوت الانفجارات وتهرع الي المكان وتنتظر الى إن يتم الأخلاء لتتناول وجبتها الدسمة من ماتبقى من أجساد البشر الابرياء0 |