ضمن نشاطات اتحاد الأدباء والكتاب السنوي في نينوى 400 كيلومتر شمال بغداد القى الشاعر والأديب الدكتور احمد جارالله الاستاذ في كلية الآداب بجامعة الموصل محاضرته التي تمحورت حول موضوع (المهمّش في الادب العربي) بحضور جمهور من الأدباء والمثقفين في المدينة. استهل الجلسة الشاعر عمر عناز بالتعريف بالمحاضر وبمقدمة للدخول في الموضوع ثم بدأ الدكتور احمد حديثه عن ظاهرة التهميش حيث قال هي محاولة توصيف لظاهرة بارزة في الادب العربي الحديث، ظاهرة تشكل علامة من عدة أجناس عربية في الشعر والقصة والرواية، وما أحاول ان اطرحه في هذه المحاضرة بشكل موجز عن مشروع كبير حاولت ان ابحث في هذه الظاهرة في عدة نماذج ونصوص ومن زوايا كثيرة، اعني هو مشروع لم يكتمل وربما في هذه المحاضرة والاسئلة التي ستوجه والملاحظات ستساعدني في اكمال هذا المشروع.
طريقتان للقراءة
بدايةً أقول او اطرح وجهة نظر ربما لا يوافقني الكثير عليها وهي ان العالم من هذه الزاوية عبارة عن نص ويمكن قراءة هذا النص بما فيه من علامات بطريقتين الاولى هي الطريقة التي يقرأ فيها المبدع أياً كان في الشعر او القصة او الرواية في هذا العالم هذا النص من خلال علاماته الكبرى او ما تسمى بالمتون الكبرى وهناك قراءة اخرى يقرأ فيها المبدع هذا العالم من خلال علامات صغرى او ما يمكن ان اسميها بالعلامات المهمشة، اذن لدينا قراءتان قراءة تعتني بالعلامات الكبرى وقراءة تعتني بالعلامات المهمشة. هذه القراءات تحاول الوصول الى معنى معين او توصيل مضمون معين عميق لهذه العلامات المقروءة في نص العالم. واضاف هناك اتجاه نقدي يرى ان النص يتجاوز ما هو مكتوب ليعتبر كل ما في العالم او العالم باكمله عبارة عن نص فيه علامات، هذه القراءة او هذا المشروع يتبنى وجهة النظر هذه، فالنوع الاول يتجه الى قراءة العالم من خلال علاماته الصغرى او ما يمكن ان نسميها بالعلامات المهمشة فيه وهي قراءة لذة وافتنان بتلك العلامات على الرغم من التهميش الذي تتعرض له، قراءة شوق للتعرف على أسرار العالم ودلالاته وخفاياه الجمالية عبر شفافيات ما هو مهمش فيه وصولا من خلالها الى الدلالات الاعمق الكامنة فيه. اما النوع الثاني من قراءة نص العالم وهي قراءة الأديب لنص العالم، هذه القراءة سيعبر عنها فيما بعد من خلال منجزه الأدبي أياً كان، النوع الثاني هو الذي يتجه الى العلامات الكبرى او ما يمكن ان نسميه بعلامات المتن الواضحة البارزة وهي قراءة غالبا ما تكون سطحية. المهمّش دخل الى الادب من خلال القراءة الاولى التي لا يبحث فيها المبدع عن علامات المتون الكبرى كي يكتب نصه الأدبي فالحرب والحب والموت موضوعات ومتون رئيسية في صفحة الحياة، والمبدع يكتب عن مثل هذه الموضوعات وهو من النوع الثاني الذي يتبنى المهمش لكن ليس مباشرة بل من خلال علاماتها الصغرى وهنا استعين بالامثلة فالحرب موضوع بامكان المبدع ان يكتب عنها شعراً او قصة او رواية من خلال قصة شهيد قتل في معركة ويتناول الحرب من خلال هذا الشهيد وعائلته وما ترك وراءه من اسرة ومأساة وهناك من يكتب عن هذه الحرب من خلال خوذة هذا البطل او من خلال رصاصة او من خلال شظية عابرة وهكذا هناك كثير من النصوص. فعدنان الصائغ وهو شاعر عراقي كتب ديوان سماه (في خوذة) تناول فيه الحرب العراقية الايرانية بعد ان تموضع في خوذة جندي عراقي، ومثال آخر الشاعر صالح مجيد شاعر عراقي كتب قصيدة بعنوان (سيرة ضرس) تموضع في نفسه ومن خلال هذا التموضع نظر الى العالم وتكلم عن وضع العراق، تكلم عن ما يدور في العراق وقال في احد المقاطع انه لم يعد يهتم بمن سيكون