عندما توفيت الآنسة أميلي غريرسون (Emily Grierson)، حضر الجميع مراسيم جنازتها. الرجال من أجل التعبير عن حبهم الكبير لهذه المرأة التي كانت صرحا فهوى فجأة، والنساء يدفعهن الفضول لرؤية بيتها الذي لم يدخله أحد باستثناء الخادم المكلف بمهام البستاني والطباخ طوال العشر سنوات الماضية.
كان بيتا كبيرا مربع الشكل، ذا طراز كان شائعا في السبعينات، سبق أن طلي باللون الأبيض، تعتليه قباب وأبراج وتحيط به شرفات دائرية، يقع على ما كان يعرف في يوم ما بشارعنا المفضل. لكن الكراجات ومحالج القطن التي زحفت عليه طمست فيه كل ملامح الوقار، باستثناء بيت الآنسة أميلي الذي ظل رافعا هيكله المتداعي بعناد وغنج، شامخا وسط عربات القطن ومضخات الغاز.
والآن رحلت الآنسة أميلي كي تلتحق بممثلي تلك الأسماء الطنانة الراقدين في المقبرة المعزولة تحت أشجار السدر بين قبور جنود الاتحاد المجهولين الذين سقطوا في معركة جيفرسون.
كانت الآنسة أميلي في حياتها تمثل نوعا من الالتزام المتوارث المفروض على المدينة والذي يعود إلى ذلك اليوم من عام 1894 عندما قام الكولونيل سارتوريس ، عمدة المدينة، وصاحب القرار الذي يمنع المرأة الزنجية من الخروج إلى الطريق من دون مريلتها، بإعفائها من الضرائب، ذلك الإعفاء المرتبط بوفاة أبيها ومن ثم تحول بعد ذلك إلى حالة دائمة. ولم تكن الآنسة أميلي لتقبل بالصدقات، ولهذا لجأ الكولونيل سارتوريس إلى اختلاق رواية تقول بأن والد الآنسة أميلي سبق له أن قدم قروضا للمدينة التي ترى بأن هذه هي الطريقة الأمثل لسداد هذا الدين. لن يبتكر هذا إلا رجل من نمط الكولونيل في سلوكه وأخلاقه وطريقة تفكيره، ولن يصدق ما ذهب إليه إلا امرأة فقط.
عندما جاء رجال الجيل التالي بأفكارهم الأكثر حداثة ليصبحوا عمدا ونواب حكام، فإن هذا الترتيب ما عاد مقنعا لهم. مع بداية العام بعثوا لها ببلاغ تسديد الضريبة. حل شهر فبراير دون أن يحصلوا على رد منها. كتبوا لها رسالة رسمية يطلبون منها الحضور إلى مكتب الشريف وفي الوقت الذي يناسبها. وبعد حوالي أسبوع كتب لها العمدة بنفسه يعرض عليها أن يقوم بزيارتها أو أن يبعث لها بسيارته. جاءه الرد مدونا على ورقة قديمة حائلة اللون وبخط رقيق باهت يعلمه بأنها توقفت عن الخروج منذ زمن، وكان البلاغ مرفقا مع الرد دون ملاحظة أو تعليق.
قاموا بعقد اجتماع لمجلس إدارة المدينة، وبعثوا بمندوبين عنهم لمقابلة الآنسة أميلي في بيتها. قرعوا الباب التي لم يعبرها زائر منذ توقفت عن إعطاء دروس في الرسم على الخزف الصيني قبل ثمان أو عشر سنين. قادهم الزنجي العجوز إلى داخل ردهة معتمة ومنها إلى سلالم أكثر عتمة مشبعة بالغبار والرطوبة، وانتهى بهم داخل غرفة الجلوس، وكان أثاثها فخم في شكله مغلف بالجلد. عندما أزاح الزنجي الستارة عن أحد النوافذ، كشف الضوء لهم التشققات المنتشرة في الجلد، وعندما جلسوا تصاعد غبار خفيف حول أفخاذهم راحت جزيئاته تتمطى داخل خطوط أشعة الشمس المنسلة من النافذة. على مسند ذي لون مذهب داكن أمام الموقد كانت تنتصب صورة لوالد الآنسة أميلي رسمت بأقلام الشمع الملونة.
