مـثـالب الـمسـتبصـريـن رجال دين وكتاب سُــنَّة تحولوا إلى التشيّع ولُقبوا بالمستبصرين
مثالب المستبصرين هم كما ستعلم المتحولون من التسنن إلى التشيّع في أعقاب الثورة الإسلامية في إيران، ممن شكلوا ظاهرة إعلامية أكثر منها فقهية، باستثناء نفر دفعته قناعاته السياسية، والوجدانية، إلى التحول نحو التشيّع أمثال السيد علي البدري المستشيّع قبل الثورة الإيرانية بسنوات، والسيد صائب عبد الحميد، الذي انفجرت مواهبه الفكرية والذهنية بعد استشيّاعه، وهو مهموم بدرء الأذى الذي أوقعه بعض الفقهاء المسلمين بسمعة التشيّع وسلامة قصده، في سياق المناظرات والمراجعات، والتصويبات، بلغة المحاور الإسلامي وليس الداعية، وكلاهما من العراق، ولابد أن آخرين كانوا من الصنف المعتدل. أما عامة المستبصرين المندرجين في موسوعة الشيخ هشام آل قطيط، وتقع في أكثر من ثلاثة ألاف صفحة، لاسيما من أسرع في " استبصاره " ودبَّج الكتب والمذكرات، فهم يتفقون على ما اتفق عليه روزخونية المنابر في الدرجة الرابعة، من عناية واهتمام وشراسة ورغبة في استجماع روايات وأساطير لإنتاج المثالب وصبها على عمر بن الخطاب أولاً، وكأنهم حلقة حزبية توزع عليها التعاميم والتعاليم والتوجيهات، فينطق أعضاؤها بمفردة واحدة، وعلى نهج واحد، يتكرر ويتكور ويدور عليهم مثلما تدور الأقداح على الأفواه في مجالس الشراب، فيخيل إليك أن صاحب المجلس هو المجلسي. وأن الساقي واحد والشراب المعتق في دنِّ الشاعر الباكستاني محمد إقبال، لكن خمرة إقبال غير خمرتهم!. أنـا أعجمي الدنِّ لكن خمرتيكَرمُ الحجاز ونبعِها الغينان إن كان لي نغَمُ الهنود ولحنهمإن هذا الصوت من عدنان روزه خون السوربون: عمر ضال... وجاهل... ومعارض للاسلام! هو التونسي محمد التيجاني السماوي، دكتوراه فلسفة من السوربون، كتب قصة استشياعه، تحت عنوان " ثم اهتديت " وكتاباً آخر، هو " الشيعة هم أهل السنة". وقد اختار فيه اثني عشر صحابياً بينهم صحابية واحدة هي عائشة، وهو يرسم تشكيلاً في مقابلة عددية، مع الأئمة الاثني عشر، وكأنه يفتح ملف الفساد لمجلس وزراء عربي معاصر، أو لمجلس إدارة نادي ليلي، بلغة الفضائح والتشهير، والرجل في هذا المنهج ما كان سيبذل العناء والتعب في دراسة السوربون، وكان يكفيه كثيراً أن يتتلمذ على شيخ ناشئ، وروزخون شاب من قراء الأساطير والناتج المطلوب هو ذاته، واللغة ذاتها، والأسطورة المحشوة في صواوين مسامعنا في طفولة الكرادة، ستغنيه عن عِلم السوربون ولغتها، وستزوده بمثالب يتطلع الرجل لتسويقها. وأقول بحياد المسؤولية، إن الدكتور التيجاني يمتلك القدر الكبير من الأهلية العلمية ليبسط حصران النخيل في مسجد حسيني. ويستدعي اثني عشر رجلاً من رجال النبي صلى الله عليه وسلم، إلى جانب اثني عشر إماماً من أهل بيته، ويستل المشتركات من طبقات ابن سعد وسيرة ابن هشام، وتواريخ الطبري والبلاذري واليعقوبي والاصبهاني والمسعودي وسواهم، فتتوفر له مستخرجات إسلامية في كتاب حاضن ومحضون، بدلاً من تقمص دور مكرر وممل وساذج وعدواني، وانشقاقي، سبقه إليه مئات من قراء " بحار الأنوار " الذي منع الإمام الخميني، فقيه التشيّع، نشر بضعة أجزاء منه لقلة علميتها وكثرة عدوانيتها، وهي التي اعتمدها التيجاني والمستبصرون معه. وإذا كان الدكتور التيجاني يتطلع إلى فقه التشيّع، المشبع بروح الثورة والاحتجاج على الظلم، والدفاع عن روح الإسلام، فأمامه متسع من العنوانين المقصودة، وإذا كان معجباً مثلي بتشيّع الإمام الخميني، فالرجل مُعرَّف بكتبه وأقواله، أما تشيّعه فسرُّه عند تلميذه الشهيد الدكتور علي شريعتي، وكتبه منشورة وأفكاره قيد السجال العلمي في حسينيات ومساجد أصفهان وخراسان وطهران. ومن بين الصحابة الاثني عشر، جرى التركيز على " مثالب عمر " خاصة وذلك يعنينا، منهجياً على الأقل. المثالب التيجانية ! ويأتي الدكتور التيجاني على قائمة المخالفات الموزعة على المراكز العلمية والإعلامية منذ عشرة قرون، فيلوكها الناس وهو لايدري أنه آخر من اطلع على نسخة منها، فلدى أي روزه خون، ما هو أكثر، لكن الرجل وعدنا أنه سيوجز مخالفات عمر، لأنها لاتحصى إلا في كتاب، ولعل الكتاب إياه قد صدر له أو لغيره، بعنوان مساوئ عمر بن الخطاب. يقول التيجاني في كتابه الشيعة هم أهل السنة: عرفنا في أبحاث سابقة من كتبنا بأن عمر كان بطل المعارضة للسنة النبوية الشريفة، وأنه الجريء الذي قال: إن رسول الله يهجر وحسبنا كتاب الله يكفينا، وحسب قول الرسول الذي لا ينطق عن الهوى، فإن عمر هو الذي تسبب في ضلالة من ضل في هذه الأمة. وعرفنا بأنه عمل على إهانة الزهراء وإيذائها، فَرَوَّعَها وأدخل الرعب عليها وعلى صغارها عندما هجم على بيتها وهدد بحرقها. وعرفنا بأنه عمل على جمع كل ما كتب من السنة النبوية، فأحرقها ومنع الناس من التحدث بأحاديث النبي (ص). وقد خالف عمر سنّة النبي (ص) في كل أدوار حياته وبمحضر النبي(ص)، كما خالف سنة النبي (ص) في تسييره ضمن جيش أسامة، ولم يخرج معه بدعوى إعانة أبي بكر على أعباء الخلافة. كما خالف القرآن في منع سهم المؤلفة قلوبهم. كما خالف القرآن والسنة في متعة الحج وكذلك في متعة النساء. كما خالف القرآن والسنة في الطلاق الثلاث فجعله طلقة واحدة. كما خالف القرآن والسنة في فريضة التيمم، وأسقط الصلاة عند فقد الماء. كما خالف القرآن والسنة في عدم التجسس على المسلمين، فابتدعه. كما خالف القرآن والسنة في إسقاط فصل من الآذان وإبداله بفصل من عنده. كما خالف القرآن والسنة في عدم إقامة الحدّ على خالد بن الوليد، وكان يتوعده بذلك. كما خالف السنة النبوية في النهي عن صلاة النافلة جماعة، فابتدع التراويح. كما خالف السنة النبوية، في العطاء، فابتدع المفاضلة وخلق الطبقية في الإسلام. وهذه الأمثلة التي أخرجناها هي غيضٌ من فيض لما فعله هو وأبو بكر تجاه السنة النبوية الشريفة، وما لقيت منه من إهانة وحرق وإهمال، ولو شئنا لكتبنا في ذلك كتاباً مستقلاً. فكيف يطمئن المسلم إلى شخص هذا مبلغه من العلم، وهذه علاقته بالسنة النبوية الشريفة، وكيف يتسمى أتباعه بـ " أهل السنة "؟؟!. وإذا كان عمر بن الخطاب يعمل على طمس السنن النبوية ويسخر منها ويعارضها حتى بحضور النبي نفسه، فلا غرابة أن تسلم له قريش قيادتها وتجعله زعيمها الأكبر، لأنه أصبح بعد ظهور الإسلام لسانها الناطق وبطلها المعارض، كما أصبح بعد وفاة النبي (ص) قوتها الضاربة وأملها العريض في تحقيق أحلامها وطموحاتها للوصول إلى السلطة، وإرجاع عادات الجاهلية التي يعشقونها ومازالوا يحنون إليها. وهذا نزرٌ يسيرٌ من بدعه التي أحدثها في الإسلام. وهي مخالفة كلها لكتاب الله وسنة رسوله، ولو شئنا جمع البدع والأحكام التي قال فيها برأيه وحمل الناس عليها، لكتبنا في ذلك كتاباً مستقلاً، لولا توخي الاختصار.” وهذه لو أرعوى المتخاصمون وكلهم أرحام، اجتهادات عقل مبدع، ومعالجات مؤسس وشريك، وصاحب قرار، وقائد أمة ناشئة، وزعيم دولة يافعة، وإمام، وقاضٍ، ومفتٍ، وصاحب الموحى إليه، وتلميذه، والمهاجر في وضح النهار، والمهيب في عتمة الليل، وهو يستجيب لتحديات المستجد من الأحداث والأزمات والمسائل التي لم تمر على المسلمين قبل عهده، فهل يتجاهل إرادة الحياة، وحاجات الناس. ومستلزمات الطارئ، وضرورات التأسيس، فيحدث الضرر في الدولة والناس، وهما الركنان الماديان اللذان بهما يتسور الدين الجديد وإليهما يعود بخيره. أم يستفرغ الجهد وجهد الإدارة المحمدية في المسجد النبوي، فيستهدي بالنص لتوليد النصوص وبآلية لم ينفرد فيها بقرار؟ فإذا أخطأ، فهي أخطاء الإدارة المشتركة في مسجد الشورى، والمسؤولية تتوزع على من كانوا معه، والصحابة أولى أن يثوروا على مخالف ومبتدع يقودهم إلى الضلالة. إن تجريم عمر، وطعنه بالمروق عن النص، لا تقع مسؤوليته عليه وحده، وكأنه تجريم لعامة المشاركين من مسلمي المدينة، فلم يكن عمر دكتاتوراً، يبسط سطوته على مجلس شكلي، وعلى أعضاء تحت إمرته، فيرفعون الأيادي قبل التصويت، ويهزّون رؤوسهم بالموافقة قبل توجيه السؤال، وقد يضحكون إذا ضحك رئيس المجلس ويعطسون إذا عطس!. وهدف رجال القطيعة ليس التنقيص من عمر بن الخطاب، ولا تجريمه وإدانته وطعنه، بل يمتد ضمنياً وشرعياً إلى عامة الذين وافقوا عمر على " “مروقه" أو سكتوا عنه، ولاذوا بالسلامة!. ولا نظن أحداً من رجال النبي (ص) كان على هذا الطراز وهذه الشاكلة. وهو مسوّر بصحابة من أمثال علي وسلمان الفارسي، ومحمد بن سلمة، وعثمان بن عفان، وسعد بن أبي وقاص وطلحة والزبير، وأبي ذر وعمار بن ياسر. فَمَن مِن هؤلاء كان سيحني رأسه لعمر ليمرر عليه قانوناً خارجاً على قوانين الإسلام؟ وفي عهد كان كل صحابي حاكماً؟ ولم يكن أي من الرعية محكوماً، وكان للسكارى حق الاعتراض والمناقشة والرد على الخليفة وهم متلبسون باحتساء الخمرة، فيتفهم ردودهم ويتراجع عن خطأ وقع فيه مقابل ان يضع الحد في المخالف. هل كان أهل المدينة ينتظرون فقهاء القطيعة والمثالب لتلقينهم الصائب الشرعي، ويدلوهم على سواء السبيل؟ أم كان المسجد النبوي ساعتها ينتظر وصول السيد التيجاني السماوي، ليعلم الإمام علي وعمر بن الخطاب وأبا ذر وعماراً أصول دينهم ويرشدهم إلى الصراط المستقيم؟. أغلب الظن أن المثالبة إنما رأوا أنفسهم وتخيلوا مواقعهم في أسر سلطات قاهرة، وبإمرة سلطان معاصر، فكتبوا عن خوفهم إزاءه، وتصوروا حال الصحابة مع عمر، حالهم مع سلطان وقتهم، وإلاّ فلماذا لم ينشقوا على هؤلاء الحكام، ويفتحوا ملفات الفساد، ويطاردوهم على شاشات الفضاء، وفي الكتب المجلدة، فتركوهم وانصرفوا عنهم إلى محاكمة بناة الحضارة في ماضينا العادل؟. المستبصر الأردني أحمد حسين يعقوب: عمر حليف المنافقين ! وتتداخل صورة عمر في الكتابات المستشيعة وتشتبك خيوطها، فتصبح لعمر صورتان. واحدة عند أهل القطيعة وأخرى لدعاة المشاركة. وإذ يكتفي الأخيرون بالحديث عن مشتركات علي وعمر في إدارة المركز العالمي الجديد، يتخبط كتاب القطيعة في أحكامهم غير عابئين بمهارة التاريخ وأصول البحث ومجلس الحقيقة، فإذا عمر عند المستيشع الأردني المحامي أحمد حسين يعقوب رجل ليس له قوة من تاريخه، وإنما من قوة المنافقين الذين أحبوه حباً شديداً من يوم الرزية، وهو اليوم الذي حال فيه عمر وحزبه بين الرسول وبين كتابة ما أراد. وقد تابع المنافقون بشغف بالغ معارضات عمر بن الخطاب المتكررة لرسول الله واعتراضاته عليه، وقد أحيطوا علماً بارتيابه. والخلاصة والحديث مازال للأستاذ يعقوب أن المواجهة التي حدثت بين الرسول من جهة وعمر وحزبه من جهة ثانية في بيت الرسول، قد رفعت أسهم عمر بن الخطاب عند المنافقين إلى القمة. ومنذ ذلك التاريخ لم يرو راوٍ قط أن أحداً من المنافقين قد عارض عمر أو تخلف عن دعوته لأي أمر من الأمور. إن عمر بن الخطاب مدين بجزء كبير من نفوذه ووجوده للمنافقين والمرتزقة من الأعراب كما جاء في كتابه (المواجهة) الصادر عن دار الغدير عام 1996، ومن هؤلاء وهؤلاء تشكل حزب عمر. وعمر هو رئيس التحالف المعادي لآل محمد. وهنا من سيكون المصدق الرواية والرأي المؤرخ القديم الخارج من طينة كربلاء والدارس منذ الطفولة في حوزات النجف والقائل: إن أحداً من المؤرخين لم ينقل عن الإمام علي أنه وقف موقف المعارض لخلافة ابن الخطاب أو بدا منه ما يسيء إلى صلاته به، بل رضي لنفسه أن يكون كغيره من الناس لا يذكر عما مضى ولمن جاء من بعده إلاّ المحاسن، أم سنأخذ بالروايات التي ينقلها المتحولون من المشاركة إلى القطيعة والقائلون بأن المنافقين والمرتزقة هم الذين لم يعارضوا عمر؟. المستبصر المصري أحمد راسم نفيس: التشيع الممنوع في مصر يعلن الأستاذ أحمد راسم نفيس الذي يبدو أن حاسته الوطنية يعلو صوتها على أية حاسة أخرى، أنه تشيع إعجابا بالإمام الخميني وثورته الإسلامية وموقفها من إسرائيل. وهو بحكم تربيته المصرية يبدو أقل هجاءً للصحابة من زملائه المستبصرين. وإن كان لايخرج عن المنهج الاستبصاري ذاته في تسليط العتمة على إشراقة عمر في التاريخ الإسلامي. يستعرض الأستاذ نفيس في كتابه (التشيع ممنوع في مصر) وجهة نظره ضد الإجراءات الحكومية المتخذة ضد المصريين المتشيعين، وهذا الكتاب لا يُنصف المدرسة المصرية، ولعله يمس حياد التسنن المصري وموقعه وعدالته وعلميته. إن المصري لا يحتاج إلى التشيع حتى يحب أهل البيت أو يكتب عنهم. والمدرسة المصرية سنية إلى نهاية عصر الراشدين. فتتوقف عن مواصلة التسنن الأموي الشائع حاليا في البلدان العربية الإسلامية. ولعلي عرفت حجم الأذى الذي وقع على الحسين عندما قرأت كتاب عباس محمود العقاد عن أبي الشهداء. وكنت تلميذاً في الخمسينات لمؤرخ الفلسفة الإسلامية الدكتور علي سامي النشّار في كتابه نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، والتقيت بجعفر الصادق في كتاب الشيخ محمد أبو زهرة، وفي كتاب المستشار عبد الحليم الجندي، واستمتعت بالمرافعة التاريخية التي كتبتها عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ عن السيدة سكينة بنت الحسين. وتابعت شيخ الأزهر سليم البشري في حواراته الممتعة مع الفقيه الشيعي السيد شرف الدين. ودرست شرح نهج البلاغة للإمام الشيخ محمد عبده وأحببت إنصاف عبد الرحمن البدوي وسميرة الليثي وأحمد الشرباصي لدور الشيعة في الفكر الإسلامي. فما الذي يزعج الشيعي في مدرسة مصر؟ وماذا يريد أكثر مما توفره المدرسة المصرية التي انتصر عميدها طه حسين للإمام علي في كتابه "علي وبنوه" وفتح بذلك منهجاً إسلاميا يمتزج فيه التسنن والتشيع بمحمدية علي وعمر. أما أن يتصدى باسم التشيع كاتب مصري أو تونسي ليضع عمر في أحضان اليهود حاملاً راية الضلال، أو أن يثني آخرون في المدرسة الأخرى على قاتل الحسين فيُكرم ويصبح سبي أحفاد النبي(ص) مسكوتاً عنه أو مبرراً، فليس مكان هؤلاء مصر والقاهرة. إن هنالك مدناً أخرى تشتغل بالتقاذف والتشهير، ولو كنت في مكان أي مسؤول مصري لمنعت أي فريق من هؤلاء عن تلويث المدرسة المصرية. ليبقى الإمام محمد عبده عند منهجه، والعقاد مع أبي الشهداء، وطه حسين مع علي وبنيه. إن المصريين محمديون في عمريتهم وعلويتهم، ولا يجوز لطرف أن يخرق هذا النسيج بما يؤذي كرامة الإمامة ومقام الخلافة. المستبصر السوري عامر الكردي: النبي آدم يبغض عمر !. وأما المتحولون، أو المستبصرون، وهم مرة أخرى، علماء دين انتقلوا من التسنن إلى التشيّع، فلعلهم رأوا من مستصغر التشيع أن يظهر في زمن النبي محمد (ص)، فنقلوه إلى زمن النبي آدم، وأثبتوا بالدليل القاطع، وبالبرهان الناصع أن النبي آدم، ثم النبي نوح كانا على مذهب التشيّع!. أظن أن السادة المستبصرين يضحكون على عقول الأتباع الشيعة. ولايعقل أن يستخفوا بأنفسهم، ويضحكون على ذقونهم التي مازالت سوداء لم يخالطها إلا القليل من البياض. لكن المقصود أوسع مما نتخيل، إنهم يريدون الوصول إلى إشاعة مفهوم أن البشرية، من خلال أبيها آدم تناصب العداء لعمر، وأن الانشطار ضئيل وغير عادل، وأن المسلمين ليسوا سنة وشيعة، وإنما تتحد البشرية على كراهة عمر بن الخطاب منذ زمن النبي آدم، ثم النبي نوح إلى اليوم الذي أصبح الشيخ عامر الكردي مستبصراً، فأبصر النبي آدم بأم عينيه، وببصيرته حاملاً لواء القطيعة معلناً الحرب على صحابة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. وليس على بني آدم سوى اقتفاء سيرة أبيهم، وليس لهم سوى ذلك وظيفة في الحياة. المتحولون إلى التشيع: والسلم الأهلي في العراق سيحتاج (المتحولون) الى وقت غير قصير ليقتنع الناس بأن انتقالهم إلى المذهب الجديد ناجم عن مراجعة ذاتية، لأن عالم دين وطالب علم نشأ على عقيدة مذهبية حتى صار فيها فقيهاً أو داعية أو خطيباً سيصعب عليه الظهور بين عشية وضحاها في ثياب مذهب آخر. وإذا كان ذلك مألوفاً، والنفس البشرية مفتوحة ومتحركة والعقل الإنساني يتقبل الأمر ونقيضه، فمن غير المعقول أن يبذل المرء جهداً ويخترق حاجزاً نفسياً ويخرج على محيطه وذائقته ويتحمل ردود أفعالهم فتكون حصيلة المتحول كتاباً يستعيد المتحول فيه ثمالات الملا محمد باقر المجلسي ورواياته المتخصصة في النيل من شخصية إسلامية كان المتحول قبل عام وربما قبل شهر واقعاً تحت تأثيره الروحي والتربوي والعرفي. وسأضرب مثلاً بنفسي. فمنذ خمسين عاماً، وعمر بن الخطاب يشكل خطوط صورة مغرية للكتابة والتأليف، وقد استكملت أدواتي العلمية منذ تخرجي من كلية الآداب عام 1958، ولم يكن الوقت مناسبا إلا في السنوات الثلاث الأخيرة، بعد اشتعال النيران الطائفية في العراق وانتقال الحرب من صفحات الكتب وأعمدة المنابر في فترة الحرب العراقية – الإيرانية، وماتلاها من تطورات في العراق إلى واجهات المنازل وأجساد الضحايا وسكاكين الذبح، فأصبحت الكتابة في عمر بن الخطاب وفي نقد الخطاب الطائفي واجبة وجوب الماء لإطفاء النار. وكان مما عجل في إصدار هذا الكتاب على سوء صحة كاتبه أن الفضائيات العربية صارت تنقل شهادات لعلماء دين من الشيعة يتنافسون على مسبة عمر بن الخطاب وأبي بكر، وكأنهم بهذا يوفرون (الدليل الشرعي)، والمسوغ الفقهي للانتحاريين الذين يستهدفون المدن والبلدات الشيعية بالسيارات المفخخة (نكالاً) لهم على شتمهم عمر وتشهيرهم بعائشة!!. ألا يعني هذا أن السلم الأهلي في العراق يرتبط بالكتابة التاريخية ابتداء من العصر النبوي وإبطال المناهج والوسائل والمستحدثات التي قدمها الشيخ علي الكركي ومدرسته؟ دون أن نغفل المدرسة الأموية التي سبقت السلطان طهماسب في أسلوب السب وشتم الإمام علي بأكثر من عشرة قرون.