رئيساً للبلاد وانما يهتم بما يحدث في ضرسه وهناك معاني اعمق وراء هذه الكلمات، اذن تناول ما يحدث في العراق من خلال ما هو مهمش. نزار قباني مثلاً كتب قصائد الحب ليس من خلال قصائد كبرى تخص علاقته بهذه المرأة او تلك، فراق او لقاء او موعد وانما من خلال ما هو مهمش فاستعمل كلمات طوق ياسمين، مشط، فستان، غبار، حقيبة، اذ تناول موضوع الحب من خلال ماهو بسيط جداً. الشاعر محمد الماغوط مثلاً آخر يشكل الافادة من المهمش منهج لديه في كتابة القصيدة فهو ينظر من خلال ماهو مهمش الى ماهو جوهري في نص العالم ويكاد ذلك يشكل منهجاً فكرياً ونفسياً لديه يتجسد في صور كثيرة تحمل أماني متواضعة بسيطة تتضمن مفردات واوصاف تحيل القارىء الى العناصر المهمشة في فضاء الواقع فيقول مثلاً: (اريد ان ارحل هكذا فقيراً وكسولاً)، لاحظ الفرق بين ما يقوله محمد الماغوط وما كان يقوله المتنبي مثلاً، هل كان المتنبي يرضى ان يكون مهمشاً او ان يرحل هكذا فقيراً وكسولاً! الجواب لا، بل معظم الشعراء القدامى كانوا يرسمون صورة لهم، صورة الفارس البطل الذي يكون في الواجهة في متن الحياة، لا يرضى ان يكون مهمشاً، ويقول الماغوط ايضاً (اريد ان اكون ماذا)، هل يريد ان يكون فارساً كعنترة او بطلاً او مدّاحاً كبيراً، يقول الماغوط (اريد ان اكون سمكة في مستنقع بعيد)، شيء مهمش في الحياة ولكن وراء هذا الكلام دلالات، مثال آخر للماغوط (آه كم أتمنى ان اكون في هذه اللحظة محموماً في قرية بعيدة)، حيث نلتقط هذه الظاهرة في مقطع آخر فيقول الماغوط مثلاً (اريد ان اكون حصاة ملونة على الرصيف)، اذ بطل الماغوط صورة الانسان المهمش المحبط سياسياً وتاريخياً في العالم العربي يقول ايضاً (لا نريد قمحاً ولا رايات) أي لا يريد القمح وهو رمز الحياة، القمح من متن الحياة وليس من أشياءها المهمشة، عنصر ضروري لبقاء الانسان بكل دلالاته العميقة ولا يريد رايات وهي رمز الانتصارات الوهمية وهذه من علامات المتن المزيف الذي يظهره الاعلام العربي فيقول ايضاً (نريد فقط ان نموت في قرانا البعيدة، ان تبعثرنا الريح فوق قرانا البعيدة كالرسائل الممزقة) يريد الماغوط هنا السخرية، لا يريد ان يكون مهمشاً ولا يريد ذلك لاي انسان او مواطن في هذه البلاد العربية لكنه من باب السخرية يقول ذلك. لو انتقلنا مثلاً الى قصيدة اخرى، فانا والكلام للدكتور جارالله اركز على الأمثلة ولا اريد ان أطيل في الكلام النظري وانما في الأمثلة. الشاعر البارودي كتب قصيدة عن زوجته حين توفت وهو في المنفى وكانت اكثر من زوجة هي حبيبة ايضاً، والمعروف عن البارودي انه شاعر عمودي واسهم في نهضة الشعر الحديث كما هو معروف، ويوسف الصائغ ايضاً لديه قصيدة تتحدث عن زوجته التي توفت في حادث وهم في طريق السفر الى تركيا وايضا لم تكن مجرد زوجة بل حبيبة، اذن الموضوع واحد هو (موت الزوجة)، كيف عبر الشاعران عن هذا الموضوع! البارودي قرأ هذا الموضوع في نص الحياة من خلال المتن ومن خلال العلامات الكبرى للموت، الدموع، البكاء فقال مثلاً: (لا لوعتي تدع الفؤاد ولايدي تقوى على رد الحبيب الغادي، يادهر فيم فجعتني بحليلة كانت خلاصة عدتي وعتادي)، هنا يفهم القارىء ان زوجة الشاعر توفت والشاعر يبكي عليها، اذن قراءة واضحة تكاد تكون سطحية، والشاعر يكمل ويقول (ان كنت لم ترحم ظنايا من بعدها فما رحمت من الاسى أولادي، افردتهن فلم ينمن توجعاً قرح العيون رواجف الأكباد)، اذن البارودي يقرأ الموضوع من خلال علاماته الكبرى، الاولاد الباكين، الدموع، ما تركته هذه الزوجة وراءها...، حتى تكون الصورة واضحة في البيت الشعري.