نهضوا واقفين عندما دخلت عليهم. كانت امرأة بدينة صغيرة الحجم تتلفع باللون الأسود، حول جيدها سلسلة ذهبية تتدلى حتى خصرها وتختفي تحت الحزام، تتوكأ على عصا سوداء ذات مقبض من ذهب خابي اللون. كانت منتفخة مثل جسد ترك غاطسا في ماء راكد زمنا، ذات بشرة شديدة الشحوب، وكانت عيناها الضائعتان بين طيات وجهها كأنهما فحمتين صغيرتين مضغوطتين داخل قطعة عجين تتحركان من وجه إلى آخر بينما الضيوف يذكرون لها أسباب الزيارة.
لم تطلب منهم أن يجلسوا. ظلت واقفة عند الباب تستمع بهدوء حتى أنهى المتحدث كلامه. وكان بإمكانهم أن يسمعوا تكتكة الساعة المعلقة بالسلسة الذهبية والمختفية تحت الحزام.
جاء صوتها جافا وباردا:
- أنا معفاة من الضرائب في جيفرسون. الكولونيل سارتوريس أوضح لي هذا، ويمكنكم أن تعودوا إلى سجلات المدينة للتأكد من ذلك.
- سبق وفعلنا، فنحن السلطة. الم تستلمي البلاغ المرسل والموقع من قبل الشريف؟
أجابت الآنسة أميلي قائلة:
- نعم، استلمت ورقة. قد يعتبر نفسه شريفا...ولكني معفاة من الضرائب في جيفرسون.
- ولكن ليس هنالك ما يثبت كلامك، لذا علينا أن...
_ ارجع إلى الكولونيل سارتوريس. أنا معفاة من الضرائب.
- ولكن يا آنسة أميلي...
- ارجع إلى الكولونيل سارتوريس. (الكولونيل سارتوريس متوفى منذ عشر سنوات) أنا معفاة من الضرائب.
ثم صاحت منادية
- توب.
فظهر الزنجي.
- رافق السادة إلى الخارج.
وهكذا هزمتهم، فرسانا ومشاة، تماما كما هزمت آباءهم قبل ثلاثين عاما حول الرائحة العفنة.
حدث ذلك بعد سنتين من وفاة والدها، ولم تمض بعد فترة طويلة على هجر حبيبها لها، والذي اعتقدنا أنه سوف يتزوجها. بعد وفاة أبيها كانت تخرج من حين لآخر، وبعد أن هجرها حبيبها لم يعد يراها أحد. بعض النسوة تجرأن وذهبن لزيارتها، لكنها لم تستقبلهن. وكان الزنجي العلامة الوحيدة على وجود حياة في البيت، يراه الناس يدخل ويخرج حاملا سلة التسوق.
قالت بعض السيدات:
- كما لو أن الرجل، أي رجل، يستطيع أن يؤدي واجبات المطبخ بالشكل الأمثل.
لذا لم يكن أمرا مثيرا للدهشة عندما انتشرت في المنطقة رائحة عفنة. وكان ذلك رابط آخر بين جمهرة الناس وآل غريرسون المتعالين.
جارة لها، عجوز في الثمانين شكت الأمر للعمدة، القاضي ستيفنز. قال لها متسائلا:
- وماذا تريدين مني أن أفعل يا سيدتي؟
- ابعث لها بخطاب كي تتدبر الأمر. أليس هنالك قانون؟
أجابها القاضي ستيفنز
- لا أرى ذلك ضروريا. ربما تكون هذه الرائحة ناتجة عن جرذ قتله الزنجي. سأتحدث معه في هذا الأمر.
في اليوم التالي استلم شكاوى أخرى. إحداها كانت من رجل قدم شكواه على استحياء.
- يجب أن نفعل شيئا بخصوص الموضوع سيدي القاضي. قد أكون آخر من يفكر في مضايقة الآنسة أميلي، ولكن لابد من عمل شيء.
في تلك الليلة اجتمع مجلس إدارة المدينة، ثلاثة بلحى بيضاء ورابعهم شاب ينتمي إلى الجيل الصاعد.
- المسألة في غاية البساطة. نبعث لها بخطاب نعلمها بضرورة أن تقوم بتنظيف بيتها، ونعطيها الوقت الكافي لتقوم بذلك، وإذا لم تفعل....
صرخ القاضي ستيفنز:
- اللعنة يا سيدي. هل تريد أن تتهم سيدة في وجهها بعفونة رائحتها؟
بعد منتصف الليلة التالية عَبَرَ أربعة رجال حديقة الآنسة أميلي وداروا حول المنزل كاللصوص يتشممون قواعد الجدران وفتحات القبو، بينما كان أحدهم ينشر شيئا ما من كيس معلق على كتفه. بعدها اقتحموا باب القبو ونشروا في داخله محلول الجير.