الـتنــويــر الشـــيعي الـمُشرق والمحدود التأثير الـمـدرســة الـمصرية: طبيعة المصريين الميّالة إلى الاعتدال، غلبت الأفكار والعقائد والاتجاهات المتشددة من أي مصدر صدرت، وأفرغت جانب التراكم الطائفي في المرحلة الفاطمية إزاء عمر بن الخطاب، مثلما أقصت التراكم الطائفي للمرحلة الأيوبية وأنتجت ثقافة ًإسلامية تستلهم في حيادها المذهبي روح زيد بن علي وممثله الفخري في العراق أبي حنيفة النعمان بن ثابت. ومع تواضع الأداء السياسي والفكري للزيدية في العصور المتأخرة حتى رُكنت مهملةً في تكايا اليمن المتوكلية، إلا أن التماس التأثير المكشوف على بعض المدارس العربية المتأخرة لموقفها العملي من الخلافة الراشدة يمكن رؤيته بسهولة في المدرسة المصرية وتأثيراتها العربية. إن طه حسين والعقاد ومحمد حسين هيكل وبنت الشاطىء وعبد الحليم الجندي وعبد الفتاح مقصود وعبد الرحمن الشرقاوي إنما يمثلون الخط المحمدي، والفهم الزيدي القائم على استلال عمر وأبي بكر وعثمان من العجينة الأموية، فشكلوا موقفاً وسطاً بين خطين، هما النهج الأموي من جهة والنهج الصفوي من جهة أخرى، وهذان يسعيان بل يقرّان نهائياً بانتماء عمر بن الخطاب وأبي بكر للنهج الأموي فيبدو سيّان عندهم عمر ومعاوية وأبا بكر ومروان بن الحكم. إن الشيعة الإمامية يرتاحون لخطاب يُعطي عمر للأمويين ويحملونه مسؤولية تأسيس الخط الأموي. إن المشاركة مبدأ عرضته المدرسة المصرية قبل أن يلتفت إليه فقهاء ومفكرون شيعة في تاريخ الإسلام. فقهاء المشاركة الفقيه الشيعي في مراتبه العليا مرجع وليس داعية؛ ينقطع عن المجتمع في وقت مبكر، فلا يعود صديقاً في المستشفى ولا يعزي آخر، ولا يتحدث في وسائل الإعلام، ولا يكتب في وسائل النشر، ويلازم بيته ولا يخرج إلا إلى الصلاة في صحن الإمام، الذي يقيم الفقيه حول ضريحه. وقد يرتب لمسؤول الدولة الأول موعد معه داخل الصحن. فإذا تحدث مع ضيفه فلا يكاد يسمع له صوت، ولولا حركة طفيفة في نهايات شعرات لحيته لما حسبته يتكلم!. إن تقاليد المرجعية صارمة، ويتفق عندها فقهاء القطيعة والمشاركة. لكن بعضهم خرج على هذه المحكومات الشرطية فصار يتحدث في السياسة اليومية ويقف خطيبا بين الأتباع، ويقود مظاهرة يعبر فيها الجسر من مدينة الكاظمية الشيعية إلى مدينة الأعظمية السنية كالشيخ الثائر الإمام محمد مهدي الخالصي ليصلي في مسجد أبي حنيفة. وقد يكتب في المجلات العربية ويراسل المؤسسات ويحضر المؤتمرات ويناظر الأدباء ويحقق دواوين الشعراء(*) ويكتب لبعضهم مقدمة الديوان ويمضي شهورا في جولات عربية كالمرجع الكبير الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء (1876 - 1954) والمرجع الحالي السيد محمد حسين فضل الله، وان كان الأخير أبطأ حركة من شيخه وأستاذه كاشف الغطاء. ويتفق هؤلاء المراجع في كونهم خارج المنهج الصفوي وهم لايرون مايضر (بالعامة) نافعا للشيعة، ولايرتاحون لحديث يثني على الإمام علي بن أبي طالب بهجاء عمر بن الخطاب، ولا يأخذون بروايات الفرقة والانقسام، أي ليسوا من دعاة القطيعة. إن كاشف الغطاء من رواد نظرية المشاركة يكتب في (أصل الشيعة وأصولها) نصا تترجرج أمامه أقانيم الهيكل الذي بناه الشيخ علي الكركي والملا محمد باقر المجلسي والسيد الكاظميني البروجردي!. ولم تكن المراجع العليا تشتغل بحقول الأدب والشعر، بل الاتجاه العام لايخلو من ازدراء بالشعر والأدب، ويعزو بعض المؤرخين ذلك إلى عجمة بعض المراجع الذين يفتقرون إلى الذائقة الأدبية. بنيما تجاوز هذه العقدة الفقهاء من أصول عربية وربما هجر بعضهم الدراسات الفقهية، وانحاز إلى الإبداع الأدبي كالجواهري وعبد الرزاق محي الدين ومهدي المخزومي ومحمد رضا الشبيبي، و حاول فريق آخر مزاوجة الأدب والفقه كالشيخ احمد الوائلي والسيد مصطفى جمال الدين، فلم يطغ أحدهما على الأخر. أما الفقهاء الأدباء فعميدهم محمد سعيد الحبوبي، وأبرزهم محمد الحسين كاشف الغطاء وجميع من وردت أسماؤهم في هذه الحاشية هم من أهل التشيع العربي القائلين بمبدأ المشاركة. وجرى التقييم عليهم في معظم الأحكام والروايات والدراسات في الحوزات الدينية. يقول نص المرجع الإمام الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء منقولا عن كتابه أصل الشيعة وأصولها الطبعة الثالثة الصادرة عن دار الأضواء في بيروت عام 2003، تحقيق العلامة الشيخ محمد جعفر شمس الدين. " ثم لما ارتحل الرسول من هذه الدار إلى دار القرار، ورأى جمع من الصحابة أن لا تكون الخلافة لعلي(ع)، إما لصغر سنه، أو لأن قريشا كرهت أن تجتمع النبوة والخلافة لبني هاشم، زعما منهم أن النبوة والخلافة إليهم يضعونها حيث شاؤوا، أو لأمور أخرى لسنا في صدد البحث عنها ولكنه باتفاق الفريقين امتنع أولا عن البيعة، بل في صحيح البخاري في باب غزوة خيبر أنه لم يبايع إلا بعد ستة أشهر، وتبعه على ذلك جماعة من عيون الصحابة كالزبير وعمار والمقداد وآخرين. ثم لما رأى تخلفه يوجب فتقا في الإسلام لا يرتق، وكسراً لا يجبر، فكل واحد يعلم أن عليا ما كان يطلب الخلافة رغبة في الامرة، ولاحرصاً على الملك والغلبة والاثرة، وحديثه مع ابن عباس بذي قار مشهور، وإنما يريد تقوية الإسلام وتوسيع نطاقه ومد رواقه وإقامة الحق وإماتة الباطل، وحين رأى أن الخليفتين – أعني الخليفة الأول والثاني – بذلا أقصى الجهد في نشر كلمة التوحيد وتجهيز الجنود وتوسيع الفتوح ولم يستأثرا ولم يستبدا، بايع وسالم وأغضى عما يراه حقا له محافظة على الإسلام أن تتصدع وحدته، وتتفرق كلمته، ويعود الناس الى جاهليتهم الأولى، وبقي شيعته منضوين تحت جناحه ومستنيرين بمصباحه، ولم يكن للشيعة والتشيع يومئذ مجال للظهور لأن الإسلام كان يجري على مناهجه القويمة، حتى إذا تميز الحق من الباطل، وتبين الرشد من الغي، وامتنع معاوية عن البيعة لعلي وحاربه في " صفين"، انضم بقية الصحابة إلى علي حتى قتل أكثرهم تحت رايته، وكان معه من عظماء أصحاب النبي(ص) ثمانون رجلا كلهم بدري عقبي كعمار بن ياسر وخزيمة ذي الشهادتين وأبي أيوب الأنصاري ونظرائهم ". لم يكتب الرواج والانتشار لنص صادر عن المرجع الإسلامي الكبير الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء، لأنه يتعارض مع المناهج التي تستبد بالمؤسسات الدينية وتكاد تحتكر النتاجات الفقهية والفكرية قبل أن تتحول مؤخراً إلى مؤسسات سياسية بقي كاشف الغطاء دون الدرجات العليا في تقويمات هذه المؤسسة قياساً إلى من كانوا أقل منه علماً وعدلاً. ويسجل لكاتب السطور إنه يقود حملة منذ ثلاثين عاماً لتسليط الضوء على هذه الشخصية في مختلف جوانبها. وكان الشيخ كاشف الغطاء رائد الاتجاه الذي ساد الأوساط الإسلامية مؤخراً في تعارض حقيقي بين الإسلام والدول الاستعمارية والرأسمالية، منذ أن وضع "المثل العليا في الإسلام لا في بحمدون". رداً على دعوة من الولايات المتحدة الأمريكية له بالاشتراك في مؤتمر إسلامي في مدينة بحمدون اللبنانية، للتنسيق المشترك ومواجهة التحديات في المنطقة. علي شريعتي: نظرية النطف الكسروية: نترك للدكتور علي شريعتي الاستفاضة في طرح وشرح ومناقشة نظريته في النطف الكسروية ولا بأس بعدها بمداخلة قد لا تبتعد عنها كثيراً. ففي ربيع الأبرار للزمخشري وهو من علماء السنة المشهورين أن لله خيرتين: من العرب بنو هاشم ومن العجم فارس. وأن الإمام زين العابدين علي بن الحسين معروف بين المحدثين بابن الخيرتين. إن الدكتور شريعتي استثمر إضطراب الرواية، وتعارضها مع بعضها للطعن بها، وإن كانت شائعة حتى يومنا هذا، عند المؤرخين ولدى القوميين الفرس والقوميين العرب. والثابت عندهم حصول سبي بنات كسرى يزدجرد، فإذا حدث ذلك في زمن عمر بن الخطاب, كما تروج الرواية فسيحدث السبي عام 18 للهجرة أو في أقصى تاريخ وهو العام 22 منها، فيكون كما يقول شريعتي ذلك سبباً في رفضها، وقد ولد الإمام علي بن الحسين في عام 38 للهجرة وقيل 37 للهجرة أي بعد الزواج المفترض بعشرين عاماً. لكن الإصرار على وقوع الأسر في زمن عمر، ينسجم مع فتح بلاد فارس في ذلك الوقت, والرغبة في صياغة حوار بين بنت كسرى أو بناته وبين الخليفة صحيح حيث تشير الرواية إلى أن بنت كسرى كانت تلعن الزمن الذي صار فيه سادة فارس أسارى تحت حكم رجل كعمر، وأن الإمام علي كان يترجم لعمر، وهذه وظيفة جديدة للإمام لم يتحدث عنها المؤرخون، ولم يُشَر إلى معرفة الإمام علي باللغة الفارسية. فإذا كانت الرواية قد أدخلته في علاقات (سرية) لا نعرفها مع بلاد فارس مكنته من إتقان الفارسية، فلم نعرف أية لغة فارسية منها كانت هذه وهم يتحدثون بأكثر من واحدة تختلف كلياً عن الأخرى. فهل أرادت الرواية أن توثق صلة الإمام بصحابي جليل كسلمان الفارسي واحتمال أنه تعلم منه لغته الأم، ولم يتحدث مؤرخ عن شيءٍ من هذا.؟. وإنما هي فرضية نفترضها. في العودة إلى الرواية، أراد عمر بيعها، فلم يوافق الإمام علي قائلاً: إن بنات الملوك لا تباع، ولو كنّ كفاراً، فأعطاها حق اختيار الزوج بنفسها فاختارت الإمام الحسين. والذي نعرفه أن كسرى يزدجر كان ينسحب من المدن، التي يحتلها المسلمون فيتراجع إلى مدينة أخرى، حتى استقر في خراسان، فتوقف الأحنف بن قيس عن ملاحقته، وبقي معزولاً في تلك الأصقاع إلى أن توفي في خلافة عثمان. فهل ترك كسرى بناته في المدائن عام 18 فأسرهن المسلمون؟ أم أنه انسحب مع عائلته وجيشه إلى ما بعد خراسان, وفي هذه الحالة، كيف أُخذت بنات كسرى أسارى؟. تقول رواية أخرى: إن اثنتين من بنات كسرى توفيتا عند النفاس، ومنهما زوجة الإمام الحسين، لكن وليدها عاش وهو زين العابدين. ويبدو أن الرواية لم تشأ ترك الإمام الحسين بلا زوجة فارسية, ولكي تستمر نظرية النطف، فقد قيل: إن بنت كسرى الأخرى تزوجت عبد الله بن عمر, وأنجبت ابنه سالم. وإن الثالثة تزوجت محمد بن أبي بكر فولدت منه القاسم. وبعد وفاة محمد بن أبي بكر تزوج الإمام الحسين أرملة بنت كسرى الثانية، وهي التي أشرفت على تربية زين العابدين. وفي رواية رابعة قيل: إن عثمان بعد فتح خراسان أخذ اثنتين فقط من بنات كسرى، وزوجهما للحسن والحسين وماتتا في النفاس. وحتى يتم التخلص من إشكالات أخرى، وتستقيم نظرية النطف، فقد زعمت رواية سادسة أن والياً للإمام علي قد حصل على اثنتين من بنات كسرى فتم زواج الحسين. وهكذا تعرضت بنات كسرى للأسر في ثلاثة عهود لثلاثة خلفاء, لكن الزوج هو الحسين في كل مرة ويشاركه شقيقه, أو ابن أبي بكر وعمر. وبعد أن أعلنوا عن وفاة بنت كسرى في النفاس، وقد وضعوا لها عدداً من الأسماء، تقدمت رواية جديدة أن بنت كسرى عاشت مع الحسين إلى معركة الطف، فألقت بنفسها في الفرات حزناً على مقتل الإمام،وطبيعي أن يروج لهذه الرواية لأنها تؤدي دوراً أكبر في ترسيخ النطف الفارسية،مما لو ماتت بنت كسرى في وقت مبكر ولم تشهد الفاجعة. تقول مصادر أخرى: إنه لم يكن أحد من أهل المدينة يرغب في نكاح الجواري حتى ولد علي بن الحسين،فصاروا يرغبون بالزواج منهن. وإذا كان الشيعة قد ذهبوا إلى الفرس بزواج الإمام الحسين من بنت كسرى, فلماذا لم تذهب العرب الأخرى بعد زواج عبد الله بن عمر ومحمد بن أبي بكر من بنتيه الأخريين إلى بلاد العجم ويصبحوا فرساً مثلما أمسى التشيع عليه في مشروع تعجيم الشيعة؟.. إن الحديث عن مصير بنات الملوك بعد الحروب يغري الرواة وناسجي القصص المثيرة منذ عهود تسبق كسرى، وحتى يومنا الذي يتحدث فيه الأستاذ محمد حسنين هيكل في تلفزيون الجزيرة عن شقيقات وبنات الملك فاروق بعد الثورة المصرية في يوليو 1952. وكنت شخصياً قد أوشكت أن أقنع الشريف المرحوم حسين بن علي والد الشريف علي بن الحسين، قبل ربع قرن لنشر قصة آخر بنات ملك الحجاز وزعيم الثورة العربية زوجته بديعة بنت الشريف الحسين بن علي، وهي الآن في العقد العاشر وما حدث لها بعد سقوط العرش الهاشمي في العراق عام 1958, فحالت أمور دون ذلك، إلى أن نشر الأستاذ فائق الشيخ علي كتاباً موسعاً عنها لم يأخذ مداه المفترض. عروس المدائن في المدينة: لم أجد مناصاً من أن أترك لقلم شريعتي وحده وبلغته المتدفقة وأصالته الإسلامية ودفاعه عن أهل البيت منقولاً عن كتابه التشيع الصفوي والتشيع العلوي يعالج أخطر رواية تداولها المؤرخون الإسلاميون وبقيت راسخة بالجذور التاريخية للتشيع الذي استقر في إيران. يروي العلامة المجلسي في بحار الأنوار(ج11 ص4) – بعد نقل أخبار حول زواج الإمام مثيرة للغثيان – إن والدة الإمام هي بنت يزدجرد التي جيء بها أسيرة في زمان الخليفة عمر، وقد أعجب بها الإمام الحسين، وتزوجها فولد له منها ابن واحد هو الإمام زين العابدين (ع)(*). من جهة نحن نعلم أن الإمام السجاد ولد عام 37هـ، أي بعد عشرين عاماً من زواج أمه من الإمام الحسين!. وقد صرحت هذه القصة بأن (شهر بانو) كانت من أسرى فتح المدائن، وأن عمر كان ينوي قتلها، ولكن الإمام علي هو الذي أنجاها من الموت، وواضح جداً أن واضعي هذه القصة هم من أنصار الشعوبية الإيرانية، وأنهم أرادوا من ذلك إظهار أن عليا(ع) كان يساند الساسانيين، ويدافع عنهم وذلك في مقابل عمر الذي كان عدوهم وهازم جيوشهم!. غير أن هؤلاء فاتهم أنهم حينما أرادوا إثبات أن الإمام السجاد هو حفيد يزدجرد وأمه شهربانو، أوقعوا أنفسهم في إشكال تاريخي عويص وهو لزوم أن يكون الإمام الحسين تزوج في العام 18 للهجرة (عمره حينها 15 سنة) بينما الإمام السجاد ولد العام 38 للهجرة، ومن المنصوص عليه أنه لم يولد له من شهر بانو سوى الإمام السجاد، وهذا يعني أنها لم تلد من الإمام الحسين إلا بعد مضي عشرين عاماً. غير أن العلامة المجلسي عندما تنبه إلى هذه المشكلة بالرواية حاول ترقيعها بالقول: إنه ليس من المستبعد أن تكون كلمة (عمر) الواردة في الرواية تصحيفاً لكلمة (عثمان) فيكون الزواج قد تم في عهد عثمان لا في عهد عمر!. والواقع أن هذه المحاولة – إذا قبلت – فإنها سوف تحل إشكال التفاوت الكبير بين وقت الزواج ووقت الولادة، ولكن إشكالا آخر أكثر إحراجا سوف يظهر فيها وهو طول المسافة الزمنية بين انكسار جيش يزدجرد وبين أسر بناته!. هذا مضافاً إلى أن الرواية تضمنت التصريح بأن الأسرى هم أسرى (المدائن) فهل يقول العلامة المجلسي أنها مصحفة أيضا؟. ويتطرق العلامة المجلسي إلى بيان اسم أم الإمام وهل هي سلامة أو خولة أو غزالة أو شاه زنان أو.. فيقول: إنهم جاءوا ببنت يزدجرد إلى المدينة وما أن وقعت عينها على عمر حتى غضبت وسبت عمر، فسبها هو أيضاً، وأمر بأن تباع شأن سائر الأسرى فاعترضه أمير المؤمنين بالقول: إن بنات الملوك لا تباع وتشترى، وإن كانوا كفاراً وأشار عليه بأن يزوجها رجلاً من المسلمين ويدفع صداقها من بيت المال! وفي ذيل هذه الرواية المنسوبة إلى الإمام الصادق، نصغي إلى الحوار الآتي بين الإمام علي وابنة يزدجرد: فقال " جه نام داري أي كنيزك؟" يعني ما اسمك ياصبية؟!. قالت: جهان شاه. فقال: بل شهربانويه. قالت: تلك اختي. قال:" راست كفتي " أي صدقت...! ويبدو أن الناقل (أو المختلق) لهذه الرواية، لم يكن يدري أن الإمام علي حتى لو سلمنا أنه تحدث معها بالفارسية، إلا أن اللغة التي كان سيتحدث بها لم تكن مفهومة عند بنت يزدجرد، وذلك لان الإمام يتحدث باللهجة الفارسية الدرية، وهي لهجة محلية لأهالي خراسان بينما كانت بنت يزدجرد تتحدث باللغة البهلوية الساسانية! هذا أولا، وثانياً أن عبارة " أي كنيزك" الواردة في الرواية من الواضح أنها من الاصطلاحات الرائجة في زمان (الراوي) لا في زمان الحدث. وإذا أمعنا النظر في الرواية نلاحظ شيئاً غريباً، وهو أن الإمام كان يخاطبها بالفارسية بينما هي تجيب بالعربية. والأغرب من ذلك التوجيه الذي ذكره العلامة المجلسي بإزاء تسمية الإمام لها بـ(شهربانويه) بدلاً من (جهان شاه) حيث أعزا العلامة ذلك إلى أن كلمة (شاه) هي من أسماء الله تعالى مستدلاً على ذلك بما جاء في الخبر من أن علة النهي عن الشطرنج وجود عبارة الشاه مات، ووالله أن الشاه لا يموت!!. شريعتي والعسكري: السيد مرتضى العسكري فقيه بدرجة آية الله وهو أكبر معمر بين فقهاء التشيع حالياً وسنه عبرت المئة، وهو عندي البقية الباقية من مؤرخي العصور الإسلامية كالطبري وابن الأثير واليعقوبي، حيث تتجاوز اهتماماته في التاريخ العام اهتماماته الفقهية، وهو صاحب كتاب معالم المدرستين وكتاب خمسون ومئة صحابي مختلق، والأخير على غرار كتابات طه حسين في الأدب الجاهلي. طلب السيد العسكري إلي في لقاء جمعنا في لندن منتصف الثمانينات الميلادي وبحضور السياسي العراقي سعد صالح جبر، أن أتتلمذ عليه قائلاً: إنه شديد الاعتزاز بأن أكون ثالث تلميذ له بعد السيد محمد باقر الصدر والدكتور داود العطار، وكان السيد العسكري قد أعد نقداً لكتابي في عبد الكريم قاسم، فاعتذرت له بأني من تلامذة الوردي وعارفي فضل شريعتي . فقال: وما المانع من أن يستقيم المرء بعد اعوجاج. وكان السيد العسكري قد تبنى حملة للرد على كتابات علي الوردي، ونشر كتاباً لإبطال ما جاء في وعاظ السلاطين للوردي في مطلع الخمسينات، مثلما تبنى حملة لاحقة ضد الدكتور علي شريعتي، فنشر بياناً مع فقهاء آخرين يصف شريعتي بماوصف به الوردي. ونقل شريعتي نص الهامش الذي كتبه السيد العسكري بخط يده عن البيان المذكور. وهنا نص السيد العسكري منقولاً عن التشيع العلوي والتشيع الصفوي. يقول السيد العسكري: متى كان عمر بن الخطاب شريف بني عدي، أما نسبه ففي كتاب الدرر بإسناده عن الحسن بن محبوب عن ابن الزيات عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: كانت صهاك جارية لعبد المطلب. وكانت ذات عجز وكانت ترعى الإبل وكانت من الحبشة، وكانت تميل إلى النكاح، فنظر إليها نفيل جد عمر في مرعى الإبل فوقع عليها فحملت منه بأم الخطاب، فلما ولدتها خافت من أهلها فجعلتها في صوف وألقتها بين أحشام مكة فوجدها هشام بن المغيرة بن الوليد فحملها إلى منزله وسماها بحنتمة، وكانت شيمة العرب من يربى يتيماً يتخذه ولداًَ، فلما بلغت حنتمة نظر إليها الخطاب فمال إليها وخطبها من هشام، فتزوجها، فأولد منها عمر، وكان الخطاب أباه وجده وخاله وكانت حنتمة أمه وأخته وعمته، وينسب إلى الصادق في هذا المعنى شعراً: من جــده خـاله ووالدهوأمـه أختــه وعمتـه أجدر أن يبغض الوصي وأنينكـر في الغـدير بيعـته ويواصل الدكتور علي شريعتي قائلاً: واكتفى بنقل هذا المقدار من الهوامش (العلمية) لهذه الشخصية العلمائية الصفوية، واعتقد أنها كافية لتوضيح طبيعة المنطق العلمي والديني الذي يتعاطى به رجالات التشيع الصفوي، واقتصر هنا على الإشارة إلى مفارقة طريفة وهي إنني أوعزت منزلة أبي بكر وعمر واللوبي الذي يعمل بالتنسيق معهما إلى زمان الجاهلية، أما الذين يصرون على أن أبا بكر وعمر لم يكونا قبل الإسلام سوى أولاد خدم وجامعي حطب فإنهم قد اعترفوا من حيث يشعرون أو لا يشعرون بأن الرجلين اكتسبا هذه المنزلة والمكانة من الإسلام لا من الأوضاع الاجتماعية والطبقية للجاهلية. وإذا كانت حمية شريعتي المفكر الشيعي الإيراني الفارسي على هذا القدر من العلو والتسامي والانفعال لدرأ الأذى عن عمر بن الخطاب فما الذي علي أن أقوله بعد وأي مبررات ستهدئ من روع الكتابة؟ لعلنا في مأزق يقف فيه عمر بن الخطاب حاجزاً نفسياً يقطع ما بعده ما قبله، فيستحيل مفكر ومؤرخ وفقيه بحجم مرتضى العسكري إلى سباب وشتام يدخل في أعراض الناس ولا أقول المسلمين، وأتوقف عن توصيف من جعله ابنا غير شرعي ونسب إلى أعظم أئمة الفقه الإسلامي الإمام الصادق شعراً من هذا القبيل المتردي. فما الذي سيتغير في أوساط تتلقى المعرفة بشحنة الكراهية؟ أما السباب والشتيمة فهي من أدوات الاستدلال في المنهج الصفوي. ويعقب شريعتي: إن القرآن ينهي عن السباب والشتيمة معتبراً أن الكلام الفاحش يعبر عن هبوط شخصية المتكلم قبل السامع. قال الإمام علي لأصحابه في حرب صفين: إني أكره لكم أن تكونوا سبَّابين. غير أن السباب والشتيمة يمثلان الشكل الأمثل، من أشكال الاستدلال في المنطق الصفوي. يشار إلى أن الترجمة الفارسية لكتاب نهج البلاغة تتحايل على النص عندما يتعلق بموقف ودي للإمام علي من عمر، وحتى في عبارته بمنع السب لجأ المترجم إلى التأويل قائلاً: ليس المراد من هذه العبارة هو عدم جواز شتم المخالف واللعن عليه، بل على العكس هذا واجب وتكليف. وبالعودة إلى لقائنا مع السيد العسكري في لندن فقد تناول الحديث الأوضاع السياسية في العراق وإيران، وفهمت من السياق قبل أن يسرني المرحوم صادق العطية الذي كان حاضراً هو الآخر، بأن زيارة آية الله العسكري إلى لندن تتصل بتلك الأوضاع، واحتمال إحداث انعطاف في المرجعية استعداداً لمرحلة ما بعد الإمام الخميني، واحتمال أن يكون للسيد العسكري دور في الانعطاف المفترض، لا سيما وأنه في جناح بعيداً عن اتجاهات الإمام الخميني الذي لم يعط للعسكري دوراً ما، وكانت الدائرة الصغرى حوله، تشير إليه بما يضعه في صف النظام الشامنشاهي. وبإحساس سياسي عالي الوتيرة، سارعت إلى كتابة مقال صحفي استعملت لأول مرة فيه مصطلح “العمائم البديلة” مشيراً إلى المجموعات المتطوعة للعمل في البرامج الغربية، والتي تركت طلابها الفقراء في حوزات قم، والسيدة زينب، واختارت الإقامة في دول القرار الغربي. وكان تيار عريض من المثقفين الإسلاميين الشيعة يشتركون في هذه الرؤية إزاء العمائم البديلة. وبشكل عام، فإن خطاً موجوداً بقوة داخل مؤسسة المرجعية يميل إلى التعامل الواقعي مع الدولة صاحبة القرار أو الدولة الرسمية أياً كانت ويسمى هؤلاء علماء “الحفيز” أي الأوفيس! وقد شكلوا جناحاً أثناء الثورة الإيرانية. برعاية من دولة قرار أوروبي ولهؤلاء ثلاث خصائص: الواقعية، والاعتدال، والبقاء بعيداً عن العمل الثوري الذي يتبناه فقهاء آخرون، والدعوة إلى عدم المشاركة في النشاط الوطني. تنصب فوق مستوى الحد المقبول، من العداء والكراهية للصحابة، ولعمر بن الخطاب بالذات. احتضان الأفكار والمشاريع المطروحة في السياسة الدولية. محمد باقر الصدر وشريعتي كان الإمام موسى الصدر من دعاة المشاركة الأقوياء، ومن رافضي منهج القطيعة ومنتقدي رجاله، ومروجيه، فلم يكن غريباً عليه إقامة مجلس تأبيني بوفاة الدكتور علي شريعتي، تناقلت وقائعه الصحافة اللبنانية، مما أثار استياء آية الله السيد مرتضى العسكري، فكتب إلى السيد موسى الصدر رسالة يلومه بعنف لإقامة مجلس فاتحة (للفاسق الفاجر المقبور علي شريعتي) وقاد السيد العسكري حملة ابتهاج برحيل خصمه المتنور. فكيف يجرؤ السيد الصدر على تكريمه في بيروت؟ أما موسى الصدر فكان جوابه، أنه بعث برسالة السيد العسكري كما هي مقرونة برسالة شخصية منه، إلى السيد محمد باقر الصدر في النجف الاشرف، الذي كتب بدوره رسالة تعنيف إلى السيد العسكري قائلاً له: من جعلك قيماً على الفكر الشيعي منتصراً لموقف الحزن على رحيل علي شريعتي، الذي سبق له القول بعد الاطلاع على رسالة للسيد محمد باقر الصدر في (الولاية) إن التشيع إذا طرح بهذا المفهوم فالمستقبل لهذا الطرح العظيم. والسيد محمد باقر الصدر كان في ذلك الوقت يتزعم الاتجاهات الجديدة للحوزة العلمية. وربما تنفس خصومه الصعداء لإقدام صدام حسين على إعدامه مع شقيقته بنت الهدى، فحُرم الإسلام من أخطر مفكريه المعاصرين والداعين إلى فهم جديد للتاريخ الإسلامي بما يعزز المشتركات، ويضعف المنهج التقليدي لفقهاء القطيعة بين المسلمين. إن الشيخ خير الله البصري، وهو من بناة العمل الإسلامي في العراق، يحتفظ بشهادة مثيرة حول هذا الالتباس. التشيع العراقي، والتشيع اللبناني. الفرق الملقوط بين مدرسة التشيع العراقي وشقيقتها اللبنانية أن المتنور في الأولى يطّل على الناس من خارجها، فكأن حركة التنوير تتوشج مع خيوط الانشقاق عن المؤسسة الدينية، وقد يكون المتنور رائداً علمانياً كعلي الوردي، أو تراثياً ماركسياً كهادي العلوي، ويندر أن يلتقي التنوير والانتظام في إطار الحوزة كحالة الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء التي لم تتكرر في هذا الانتظام. أما في المدرسة اللبنانية، فقد يسطع نجم المتنور من مؤسسة التشيع، كما في مدرسة السيد محسن الأمين العاملي، والممتدة والمتفرعة إلى بعض أبنائه والمستقرة في حارة حريك في الضاحية الجنوبية، على عنوان السيد محمد حسين فضل الله، والواضحة المعالم في كتابات السيد هاني فحص. وتختلف المدرستان لدى الإسلاميين العراقيين واللبنانيين الذين يتغذون من الوريد الايراني، ففي الحالة العراقية يبدو الإسلاميون، وهم ألصق بجغرافيا إيران، ألصق بالمألوف التقليدي وأعراف الحوزة في تيار القطيعة، ولو أنهم تلامذةً وأحزاباً، محسوبون على الإمام الخميني وثورته. والسبب غير الواضح أن الإسلامي العراقي الشيعي قادم دائماً أو على الأكثر من سلالة دينية ذات نفوذ يستمد منها تراثه الحوزوي والعائلي، وكأنه في غنىً مادام في بركة الفيض النجفي، عن التأثر بالمدرسة الجديدة للإمام الخميني، حتى في جانبها السياسي، ولولا موقفه المتشدد من النظام العراقي في عهد صدام حسين، لكانت طرق الاتصال بالثورة الإسلامية الإيرانية أضعف مما صارت عليه في الثمانينات الميلادية كملاذ وممول لحركة المعارضة الإسلامية. والدليل أن الإسلاميين العراقيين المحسوبين حتى اللحظة على إيران يفضلون التحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية، وهو عند الإمام الخميني تحالف شيطاني مريب. وفي الاتجاهات الفقهية، لم يُأخذ الإسلاميون العراقيون من مدرسة الإمام الخميني إلاّ القليل منهم رغبتها في صياغة خطاب المشاركة، وتستثنى من ذلك الجهود الخيرة للإمام السيد محمد باقر الحكيم. ويسجل على المدرسة العراقية الراهنة أنها لاتنتهي فقط إلى تراث القطيعة في التاريخ، بل إلى شيء من القطيعة مع المحيط العربي، وهو الأمر الذي يبرر بكونه استجابة طبيعية لقطيعة المحيط العربي ضد التشيع العراقي بعد تغيير النظام السياسي في نيسان 2003. ولطالما أشبعت رسائلي إلى السيد محمد باقر الحكيم رحمه الله، بالإلحاح على ضرورة ميل الإسلاميين نحو جذورهم العربية، ولعله أقتنع بقبول الأفكار الدائرة حول الفصل بين العروبة والقومية العربية، وكون النبي محمد كان عربياً ولم يكن قومياً عربياً. أما المدرسة اللبنانية فهي ألصق بمحيطها العربي وبشخصيتها الوطنية. فهي مثلاً تستفيد من الوريد الإيراني وتندمج عقائدياً مع الثورة الإسلامية، لكنها تحتفظ بشيء من الاستقلالية التي ورثتها من التربية الليبرالية ومن جذور مدرسة الأمين العاملي وظروفها المحلية. وكرد على خطاب المشاركة السائد في التشيع اللبناني ظهرت كتابات في زخم تيار القطيعة وثقافتها الصفوية، فتنشر في بيروت أكثر الآراء تطرفاً ضد عمر بن الخطاب وصحابة النبي(ص). عمر بين المجلسي وشريعتي يقول علي الوردي في كتابه لمحات اجتماعية من تاريخ العراق – الجزء الأول: إن الملا محمد باقر المجلسي الذي توفي في عام 1699، كان شديد التعصب لعقيدته، وقد أغرى الدولة باضطهاد جميع المخالفين، الذين كانوا موجودين في داخل الحدود الإيرانية، وقد أوقف الشاه الصفوي بعض أملاكه الخاصة في سبيل نسخ كتابه بحار الأنوار الذي يقع في (25) جزءاً وتوفيره للطلبة. ويُعد بحار الأنوار أضخم كتاب لدى الشيعة، وفي رأي بعض الباحثين ،والكلام للوردي، أن المجلسي أساء للتشيع بهذا الكتاب، أكثر مما نفعه؛ فهو قد جمع فيه كل ما عثر عليه من الأخبار والقصص والأساطير، لا فرق بين الغث والسمين منها، ثم وضعها في متناول كل من يريد الاغتراف منها، وجاء بعدئذ قرّاء التعزية وخطباء المنابر، فصاروا يأخذون منه ما يروق لهم، وبذا ملأوا أذهان الناس بالغلو والخرافة، وجعلوهم يحلقون في عالم من الأوهام. وقد تبنت الدولة القاجارية، هي الأخرى، هذا الكتاب فكان أول المؤلفات التي طبعت بعد دخول المطبعة الحجرية في إيران، وقد وردت إلى العراق منه نسخ كثيرة، مما أدى إلى انتشار معلوماته الغثة في أوساط الشعب العراقي على منوال ما حدث في إيران. ولك أن تختزل خمسين كتاباً صدر لجماعة " المستبصرين " بكونها استنسخت الكثير من تلك المعلومات في الكتب، التي صدرت لهؤلاء المتحولين. وكان الإمام الخميني قد أوقف طباعة أجزاء من موسوعة البحار حرصاً على وحدة المسلمين، وحفظ الأجيال الجديدة من تسرب تلك المعلومات إليها. والمجلسي متخصص في روايات التشهير بعمر بن الخطاب، حيث يمكن ردّ ما يتداوله الإعلاميون والمتعلمون والمتحدثون وبعض الفقهاء من معلومات حول عمر إلى مصادر المجلسي. ويشترك مع المجلسي مؤرخ موسوعي آخر، هو السيد البروجردي الكاظميني في كتابه جواهر الولاية. يقول علي شريعتي في كتابه التشيع العلوي والتشيع الصفوي: إن المجلسي وهو أبرز وجوه التشيع الصفوي يرسم للإمام السجاد صورة أعتقد أن أعداء آل علي الذين نصبوا لهم السيف يخجلون من نسبتها إليه. فإن العزة والوقار والهيبة وإليها صفات معروفة لبني هاشم لاتنكرها حتى الجاهلية، وإن المجلسي ينقل أخباراً مثيرة للغثيان!. إن علي شريعتي يشك في علمية المجلسي، ويسخر من رواياته ويقدم نموذجاً لها قصة زواج الإمام الحسين من ابنة كسرى يزدجرد. المنهج الصفوي بدلاً من التشيع الصفوي قد نتجنب مصطلح التشيع الصفوي مااستطعنا إلى ذلك سبيلا،ً لأن فريقاً من السياسيين صاروا يلحون باستخدامه، من باب التشهير بالتشيع، في إطار مشروع تعجيم الشيعة، الذي ظهر لأول مرة أثناء الاحتلال البريطاني للعراق وتصدى الفقهاء الشيعة بشكل خاص له. ومن الأمانة العلمية أن كاتب السطور لم يكن مبتدع هذا المصطلح، حيث صدر لأول مرة من منابر حسينية إرشاد في طهران، على لسان المفكر الإسلامي الشهيد علي شريعتي، وإن كنت معنياً بالدور الصفوي في مصادرة التشيع قبل أن تترجم كتابات علي شريعتي إلى العربية بأكثر من عشر سنوات، وعندما اطلعت عليها في منتصف الثمانينات، وجدت أن المشترك بيننا يتسع باتساع الهوة ما بيننا وبين التشيع الصفوي. واكتشفت أن هذا المفكر الذي وجد ميتاً في شقته بلندن عام 1977، عن ثلاثة وأربعين عاماً، كان مثلي من المتأثرين بكتابات الدكتور علي الوردي. ومن جانب آخر يبدو الرجل وهو إيراني فارسي قح، كأنه من الدعاة القوميين العرب في منهجه الثوري الجديد، والذي دفع حياته ثمناً له. وإذا عزفنا عن استخدام مصطلح التشيع الصفوي، لذلك السبب، وأسباب أخرى فلا يعني عدم وجوده.