نأتي الى شعر يوسف الصائغ في العصر الحديث نجد ايضا لديه عنوان (موت الزوجة) فكيف قرأ يوسف الصائغ هذا الموضوع! هل تناوله من علاماته الكبرى! وماذا فعل الصائغ! قصيدة الصائغ بعنوان (لماذا) يقول فيها: (عادة انت تستيقظين مبكرة، وحين تقومين عارية من فراشك، اخمّن في حلمي انه الفجر، افتح عيني، تأتي الى يقظتي نكهة الماء، والبلد الانثوي الجميل، وأنت تعودين قبلي الى البيت، اعرف انك عدت، فالنوافذ مشرعة والحديقة مسقية، والزهور على المائدة، وكنا ننام سوية، مرة نمت قبلي.. لماذا!). وهنا يسأل المحاضر هل رأينا موتاً في القصيدة؟ يجيب كلا، فكل ما في القصيدة يدل على الحياة، وامور مهمشة، امور عادية ربما لاننتبه اليها ولكننا نقوم بها يومياً، اذن يستدرك جارالله فيقول القصيدة ربما تكون مؤلمة للقارىء بحيث تجعله يشعر بالألم، ألم فقدان هذه الزوجة الحبيبة، لان الشاعر وضع القارىء امام الموت من زاوية الحياة، حيث ان الشاعر استخدم أفعال تدل على الحياة، الذهاب، الحضور، النوافذ المفتوحة، الحديقة مسقية، لكنه أراد من القارىء ان يبصّر الموت من خلال نافذة الحياة. اذن يقول جارالله هناك اختلاف كبير بين القصيدتين فانا أرى قصيدة الصائغ اكثر تأثيراً فيّ من البارودي، فالبارودي سلبني كقارئ متعة اكتشاف ما الذي يحدث في هذه القصيدة، فاعرف من بداية القصيدة ان زوجة البارودي توفت لان هناك أطفال يبكون، اما يوسف الصائغ فانه يخدعني، خدعة جميلة، خدعة شعرية يقدم لي صور للحياة لكنه يريد في النهاية ان يوحي لي ان كل هذه الحياة غابت في لحظة من خلال الايحاء في نهاية القصيدة (كنا ننام سوية، مرة نمت قبلي، لماذا؟) لانها ماتت، حتى الصورة المجازية ربما لاتوجد في القصيدة لكن بهذا المقطع مع السطور التي سبقته استطيع والكلام لاحمد ان اكتشف لذة واكتشاف الموت في هذه القصيدة. واستنتج جارالله ان هكذا هي قراءة ما هو مهمش في الشعر.