أثناء عبورهم للحديقة ثانية مبتعدين عن البيت، أضيئت إحدى النوافذ وأطلت منها الآنسة أميلي. انعكاس الضوء عليها من الخلف جعلها تبدو مثل تمثال مبتور الرأس والذراعين. لم يلتفتوا وواصلوا زحفهم عبر الأرض الخضراء صوب أشجار الخرنوب المحاذية للطريق حيث ابتلعتهم العتمة. بعد أسبوع أو اثنين اختفت الرائحة.
كان ذلك عندما بدأ الناس بالتعاطف معها. فسكان مدينتنا والذين مازالوا يتذكرون عمتها السيدة ويات التي فقدت عقلها تماما، يرون بأن آل غريرسون يضعون أنفسهم في موقع أرفع بقليل مما هم في الحقيقة. ولم يكن أحد من الشباب جيدا مع الآنسة أميلي. كنا دائما ننظر إليهما كلوحة: أميلي بجسدها الأهيف وملابسها البيضاء في الخلف، وأبوها بملابسه الداكنة المعتمة في مقدمة الصورة، ممسكا بسوطه موليا ظهره لأبنته، ويتأطران بالباب الأمامي المدفوع إلى الوراء. لذلك عندما بلغت الثلاثين ولم تكن قد تزوجت بعد، لم نكن مسرورين تماما، ولكن باحثين عن تبريرات: فبالرغم من الجنون المتوارث في العائلة، ما كانت لتضيع كل الفرص المتوفرة أمامها لو كان فيها شيئا من الواقعية.
عندما توفي أبوها تبين أنه لم يترك لها غير البيت، ففرح الناس لذلك لأنهم أخيرا سيشفقون على الآنسة أميلي، ثم أن الوحدة والحاجة سيجعلان منها كائنا أكثر إنسانية، وستعرف الآن قيمة القرش.
في اليوم التالي للوفاة تهيأت النسوة للتوجه إلى بيت المتوفى لتقديم العزاء والمساعدة. وكما هي العادة المتبعة استقبلتهن الآنسة أميلي عند الباب مرتدية ملابسها العادية ولم يكن باديا عليها أي أثر للحزن. قالت لهن بأن أباها ما يزال حيا. فعلت ذلك لثلاثة أيام متتالية رغم محاولات رجال الدين والأطباء في إقناعها للتجهيز لمراسيم دفن الجثة. كانوا على وشك اللجوء إلى القضاء عندما انهارت أخيرا، فقاموا بدفن الجثة على عجل.
ولم نقل بأنها جنت، بل أعطيناها بعض الحق فيما فعلت. وعندما تذكرنا كل أولئك الشباب الذين طردهم أبوها، أدركنا بأن أميلي وبعد أن خسرت كل شيء كان لابد لها من التشبث بالذي سلبها كل شيء، وكما سيفعل الآخرون.
يبدو أنها كانت مريضة لزمن طويل. عندما رأيناها ثانية، كان شعرها قصيرا، وقد جعلها تبدو كفتاة، مع شبه غامض لتلك الملائكة المرسومة على نوافذ الكنيسة الملونة_ شيء من سكينة مأساوية.
كانت المدينة قد سمحت للتو بتنفيذ عقود تعبيد الأرصفة، وفي الصيف الذي تلا وفاة والدها باشروا بالعمل. قامت شركة الإنشاءات المكلفة بجلب الزنوج والبغال والمعدات، وكان مراقب العمال، واسمه هومر بارون، شماليا ضخم الجثة، أسمر اللون، مستنفرا على الدوام ذا صوت جهوري وعينين أقل عتمة من وجهه. كان الأولاد الصغار يلاحقونه كي يسمعوه وهو يشتم ويلعن العمال الذين لا يتوقفون عن الغناء مع ارتفاع وهبوط المعاول. عرف الجميع في زمن قياسي. وأينما سمعت صخبا وضحكا في مكان ما من الميدان، فلابد أن هومر بارون يتوسط تلك المجموعة. بعدها بدأنا نراه مع الآنسة أميلي في عصريات الآحاد في العربة الصفراء يجرها زوج من الخيول ذات لون بني داكن اختيرت بعناية من حظائر سباق الخيل.