وقد أنكر بعض المتحدثين من الإعلاميين الشيعة تقسيم التشيع إلى علوي وصفوي وقالوا بوحدته. فإذا اتفقت جدلاً مع هذا الرأي، فالراجح عندنا عدم إغفال المنهج الصفوي في البحث التاريخي، ووحدة القياس المذهبي وفي أولويات دعاته. والصفويون أسسوا أول إمبراطورية شيعية كسروية لمواجهة الدولة العثمانية، وأعطوا للفقيه سلطة ودوراً أساسياً في قيادة الدولة. وأقاموا مؤسسات ومعاهد ومجالس علمية وأعرافاً وتقاليد ليس من السهولة أن تنزاح عن تاريخ التشيع. صاحب نظرية النطف – تلميذ الخميني الكشف العلمي لانتحال رواية تزويج الإمام الحسين من بنت كسرى، وإنجابه منها الإمام علي زين العابدين، الوحيد الذي نجا من مجزرة الطف في كربلاء. وانتهت إليه الإمامة الرابعة سيصيب بالانكسار والخيبة كلاً من الفريقين المبتهجين برواية الزواج، ففي الجانب العربي يقدّم الزواج المفترض مادة تاريخية صالحة لدعاة تعجيم الشيعة. وجعل هذا الزواج سببا في الميل الشيعي لإيران(*)!. وقد بنيت على الرواية المنتحلة أحكام قومية تمس الانتماء العروبي للتشيع العراقي وسواه. وفي الجانب الفارسي يوفر الزواج مادة تاريخية صالحة لدعاة نظرية النطف، التي اكتشفها الدكتور علي شريعتي في الأساطير الإيرانية، ومن القصاصين الإيرانيين الذين لايتورعون عن إلقاء النطفة التي تمثل جوهرهم العنصري. ومظهر استمرارهم القومي، في رحم أعدائهم حفاظاً على هذا (الجوهر المقدس) من الاندثار، وقد يبادرون إلى انتحال علاقات مصاهرة من هذا القبيل، إذا أدرك صناع الأساطير أن سلالة معينة، هي في طريقها إلى الانقراض، فيمهدون إلى اختلاق قصص وأساطير لربط آخر حلقات السلسلة التي كانت هي السبب في الانقراض. وفي هذا السياق نستطيع أن نفهم الخلفيات التي تقف وراء افتعال زواج الإمام الحسين ابن بنت النبي، من شهربانو بنت الملك يزدجرد، حيث يمثل ذلك آخر محاولة يلجأ إليها الساسانيون في إنقاذ وجودهم من الانقراض. إن زواج فتى من بني هاشم بفتاة من بني يزدجرد، يعبر في الوجه الآخر من القضية، عن اقتران أول السلسلة الجديدة، بآخر حلقات السلسلة القديمة، والإمام كما قال فيه الشاعر: وإن غلاماً بين كسرى وهاشم لأكرم من نيطت عليه التمائم وكأن نسبه القريشي – الهاشمي – العلوي لايؤهله لأن تناط عليه الكمالات البشرية. ولكن الأمر حصل مع الاسكندر، الذي يطيح بالسلالة الهخامنشية في إيران – ومن ثم يولد له منها أولاد وذرية، ويستمر بهم الجوهر محفوظاً، ولكن بعنوان إمبراطورية الاسكندر بعد إمبراطورية هخامنش، وقبلهم كان قوروش قد استمر وجوداً في صلب الماذيين. أما كيف تم الزواج المحمدي – الكسروي – فالقصة مستمرة: إذ سبق النبي جنوده في الوصول من المدينة إلى إيران بنفسه، لكي يعقد الصلح، وأنه دخل قصر يزدجرد قبل إسلام ابنته، وعقدها على حفيده الإمام الحسين، ثم جاءت فاطمة لتدخل كنتها في دين الإسلام. وهكذا دخل كسرى في أهل بيت الرسول، لكي تبقى القومية القديمة خالدة في المذهب الجديد، بتعبير الدكتور شريعتي ويصبح المذهب الجديد مركباً من الشاه، والنبي في نسب الإمام زين العابدين. إن الدكتور شريعتي كان سيموت بالعبقرية ميتة أبي تمام، أو يموت بالغيلة بعد الكشف الخطير، الذي لم نستعرض سوى جوانب منه. وهو ماحدث لعبقري التشيع العلوي – العربي – فيقول في النتائج المستهدفة من أسطورة الزواج الهاشمي الكسروي: 1-إظهار عمر بمنزلة العدو رقم واحد لعلي وشجب مناوأته لحامل لواء الإسلام. والحلقة الأولى في سلسلة أهل البيت وأبي الأئمة. وذلك انتقاماً من دور عمر البارز في القضاء على الدولة الساسانية، وتقويض وجودها. 2-إلقاء تبعة انقراض الدولة الساسانية على عمر لاعلى الإسلام. 3-تلقين الناس على أن الخلافة كانت تعادي السلطة الساسانية أما الإمامة فكانت بمنزلة المدافع عنها. 4-إن تسنن عمر هو عدو السلطنة الساسانية (قصة بنت يزدجرد) بينما كان علي محامياً عنها!!. 5-إن دخول إيران في الإسلام لم يقع إثر فتح المدائن بواسطة عمر، أو غزو المسلمين لإيران، بل هو نتيجة مجيء النبي وابنته فاطمة إلى المدائن ودخول قصر يزدجرد وعقد شهربانو لابنه الحسين – ومن ثم دعوتها إلى الإسلام. 6-إن يزدجرد آخر أكاسرة الساسانيين كان قد انكسر بواسطة عمر، وإن النبي هو الذي أعاد له شأنه ومكانته المرموقة بالمجتمع الإيراني. وذلك من خلال إدخاله في بيت النبي عبر أحدوثة الزواج ليصبح أحد طرفي السلسلة وطرفها الآخر هو النبوة. 7-إن بنت يزدجرد تمثل البقية الباقية من السلالة الساسانية وقد أسلمت بدعوة من فاطمة بنت النبي وزوَّجها النبي لابنه. وشفاعة علي لدى عمر نجَّت شهربانو من مخالبه. 8-إن عمر هو الذي حرم السلالة الساسانية من حق الحكم كما أنه حرم السلالة المحمدية من حق الخلافة. لم يتوقف علي شريعتي عند هذه المشارف الخطيرة. وكان لابد من أن ينتقل إلى مراحل أخرى يصبح فيها المرجع المجدد والإصلاحي الثوري في تاريخ التشيع. فقتل قبل اندلاع الثورة التي كان شريعتي مفكرها. ولم يكن ممكنا للإمام الخميني أن يقوم بدور تلميذه علي شريعتي في التصدي للمنهج الصفوي الكسروي على صعيد نظري، لكنه وفي مجمل مسالكه السياسية وفي خطابه الإعلامي بعد نجاح الثورة كان يعزز منهج الإسلام الواحد. إن المدخل الأرحب والأوضح إلى عالم الخميني. يمر أولا فوق ارض مفروشة بسجادة شريعتي، ومصنوعة من أوراقه المحمدية. علي شريعتي قتل في شقته بعد كشوفاته التاريخية والفلسفية، والقاتل ليس الشاه محمد رضا بهلوي وحده، بل معه الجماعات التي قطعت الطريق على عبقري الثورة التوحيدية، الذي كان متوقعاً له، لو عاش في الثورة أن يكون فيها المرجع المشترك الفكري لمسلمي إيران والمنطقة. استشهد علي شريعتي كما لو كان مجاهداً على الثغور في جيش الإسلام الذي أرسلته المدينة لفتح بلاد فارس غارقاً بمداد الحبر المسفوح، شاهداً وشهيداً على عدالة أهل البيت، عارفاً لامعترفاً فحسب، بالدور العمري في تحرير شعبه من نيران الشرك، وتطهير بلاده من الكسروية الصفوية، فاستحق من شيخه وإمامه الخميني إطلاق اسمه على شارع كبير في طهران وتأسيس منتدى خاص بفكره ومنهجه القويم. منبر الوائلي وهوية التشيع شكلت محاولة الوائلي تطوراً نقل المتحدث على المنبر من روزخون إلى مؤرخ أكاديمي، خرج من الحوزة الدينية ولم يخرج عليها، فكان يقدم عصارة جهده بكلام تتوازن فيه الجمل بحذر بالغ، وكرسّ الشيخ الوائلي القول بمنع أئمة أهل البيت، سبّ الصحابة، واعتمد على روايات التاريخ العام. في مؤلفات الطبري والبلاذري والمسعودي، فضلاً عن المصادر التاريخية الحديثة. وهو بين المكتبة والمحاضرة والكتاب. وقد برز له دور استثنائي، عندما كانت حرب على الأرض العراقية – الإيرانية تجرف غابات الجنود والنخيل وتزوّد الأسماك في شط العرب ونهر كارون بلحوم البشر.. وعلى الطروس وفي المكتبات ودور النشر، حرب استمرت إلى ما بعد توقف الحرب الأرضية. وقد دخل إلى ميدان الصراع متطوعون لإسعاف الفريقين، وانحدرت السجالات إلى قيعان الزيف والزلفى وامتهان الكرامات والطعن في أعراض المسلمين، وظهور مجلدات باهظة الكلفة لأسماء مجهولة، ما بين باكستان ولبنان، وعرفت جماعة "المستبصرين" التي كانت تواجه طعن الشيعة بطعن عمر، وترفع من شأن الإمام علي، الذي لا يحتاج إلى روافع بمنهج تنقيص الصحابة. في هذا المحتدم، وعند مزدحم الصراع، كتب الشيخ الدكتور أحمد الوائلي (هوية التشيع). وكأنه كان يرد أصلاً على مرويات القطيعة. في الوقت الذي يواجه عند الطرف الآخر محاولات لتعجيم التشيع، وطعن الشيعة بإسلامهم، فقدم الوائلي أطروحته العلمية بترسيس الجذر العربي للتشيع، ومسقط رأسه الجزيرة العربية، وزعيمه هاشمي من قريش، ولسانه لسان عربي مبين، ودعوته إلى عروبة الخلافة، بخلافة الإمام القريشي، ووجوب الأذان وكتابة العقود بالعربية، فاستعرض لائحة بعلماء اللغة والنحو والصرف وهم من أهل التشيع. والوائلي صعب المراس، والأصعب في الانجرار إلى مساجلات الفرق، وكان ينأى بنفسه عن إشكالات العمل السياسي، ورفض زيارة إيران، كما رفضها كاتب السطور، مادامت الحرب قائمةً بين البلدين. وحصر حركة كتابه بالعصور الإسلامية المتقدمة، حتى لا ينزل إلى مشتجر الخلاف بعد الدولة الصفوية. وهو يبدأ مقدمة كتابه (بالصلاة والسلام على محمد وآله الأطهار، وأصحابه الأبرار والتابعين) وفي هوية التشيع الذي صدرت منه ثلاث طبعات في الثمانينات، ينقل من كتب التراجم مثلاً أن يحيى