المهمش في الرواية
انتقل بعدها المحاضر الى موضوع المهمش في الرواية فقال ان المهمش يتجلى في الرواية في الكثير من الشخصيات التي تمثل أبطال تلك الروايات، فالشخصية الروائية هي عنصر من العناصر الرئيسية في الرواية وربما تتمحور حولها الكثير من عناصر الحدث الزمان والمكان، فالمفارقة في هذا النوع من الروايات الذي حاولت ان ارصده في هذه المحاضرة، ان هذا الاهتمام بالشخصية في هذه الروايات لايحدث من اجل ابراز الاوضاع الايجابية التي تمر بها الشخصية من حيث كونها وكما يفترض الحاضن المثالي لابراز قيمة الانسان، واضاف الدكتور انا لم ابحث في روايات تحاول ان تبرز الانسان الشخصية في الرواية بوصفها عنصر ايجابي في الحياة وانما هذه الروايات تعمل على ابراز العوامل السلبية التي تقف ضد تحقيق تلك القيمة الانسانية للشخصية وتعرقل الوصول اليها ومن ثم تهمش فاعلية الانسان، فكثير من الروائيين العرب حاول رسم الصورة المناضلة وربما الصورة المهزومة للانسان العربي المهمش في لحظة اشتباكه مع القوى المضادة له التي خطفت متون الحياة منه، وهي صورة فنية تقارب الى حد كبير الصورة المرجعية الواقعية في كثير من النماذج الانسانية الحقيقية في الحياة، صورة لاتجامل أي ثقافة على حساب مصداقيتها فهي تعرض الانسان في لحظات ضعفه ويأسه وانكساره وبتعبير آخر صورة ترسم انسانية الانسان حين تتعرض للشطب او التاجيل او الكبت او ذلك كله معاً. وهناك روايات عربية تعمدت ازالة الستار عن بعض المسائل التي تهمش الانسان فلم يعد مجديا من وجهة نظر هذه الروايات ان تمجّد قيم مثالية تكاد تتلاشى في ارض الواقع، او تدعو بوعظية خطابية الى التشبث بقيم انسانية تسحق او تستلب، فالرواية التي اقصدها هي التي تعري العوامل المضادة لانسانية الانسان، لقد اصبحت العديد من النماذج البشرية في الازمنة الحديثة متفرجة على ما يجري لها غير مشاركة فيه وان اشتركت فانها ستعطى دور الضحية المهمشة، صفة المهمش في هذه الروايات تشترك فيها نماذج انسانية كثيرة لكن من اجل التفصيل والدقة في رصد مواصفات هذه الشخصية المهمشة في الرواية أستعين بعناوين فرعية فمثلاً اسمي والكلام لجارالله الشخصية المهمشة في رواية ما بانسان (الصرخة) وفي رواية اخرى (الانسان المؤجل) وفي اخرى (الانسان الرقم) وفي اخرى (الانسان المنقرض)، وكنموذج من هذه الروايات (الانسان الصرخة) ويضيف اعني نموذج الانسان المهمش في الرواية العربية، أستل والكلام للمحاضر هذا العنوان من مقولة لرواية عبد الرحمن منيف على غلاف روايته (شرق المتوسط) اذ يقول ان هذه الرواية تحاول ان تكون صرخة في جو من الصمت تنبيها ففي الوقت الذي تبدو في الافق غيوم سوداء كثيرة زاحفة لعل شيء يحدث قبل ان يدمر انسان هذه المنطقة ويصبح مشوهاً ولا يمكن انقاذه. فرواية شرق المتوسط تصور نموذجا انسانياً يتوالد بكثرة في المجتمع العربي بفعل قسوة السياسات القمعية المستمرة التي تمارسها اغلب الانظمة العربية تجاه هذا الكائن الذي لا تعبير له عن معاناته سوى الصراخ الماً او احتجاجاً او رفضاً، محاولة منه في الأقل الاشارة الى وجوده الذي يتعرض الى التهميش لعل المفارقة تكمن في ان هذه الصرخة لا يقررها فكر الانسان انما يقررها جسده المعذب الذي تحول الى ساحة للمعركة تمارس فيه