سعدنا في البداية لأن الآنسة أميلي وجدت في ذلك شيئا من المتعة والتسلية، ولأن جميع النساء تقريبا قالوا بأن آل غريرسون لن يعيروا اهتماما لكون الرجل من الشمال وعامل أجرة باليومية. لكن كبار السن، والذين كان لهم رأي آخر، قالوا بأنه لا يمكن للحزن مهما كان شديدا أن يجعل المرأة الأصيلة تنسى كرامة وشرف العائلة. لم يستخدموا بالضبط تلك الكلمات لمنهم قالوا: المسكينة أميلي، لابد لأقاربها أن يعرفوا بالأمر. ولدى أميلي أقارب في ألاباما، لكنه من سنين طويلة حصل خلاف بينهم وبين أبيها حول أملاك العجوز المجنونة ويات وانقطع الاتصال بين العائلتين من حينها، حتى أنهم لم يحضروا إلى مراسيم الجنازة.
وبدأ الهمس حالما قال كبار السن: المسكينة أميلي. كان أحدهم يقول إلى الآخر:
- هل تعتقد أن الأمر بهذا الشكل؟
- بالتأكيد هو كذلك وإلا ماذا يمكن أن يكون؟
ويجري الهمس كلما مرت العربة الصفراء في الطريق من أمام النوافذ تحت شمس عصر يوم أحد. المسكينة أميلي.
كانت ترفع رأسها عاليا حتى عندما كنا نعتقد بأنها على وشك أن تسقط، كأنها كانت تطالبنا أكثر من ذي قبل بعلو مقامها باعتبارها آخر فروع آل غريرسون، وكما لو أنها كانت تنتظر تلك اللمسة الأرضية لتؤكد منعتها وحصانتها. تماما كتلك الحالة التي اشترت فيها سم الفئران. وكان قد مر عام تقريبا على موضوع الهمس الذي جرى حولها، وكانت اثنتين من بنات عمها قد جئن لزيارتها.
قالت للصيدلي:
- أريد بعض السم.
كانت قد تجاوزت الثلاثين من عمرها، وكانت ما تزال نحيفة، ولو أنها أكثر نحافة من المعتاد. عيناها سوداوان يشع منهما عدم الود والعجرفة تتوسطان وجها مشدودا عند الصدغين وحول المحجرين يشبه في ذلك وجه حارس الفنار كما ينبغي أن يتخيله المرء. قالت:
- أريد بعض السم.
- أي نوع تريدين سيدتي؟ هل هو للفئران؟ أعتقد أن...
قاطعته أميلي قائلة:
- أفضل ما عندك، ولا يهم النوع.
ذكر الصيدلي بضعة أنواع قائلا:
- إنها يمكن أن تقتل حتى الفيل، ولكني....
قاطعته أميلي مرة أخرى لتقول:
- زرنيخ. هل هو نوع جيد؟
- هل ...الزرنيخ؟ دون شك سيدتي، ولكن لماذا تريدين...
- أريد زرنيخ.
نظر الصيدلي إليها، ونظرت إليه منتصبة، مشدودة كالعلم. أجابها أخيرا:
- بالطبع، سيدتي، ولم لا مادام هذا هو طلبك. ولكن القانون يتطلب منك أن تذكري دواعي الاستعمال.
لم ترد عليه لكنها راحت تحدق في وجهه وفي عينيه ورأسها مدفوع إلى الوراء، حتى انسحب بنظراته بعيدا عنها وتحرك ليجلب لها السم. لكنه لم يرجع إليها، بل جاءها الزنجي الصغير العامل في الصيدلية ليسلمها الطرد. وعندما فتحته في البيت قرأت تحت الجمجمة والعظمتين كلمات تقول: سم فئران.
وفي اليوم التالي قلنا: ستقتل نفسها، وأكدنا بأن هذا هو أفضل شيء يمكن أن تفعله. وعندما بدأت تخرج مع هومر بارون قلنا: سوف تتزوجه. بعدها قلنا بأنها سوف تنجح في إقناعه، لأن هومر سبق وأن أشار بنفسه بأنه يحب الغلمان، كما أن الجميع يعرفون بأنه يسكر مع الشباب في نادي ألك، وذلك هو السبب وراء امتناعه عن الزواج. ثم بدأنا نقول: المسكينة أميلي من خلف الشبابيك عندما تمر عربتهما، أميلي مرفوعة الرأس، وهومر على جانبها قبعته مدفوعة إلى الوراء والسيجار بين أسنانه، ممسكا باللجام والسوط بقفازات صفراء.