بن يعمر كان شيعياً من القائلين بتفضيل أهل البيت، من غير تنقيص لغيرهم، كما في وفيات الأعيان، وفي الاستيعاب أن أبا الطفيل عامر الليثي أدرك من حياة النبي ثماني سنوات، وقيل: إنه آخر من مات ممن أدرك النبي عن مئة عام. وكان محباً لعلي ومن أصحابه في مشاهده وكان ثقةً مضموناً، يعترف بفضل الشيخين إلاّ أنه يقدم علياً. رواد الحضارة العربية من أهل التشيع ويستعرض الشيخ الوائلي لائحة بأسماء الرواد الأوائل من بناة الحضارة العربية، ومؤسسي علومها وثقافاتها والمنسوبين إلى التشيع. وباستعراض المدونة أسماؤهم، لا تواجه قائلاً منهم بالقطيعة، وليس له نشاط سياسي خاص، ولم يتكتلوا في كوى حزبية أو طائفية ولا يعرف الواحد منهم إذا كان فعلاً من أهل التشيع أم من أهل السنة أو المعتزلة. وعلى بعضهم خلاف عند المؤرخين والتباس في انتماءاتهم، فيحسب بعضهم على هذا الفريق أو ذاك، لحياده وعلميته وتجانسه مع حركة الإمام علي وأصحابه الأوائل في حركة الدولة الراشدة. وهذه لائحة يقدمها الشيخ الوائلي في هوية التشيع لبعضهم قائلاً: فمن الرواد في علم السير والتواريخ عبد الله بن أبي رافع صاحب كتاب تسمية من شهد من الصحابة مع علي (ع)، ومحمد ابن اسحق صاحب السيرة النبوية، وجابر بن زيد الجعفي ومن الرواد في علم النحو: أبو الأسود الدؤلي، والخليل بن أحمد إمام البصريين، ومحمد بن الحسين الرواسي إمام الكوفيين وأستاذ الكسائي والفراء، وعطاء بن أبي الأسود الدؤلي، ويحيى المبرد بن يعمر العدواني، ويحيى بن زياد الفراء، وبكر بن محمد أبو عثمان المازني، ومحمد بن يزيد أبو العباس المبرد، وثعلبة بن ميمون أبو إسحق النحوي، ومحمد بن يحيى أبو بكر الصولي، وأبو علي الفارسي الحسن بن علي، والأخفش الأول أحمد بن عمران، ومحمد بن العباس أبو بكر الخوارزمي، الذي يقول عنه الثعالبي في يتيمة الدهر: نابغة الدهر وبحر الأدب وعيلم النظم والنثر وعالم الظرف والفضل، كان يجمع بين الفصاحة والبلاغة ويحاضر بأخبار العرب وأيامها ويدرس كتب اللغة والنحو والشعر، والتنوخي علي بن محمد، والمرزباني محمد بن عمران صاحب التصانيف الرائعة في علوم العربية، وملك النحاة الحسن بن هاني، ومعاذ الفراء واضع علم التصريف، وعثمان بن جني أبو الفتح وأبان بن عثمان الأحمر، ويعقوب بن السكيت صاحب إصلاح المنطق، وأبو بكر بن دريد صاحب الجمهرة، ومحمد بن عمران المرزباني صاحب المفصل في علم البيان وصفي الدين الحلي صاحب الكافية في البديع والعالم النحوي الحسين بن محمد صاحب كتاب صنعة الشعر، والخ. وعن ابن خلدون صاحب المقدمة، أن أصحاب علي عندما فاتته الخلافة اكتفوا بالتأفف والأسف. بمعنى أنه ينفي ضمنياً حركة المقاطعة وفي هذه الاستشهادات يستشرف الوائلي قيم المشاركة نائياً عن نظرية القطيعة. وعلى صعيد شخصي، كنت والشيخ الوائلي نلتقي ثنائياً، ولم يشترك معنا في دمشق بأعمال المعارضة، وكان يدعوني سراً ليقرأني قصيدةً في الحنين لبغداد. فأحفظ بعض مقاطعها. وأتمثل بها في مقابلاتي شرط عدم الإشارة إلى قائلها. وكان أول المتبرعين للمرضى والفقراء والمحتاجين. ولما أبلغه الأطباء باقتراب أجله، بعد إصابته بالسرطان، طلب حمله إلى العراق في الأسبوع الأول من سقوط النظام العراقي في نيسان 2003 فتوفي بعد يوم من وصوله وسار في موكب تشييعه ثلاثة ملايين حزين، في أكبر جنازة. فكان ذلك استفتاءً شعبياً بفضله وحياده وتوازنه، وانتصاراً لمنبر المشاركة على روزخون القطيعة. الروافض لم يطلق على أصحاب الإمام علي مصطلح الرافضة وقد شاركوا في إدارة الدولة الجديدة، لكن وصف أتباعه، وعلى وجه الدقة الشيعة، بأنهم روافض يتعارض مع أمرين: الأول ذهاب أصحاب الإمام إلى مذهب المشاركة وإنهاء القطيعة. والثاني أن الأغلبية المطلقة للمراجع السنية وأقوال أئمة المذاهب ودعاتهم حتى اليوم تؤكد بيعة الإمام علي وعدم مواصلة اعتكافه أكثر من ستة أشهر، وقيل أقل من ذلك. وهذا إقرار بأن أصحاب الإمام وشيعته لم يكونوا من الروافض، إذ لا يستقيم القول بالمشاركة والقول بالرفض. فإما أن يكونوا مشاركين، وهذا ما عليه المراجع السنية وما يقول به أهل التشيع قبل ظهور نظرية القطيعة فهم ليسوا روافض، وإما أن يكونوا مقاطعين للأبد. ويصح قول القائلين بالقطيعة، فهم روافض. ويكون أهل السنة من دعاة القطيعة لا المشاركة والقائل بالرفض هو القائل بالقطيعة. سواءً كان من أهل التسنن أم من أهل التشيع وحجم القائلين بالقطيعة سينتعش، وتتكرس نظريتهم، وتكسب دعاةً جدداً، والدليل أن الشيعة روافض، بمنطوق سني، فكيف يدعو كاتب السطور إلى نظرية المشاركة التي لا يؤيدها أهل السنة بهذا المنطوق؟. إن طعن الشيعة بمصطلح الرافضة يؤكد عدم حصول البيعة لأبي بكر وعمر، وأن الإمام علي كان بالفعل جليس البيت، لم يغادره منذ وفاة النبي حتى ظهور اسمه في مجلس الشورى. وهذا نصر مبين لما يسمونه الآن بالمنهج الصفوي القائم على رفض الإمام علي وأصحابه المشاركة في دولة أبي بكر وعمر. فيلتقي المتشدد من أهل القطيعة، وهم من يسمونهم الصفويين مع المتشددين الذين يصمون الشيعة بالروافض في الكتب والخطب والمقابلات التلفزيونية، ظانين أنهم يدفعون بهذا الكلام الأذى عن الشيخين. واصل الرافضة في قواميس اللغة (كل جندٍ تركوا قائدهم) والرافضة فرقة منهم. والرافضة فرقة من الشيعة قال الأصمعي: سمّوا بذلك، لأنهم بايعوا زيد بن علي ثم قالوا له تبّرأ من الشيخين. فقال: لا.. إنهما وزيرا جدي. فتركوه ورفضوه وأرّفضوا عنه، والرافضة غير الشيعة كما الناصبة غير السنة، وكان العقاد يستخدم هذا الفصل عندما يذكر أحدهما. وإن الفقيه الشيخ أحمد الوائلي ينفي في كتابه (هوية التشيع) أن يكون أصحاب زيد طلبوا منه البراءة من الشيخين، ويهاجم قائلاً: 1-إن هؤلاء الذين طلبوا البراءة لو كانوا شيعة، فلا بد أنهم حريصون على نصر زيد وكسب المعركة ضرورة أن مصيرهم مرتبط بمصير زيد، فإذا هزم فمعنى ذلك القضاء عليهم قضاءً تاما،ً خاصة وأن خصومهم الأمويين، الذين يقتلون على الظنة والتهمة كل من يميل إلى آل أبي طالب، فما الذي دفعهم إلى خلق هذه البلبلة، التي أدت إلى انفضاض جند زيد عنه، وبالتالي إلى خسارته للمعركة فموته شهيداً على أيدي الأمويين، فلا بد أن يكون هؤلاء ليسوا من الشيعة، وإنما هم جماعة مندسة أرادت إحداث البلبلة للقضاء على زيد واحتمال كسبه للمعركة. 2-وعلى فرض التنزل والقول بوجود فرقة خاصة من رأيها رفض الشيخين، فما معنى سحب هذا اللقب على كل شيعي يوالي أهل البيت، حتى أصبح هذا الأمر من المسلمات. 3-إرادة لسحب اللقب وهو رافضي على كل شيعي، مبالغة في التشهير بهم وشحن المشاعر ضدهم، مما سنلمح كثيراً من الأمثلة له، ومما يؤيد على أنها تتمشى مع تخطيط شامل يستهدف محاصرة التشيع والتشهير به وبكل وسيلة سليمة كانت أم لا. 4-قد يقال: إنه لاشك في وجود جماعة شتّامين للصحابة، فما هو السبب في كونهم من هذا الصنف في حين تدعون أن الشتم لا تقره الشيعة ولا أئمتهم، وللجواب على هذا السؤال لا بد من الرجوع إلى مجموعة من الأسباب تشكل فعلاً عنيفاً استوجب رد الفعل. منها المطاردة والتنكيل المروع للشيعة وبالشيعة وما تعرضوا له من قتل وإبادة على الظنة والتهمة وفي أحسن الحالات الملاحقة لهم والمحاربة برزقهم ومنعهم عن عطائهم من بيت المال وفرض الضرائب عليهم وعزلهم اجتماعياً وسياسياً وبوسع القارئ الرجوع إلى التاريخ الأموي في الكوفة وغيرها من المدن الشيعية ليقف بنفسه على ما وصلت إليه الحالة وما انتهى إليه ولاة الأمويين من قسوة ومن هبوط في الإنسانية إلى مستويات يتبرأ منها في العهدين الأموي والعباسي. إن مثل هذا الاضطهاد يستلزم التنفيس عن الكبت، فقد يكون هذا التنفيس في عمل ايجابي، وقد يكون سلبياً فيلجأ إلى هذا الشتم. ولسنا نبرر ذلك بحال من الأحوال، إن الذي أسس لهذه الظاهرة هم الأمويون أنفسهم، لأنهم شتمواً الإمام علياً على المنابر ثمانين سنة، واستمر هذا الوضع حتى أن محاولة الرجل الطيب عمر بن العزيز لم تنجح في منع الشتم. 