القوى المتسلطة عليه شتى أنواع أسلحتها الرهيبة، واضاف المحاضر ان في رواية الصرخة مثلا تحكي عن الانسان السجين الذي يتعرض للتهميش جسدياً وفكريا وحتى قولياً حتى يتحول الى اشبه ما يكون بحيوان وعلى لسان بطل الرواية اذ يقول (أصبحنا نحن السجناء اشبه بفئران) اما النموذج الآخر من الانسان المهمش في الرواية العربية أسميه بالانسان (المؤجل) ويضيف المحاضر ان كتّاب الروايات لم يعد يتناولون في الرواية العربية البطل العاشق او القائد التاريخي مثل ما فعل بعض كتاب الرواية يتناول شخصية تاريخية بارزة ويكتب عنها رواية او يتناول شخصية عاشقة ويكتب عنها رواية او شخصية اجتماعية مرموقة او سياسية، هذه الروايات تتناول الانسان المهمش، الانسان السجين، الانسان المعتوه، الانسان المتسول المتشرد،فمثلا (الانسان المؤجل) في رواية شرق المتوسط ترسم صورة لهذا الانسان، فما الذي اعنيه بهذا الانسان؟ هو شخصية السجين يتجلى فيها الانسان مؤجلاً عن تحقيق ذاته بسبب انشغاله في تحقيق ذات السلطة التي تحكمه وتشغله بذاتها الطاغية وفي سبيل ذلك فان السلطة تستهلك سنوات طويلة من حياة ذلك الانسان ومن حياة جيل باكمله، الانسان بهذه الصورة يبقى مؤجلاً عن تحقيق وجوده الخاص ومغيباً بنحو مقصود وبالنهاية فانه يستسلم لهذا الوضع المزيف المصنوع بايدي خفية والمعلنة للسلطة، لقد اصبح المؤجلون حجراً هامشياً في البناء الضخم الذي تشكلت بواسطته اهرامات السلطة التي حققت ذاتها الجشعة وما تزال تسعى نحو المزيد ولم تنتظر تأجيل اهدافها الأنانية وفي ظل أنظمة مثل هذه فان على الانسان ان يؤجل أهدافه وأحلامه وكل شيء، ومثال على ذلك رواية (المصابيح الزرق) للأديب حنا مينا يقول على لسان المختار في المنطقة والمختار هنا رمز للسلطة، كيف تؤجل السلطة الانسان عن تحقيق وجوده بكل تفاصيله بدءاً من رغبته بالطعام من اجل تحقيق ذاته، يقول المختار(كانت الحرب خير فرصة جاءت بعد انتظار ومنذ اليوم الاول صارحهم برأيه فيها وقال الظروف استثنائية وظل بعد ذلك يردد هذا الكلام خمس سنوات حتى حفظها الناس عنه واصبحوا اذا رأوه مقبلاً قالوا الظروف استثنائية، وكلما طالبوا المختار بشيء قال الظروف استثنائية واذا رأوه مدبراً قالوا الظروف استثنائية)، وكانت هذه الظروف استثنائية تعني كل ما يهمش الانسان، السكوت عن الغلاء، البطالة، فقدان الخبز والمشتقات النفطية وتعسف الحاكم وظلم المستشار، اما السكوت فكان امراً مهماً بالنسبة اليه هو ان يعرف بان المختار وجه سلطة تجاه الشعب في القرية والمدينة خاصة في القرية فاذا سكت الناس ارتاح هو، واذا سأله الناس ماذا تعني بالظروف الاستثنائية (ابتسم مشرقاً على غباوته وقال: العمى ألا ترى الحرب) ويقول الراوي (ان المختار حاول ان يطبق قاعدته الاستثنائية على كل الأشياء وهكذا فان الانسان في رواية (المصابيح الزرق) يبدو مهمشاً مؤجلاً عن تحقيق وجوده في مقابل تحقيق السلطة لوجودها من خلال الحرب او أي امور اخرى. ولدينا كما قال المحاضر الانسان المنقطع والانسان الرقم الذي هو مهمش بفعل العمل الروتيني في الوظيفة كما نجد ذلك في رواية (البحث عن وليد مسعود) يقول بطل الرواية (لقد اكتشفت ان الوظيفة بالنسبة لي مضيعة للوقت فضلاً عن انها مهانة للانسان في معظم الاحيان وجدت