5-انتهى نص الشيخ الوائلي، فنقول: إذا كان الأمويون يشتمون على منابرهم الإمام علياً، وينتقصون أهل البيت كما في المصادر السنية بشكل عام. فهل رد الفعل على الأمويين بشتم الخلفاء الراشدين. وعمر بالذات يشتم في كتب تتوالى في الصدور بطبعات جديدة في حملة منظمة، وعلى القنوات الفضائية. فما علاقة ظلم بني العباس أبناء عمومتهم العلويين وكلاهما من الفرع الهاشمي بسب عمر وطعنه بلا هوادة ودون هدنة؟. وهل سيغضب أبو حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل لنقد بني أمية وبني العباس؟. تنوير شيعي تنهض حركة تنويرية في الإحساء والقطيف، فيكتب الدكتور توفيق سيف في الاستبداد ونظرية السلطة في الفكر الشيعي. والدكتور فؤاد إبراهيم في الفقيه والدولة، وحمزة الحسن وزكي الميلاد في المنشور من الأبحاث وتتمحور اتجاهاتهم الفكرية نحو نظرية المشاركة أو على الأقل، تنزيه الملة من شوائب السلطنة الصفوية. يقول الدكتور فؤاد إبراهيم في كتابه المرجعي (الفقيه والدولة – الفكر السياسي الشيعي) الصادر عن المكتبة الأدبية في بيروت سنة 1988. "إن الشاه إسماعيل الصفوي يرمي من وراء ميثولوجيا غارقة في الغيبوبة والخرافة إلى إضفاء وشاح من القدسية على سلطانة. مما يجعله جامعاً لرئاسة الدين والدولة، وبالتالي إلى انتفاء الحاجة إلى اقتسام السلطة مع العلماء. فقد جمع السلطتين الدينية والدنيوية. وإن إدماج العلماء في جهاز الدولة في أيامه لم يتجاوز مهمة ترويج التشيع وولاية الأمور الحسبية"(*). وفي توق منه إلى تحصيل الاصطفاف الشيعي الجماهيري وكسب تعاطف رجال الدين الشيعة، قام الشاه إسماعيل باعمار المشهد العلوي في النجف، والمشهد الحسيني في كربلاء، وبناء حرم الكاظميين، وتشييد جامع الصفويين بجوار حرم الكاظم على مقربة من بغداد. وفي حقيقة الأمر أن التشيع لم يكن يعني بالنسبة للشاه إسماعيل إلا بمقدار ما يعزز سلطانه السياسي، فلم يتجاوز التشيع الصفوي في عهد الشاه إسماعيل " مسائل سطحية استحدثها في عصره أو أحيي مواتها كاضطهاد أهل السنة وسب أعداء الشيعة في مختلف العصور وتنظيم الاحتفال بذكرى استشهاد الحسين على النحو المبالغ فيه. فتماهي الصفويين في التشيع كان في أجلى مقاصده إيجاد هوية سياسية للدولة وإضفاء مشروعية على السلطان الصفوي، ولذلك فإن الإحياء الصفوي للتشيع طال أدوات الإثارة والتعبئة لا أدوات التوعية في المذهب الشيعي، الأمر الذي افقد التشيع صورته الأصلية، حين أضفى وشاحاً من التعصب والخرافية والغيبوبة على المذهب الشيعي لجهة تحصين الدولة وضمان استقلال إيران، وتحويله في مرحلة لاحقة إلى أداة للتوسع، فالتشيع الصفوي كان سياسياً بدرجة أساس. وسنقف قليلاً عند أهم نتائج واستخلاصات دراسة العقل السياسي – الأيدلوجي الصفوي، ولعلنا نجد في تحليل د. علي شريعتي للتشيع الصفوي في جملة من كتاباته مادة ثرية ومفيدة للغاية في هذا الموضوع، وقد اظهر شريعتي كفاءة عالية، قل نظيرها في الوسط الإيراني والشيعي بوجه عام. إن التوظيف السياسي الصفوي للمذهب الشيعي في بناء الشرعية السياسية والدينية لسلطانها، وإحالة التشيع إلى أيدلوجيا قومية سياسية للدولة الصفوية، انتهت إلى شبه قطيعة مع المذهب الشيعي نفسه، بل أن الدولة الصفوية، الوارث التاريخي والمذهبي للدولة البويهية أضفت لونها الخاص على المذهب الشيعي الذي أفادت منه تحصين الدولة واستعملته خطاباً للتعبئة العامة وإن تطلب في أحيان كثيرة إضفاء مسحات عقدية مستحدثة على المذهب الشيعي كالتصوف والاعتزال، أفضت حسب د. علي شريعتي إلى نشوء " خليط من فلسفة النظام الحاكم والروح القومية والتصوف، وأن هذا الخليط الكيماوي الذي غطي بلواء التشيع واسمه، إنما يدفع نحو الانحطاط ويبرره، وهو أعدى أعداء التشيع العلوي نفسه. هذا الخليط نفسه يؤول إلى ترويض التشيع وابتزازه، يسلب منه مضمونه الحقيقي ويحيله إلى مجرد أداة دعائية تعبوية محضة، أو حسب د. شريعتي إلى تشيع المصلحة لا تشيع الحقيقة. وقد لا نذهب مع الدكتور فؤاد ابراهيم في اعتبار الدولة الصفوية الوارث التاريخي والمذهبي للدولة البويهية في أكثر من وجه. إن اتجاهات البويهيين تتحدد برؤية زيدية ملتزمة بإمامة زيد بن علي وإقراره بخلافة أبي بكر وعمر. فيما قامت الدولة الصفوية على أساس البراءة منها وجعل سبهما بما يقابل إعلان الشهادة للمسلم. وكان موقف البويهيين إيجابياً من الدولة العباسية. على الأقل في استمرار عمل الخليفة. وثالث الفروق بينهما، أن البويهيين وإن استحدثوا بعض الطقوس الحسينية، فقد كانوا أقرب إلى فهم الحضارة العربية فاندمجوا بها. إن الصفويين كانوا مؤسسي تيار القطيعة، والبويهيون دعاة مشاركة. هاشم الحسني: كسر القطيعة و بواقعية الإمام على خلاف غالبية مؤرخي القطيعة من المرتبطين بالمؤسسة الدينية، ينفرد المؤرخ هاشم معروف الحسني بموقف ثالث ويكسر مناهج القطيعة ويقر بعلاقات طيبة بين الإمام علي وعمر بن الخطاب ويطرح مسوغاً للإمام علي على ضوء مبدأ الأمر الواقع وأخلاقيات الإمام ومسؤوليته الشرعية إزاء صراع الإسلام مع الإمبراطوريات المجاورة. وهذه مرتبة متقدمة في الكتابات عند مؤرخي التشيع الملتزمين بمناهجه التقليدية والتزامه بالمقولات الشيعية المصادق عليها. لكنه لا يقول بالقطيعة ولا يضع الإمام في معتكف العزلة جليس البيت ثلاثة عشر عاماً حسب روايات أهل القطيعة، و لايذهب برواية كسر ضلع الزهراء إلى مراتب عليا، لكنه يشير إلى ضرر أو أضرار أوقعها عمر بن الخطاب بابنة النبي (ص) لعدم أخذه بالوصية وحرمان ابن عمها من الخلافة الأولى وموافقة أبي بكر وعمر وفاطمة الزهراء عند مرضها، لكنه يستخدم السيناريو التقليدي، الذي لايقلل من أهمية الاعتراف بوقوع الزيارة وحديث أبي بكر للزهراء. وفي ما يشبه الاقتحام وبحمية علوية في الرد الضمني على القائلين بعزلة الامام والمسلمون يواجهون الامبراطوريات ويقيمون دولة كبرى في الشرق يقول المؤرخ الحسني: ”أما أمير المؤمنيين(ع) فلم ينقل أحد من المؤرخين أنه وقف موقف المعارض لخلافة ابن الخطاب، أو بدا منه ما يسيء إلى صلاته به، بل رضي لنفسه أن يكون كغيره من الناس، لا يذكر لمن مضى ولمن جاء من بعده إلا المحاسن، ولا ينطق إلا بلسان البررة الأطهار، يمنحه النصيحة ويزوده برأيه كلما أشكل عليه أمر من الأمور أو طرأ حادث جديد لم يسبق له نظير في حياتهم من قبل تسيره مصلحة الإسلام وحدها ولا ينظر إلى الحكم والحاكمين إلا من هذه الزاوية، ومادام الإسلام يسير بتلك السرعة في ماوراء حدود الحجاز وعروش أولئك الحكام تتهاوى تحت أقدام الفاتحين، وأصوات المؤذنين تنطلق من الأعالي والسهول ومن على سطح الكنائس ومن كل مكان، مادام الإسلام يسير بتلك السرعة والمسلمون بخير لا يهمه من تولى الحكم وكيف تولاه، وطالما كان يردد على مسامع الناس ويلقي عليهم من دروسه الرائعة، والله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن جور إلا عليّ خاصة. لقد ساهم أمير المؤمنين في الحياة العامة ما وسعه، وأدى ما عليه للجمهور من تعليم وتفقيه وقضاء على مدى أوسع مما أداه في عهد أبي بكر حيث اقتضت الظروف ذلك. ويحدث التاريخ عن عمر بن الخطاب بأنه كان يحترم قوله، ويقف عند رأيه حتى في غير التشريع، ويقول: لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن، وتنص المرويات على أن أمير المؤمنين هو الذي وضع للمسلمين تاريخهم الذي أرخوا به و لايزال حتى اليوم. ولقد جاء في ذلك أن رجلاً جاء إلى ابن الخطاب يخاصم آخر ببدين له عليه ومعه صك مكتوب فيه استحقاق أصل المال وأنه يستحق شعبان، فلما ألقى بصره عليه أدرك مواضع النقص وتوجه إلى الدائن يسأله أي شعبان هذا؟ أشعبان هذه السنة أم التي بعدها. وأجابه الطرف الآخر، ولكنه لم يكن ليطمئن لقوله مادام كل منهما يدعي أمراً والكتابة لم تنص بصراحة على تاريخ الأداء، والناس يوم ذاك لم يكن لديهم تاريخ خاص فكان بعضهم يؤرخ بعام الفيل، وآخرون يعتمدون تاريخ الدولة المجاورة لهم، فأجمع رأي ابن الخطاب على أن يضع للمسلمين تاريخاً يعتمدونه في أمورهم، فجمع الصحابة ليقف على رأيهم في هذا الموضوع واختلفت آراؤهم في ذلك أشد الاختلاف، وكادوا أن يتفرقوا بدون أن ينتهوا إلى نتيجة حاسمة، لولا أن علياً(ع) قد أقبل عليهم بالمعهود من رأيه السديد، واتجه إليه ابن الخطاب يسأله، فقال(ع) نؤرخ بهجرة الرسول من مكة إلى المدينة، فأعجب عمر بن الخطاب برأيه وهتف يقول: لازلت موفقاً يا أبا الحسن. واقترن رأيه هذا بإعجاب الحضور أيضاً لأن هجرة الرسول كانت البداية لانتصار الإسلام على الشرك وحدثاً تاريخياً لعله من أبرز الأحداث في تاريخ الدعوة من حيث نتائجه، يذكرنا بالتضحيات الجسام التي قدمها علي بن أبي طالب لينتشر الإسلام في شرق الأرض وغربها. وجاء في شرح النهج عن الحسن بن محمد السبتي أنه قرأ في كتاب أن عمر بن الخطاب نزلت به نازلة فقام لها وقعد لمن عنده من الحضور: يا معشر من حضر ما تقولون في هذا الأمر، فقالوا يا أمير المؤمنين: أنت المنفزع، فغضب وقال: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً} أما والله إني وإياكم لنعلم بجدتها والخبير بها، فقالوا: كأنك أردت علي بن أبي طالب، فقال: وأنى يعدل بي عنه، وهل طفحت حرة بمثله؟ قالوا فلو دعوته يا أمير المؤمنين، فقال: هيهات أن هناك شمخاً من هاشم وأثره من علم ولحمة من رسول الله، إن علياً يؤتى ولا يأتي فامضوا بنا إليه فمضوا نحوه. لقد كان علي(ع) يتمنى أن يكون ولو جندياً مع أولئك الغزاة إلى ماوراء الحدود وما داموا يحملون إلى تلك البلاد رسالة محمد(ص) التي كان يفنى في سبيلها ولا يفكر بغيرها، ولا يضره إذا تحققت أهدافه أن يكون أميراً أو مأموراً، وطالما كان يرمي بنظراته تلك الجموع المدججة بالسلاح تودع المدينة في طريقها لخارج الحجاز ويتمنى لو يتاح له أن يكون معهم حيث يريدون ولكن ذلك كان محظوراً عليه وعلى غيره من كبار الصحابة فيعود طاوياً قلبه على هم جديد فوق ماطواه عليه من هموم وأحزان. لقد اختزل الحسني في هذا النص عناصر منهج آخر يتعارض مع فكر القطيعة ومروياتها ومخيلتها، فالإمام علي في هذه الرؤية التي يتبناها كتابنا هي موقع الإمام علي في نفس عمر وتقويمه له شامخاً عزيزاً. وفي المقارنة بين صورة الإمام علي عند عمر وصورته عند أهل القطيعة قبل وبعد أن تلتقطها الدولة الصفوية، فتنزل بالإمام علي منازل تمس أنفته، وهو على حمار ووراءه فاطمة، يطرق أبواب الأنصار وحوله ولداه الحسن والحسين فإلى أي مشهد ينتهي مريدو الإمام والسائرون على مدرسة أهل البيت، أعلى حمارٍ في جنح الليل وحيداً إلا من ابنة الرسول وابنيه يبحث عن نصير فلا يستجيب له أحدٌ من الأنصار أم هو في ضمير عمر ووجدانه (يُؤتى ولا يأتي) ؟. |