انها العبودية الجديدة استرقاق منظم منذ ايام البابليين والفراعنة) ويستمر في انتقاده للوظيفة التي تهمش وجوده الذي يريد تحقيقه، اما الانسان المنقطع الانسان المهمش في الرواية العربية فيختلف فهو الذي اختار التهميش في متن الحياة. ربما مثل ما نجد ذلك في رواية (ممر الى الليل) للقاصة ابتسام عبدالله حيث بطل الرواية فنان اختار العزلة عن الآخرين لانه رأى الحياة عبارة عن مزبلة بشرية فاختار ان يكون مهمشاً في متن الحياة وان لا يظهر في الواجهة وهناك امثلة في القصة القصيرة جداً ايضاً لاسيما من القاص الموصلي (انور عبد العزيز) لو جئنا الى قصصه سنرى المهمشين ابطالاً لقصصه، اذ نجد في مجموعته القصصية خاصة في مجموعته القصصية (طائر الماء) ابطال هذه المجموعة ليس لهم أي امجاد في الماضي ولا يتوقع لهم فيما تبقى لهم من الحياة ان يحققوا شيئاً ذا قيمة في المستقبل الحاضر وهم المهمشون في لحظة الحاضر انهم أشخاص عاديون جداً يمكن ان نلتقي بهم في الاماكن العامة في الحافلات والشوارع والاسواق والمقاهي لا مشاكل لديهم سوى انهم كهول كبار في السن يحملون آثار الشيخوخة وخدوشها على مظهرهم الخارجي وفي اعماق نفوسهم الواهنة لقد طردتهم الحياة من متنها وأقصتهم نحو الهامش الذي لايرغب الآخرون بالاقتراب منه حتى لو كانوا أولادهم، انهم عاطلون عن الحياة بمقاييسها المادية لكنهم ليسوا عاطلين عن الألم العميق والعذاب والشجن حتى حين يتعطل وعيهم فالبطل المجنون في قصة (لاعب منفرد)، او تتعطل حواسهم كالأصم في قصة (حكاية امرأة) او يتعطل احساس الآخرين بهم. فالانسان الذي يلعب دور البطولة في قصص (انور عبد العزيز) هو ذلك الشخص المهمش الذي يعد فائضاً على لحظة الحاضر زائداً على العدد المطلوب لتشغيل الاماكن السريعة لاحداث الحياة التي بامكانها ان تسحقه ان توقف أمامها لكنه في النهاية يبقى مجرد مهمش لا يعني شيئا للآخرين.
وذكر المحاضر ان واجهة الحياة يحتلها الابطال المزيفون ومن وجهة نظره فان الادب الذي يبحث عنه في هذه المحاضرة هو الادب الذي يريد ان يجعل من المهمشين ابطالاً للاحياء لانه هؤلاء هم الذين يصنعون الحياة الحقيقية حسب رأيه فبائع متجول في الطريق يراه المحاضر هو الذي يصنع الحياة الحقيقية وليس النجوم المشهورين الذين يظهرون في الفضائيات من ساسة وفنانين، هؤلاء المهمشون هم على الرغم من انهم يبدون من المهمشين لكنهم حقيقة هم ابطال المتن.
مشروع لم يكتمل
واوجز المحاضر كلامه في نهاية المحاضرة قائلاً: ان المهمش صفة تنطبق على عدة اشياء ليست محصورة بالانسان، اشياء بسيطة مثلما نقرأ شعر نزار قباني يكتب اجمل القصائد منطلقاً من اشياء مهمشة في الحياة وهذا التهميش موجود في القصة والرواية، واعتماداً على الرؤيا التي طرحها المحاضر في البداية استنتج ان الحياة عبارة عن نص فيه علامات، فالمبدع امامه ان يختار اما العلامة الكبرى او العلامة الصغرى، والشاعر الحديث الآن لايبحث عن هذه الواجهة مثل الماغوط وغيره فاذن المهمش وصف لظاهرة موجودة في عدة أجناس أدبية وربما كما قال المحاضر موجودة حتى في الرسم، وتبقى هذه المحاضرة عبارة عن مشروع لم يكتمل.
وفي نهاية المحاضرة طرحت عدة تساؤلات كما عقّب بعض الحاضرين من الأدباء والشعراء حول طبيعة هذا المهمش في الواقع. |