وعلت ثرثرة بعض النسوة اللواتي قلن بأن أميلي عار على البلدة ونموذج سيء للشباب. ولم يكن يرغب الرجال بالتدخل. لكن النساء تمكن في النهاية من إرغام رئيس الكنيسة المعمدانية على القيام بزيارتها. لم يكشف عما جرى في تلك المقابلة، ورفض أن يعود إليها ثانية. الأحد التالي عادا للظهور ثانية في شوارع المدينة، وفي اليوم التالي كتبت زوجة رئيس الكنيسة إلى أقارب أميلي في ألاباما.
وهكذا ظهر أقاربها في البيت ثانية، فانسحبنا من الواجهة نراقب تطور الأمور عن كثب. في البداية لم يحدث شيء. بعدها تأكدنا من أنهما سيتزوجان. علمنا بأن الآنسة أميلي ذهبت إلى محل الجواهر وطلبت طقم تواليت فضي رجالي مكتوب على كافة قطعه الحرفان (H. B.). وبعد يومين عرفنا بأنها اشترت ملابس رجالية من ضمنها قميص نوم، فقلنا بأنهما قد تزوجا. كنا سعداء حقا، سعداء لأن ابنتي عمها كانتا أكثر انتماءا لآل غريرسون من أميلي نفسها.
لذا لم نندهش عندما رحل هومر بارون، وكانت أعمال تعبيد الطريق قد انتهت منذ فترة. ربما أصابتنا الخيبة بعض الشيء لأنهم لم يحتفلوا بالمناسبة علنا، لكننا اعتقدنا بأنه رحل كي يهيئ لاستقبال أميلي، أو ليمنحها الفرصة كي تتخلص من ابنتي عمها ( في ذلك الوقت كنا جميعا متعصبين لأميلي ونتحاشى تماما القريبتين). بعد أسبوع رحلتا، وكما توقعنا، وخلال ثلاثة أيام، عاد هومر بارون إلى المدينة. في إحدى الأمسيات رأى أحد الجيران الزنجي وهو يفتح له باب المطبخ.
وكانت تلك آخر مرة نرى فيها هومر بارون. وكنا نرى الآنسة أميلي أحيانا. ظل الزنجي يخرج ويدخل حاملا سلة التبضع، لكن الباب الرئيس ظل مغلقا. ومن حين لآخر كنا نراها تطل من النافذة لبعض الوقت كما حدث مع الرجال الذين نشروا محلول الجير حول البيت. لكنها تقريبا لستة شهور لم تظهر في شوارع المدينة. حتى هذا كنا نتوقعه، إذ يبدو أن سلوك والدها الذي وقف حائلا بينها وبين إشباع حاجاتها كأنثى ولأكثر من مرة قد ترك في أعماقها حقدا وغلا لا يمحي ولا يموت بسهولة.
عندما رأينا الآنسة أميلي في المرة التالية كانت قد ازدادت سمنة وغزا الشيب شعرها. وخلال بضع سنوات ابيض شعر رأسها تماما، لكنه ظل محتفظا بحيويته حتى لحظة موتها وهي الرابعة والسبعين من عمرها.
منذ ذلك الوقت ظل الباب الرئيس مغلقا باستثناء فترة ست أو سبع سنوات عندما كانت في الأربعين، خلالها كانت أميلي تعطي دروسا في الرسم على الخزف الصيني. قامت بتحويل إحدى غرف الطابق الأرضي إلى استديو حيث تستقبل بنات وحفيدات العوائل خلال فترة الكولونيل سارتوريس والذين واظبوا على إرسالهن إليها بصورة منتظمة تماما كما كانوا يرسلوهن أيام الآحاد إلى الكنيسة، تحمل كل واحدة منهن عشرين سنتا من أجل صحن التبرعات.
بعدها احتل الجيل الجديد مواقع السلطة في البلدة،وكبر التلاميذ فانفرطوا عنها ولم يرسلوا أولادهم إليها محملين بعلب الألوان والفرش والصور المقطوعة من المجلات النسائية، فأغلق الباب الرئيسي ولم يفتح. عندما حصلت المدينة على خدمات مجانية للبريد، لم تسمح لهم بتثبيت الحروف المعدنية على الباب أو تعليق الصندوق، ورفضت أن تصغي لهم.
كل يوم وعلى امتداد أشهر السنة والسنوات المتواصلة كنا نراقب الزنجي وهو يكبر ويشيب شعره ويزداد انحناء وهو يخرج ويدخل حاملا سلة التبضع. وفي الشهر الأخير من كل سنة نبعث لها ببلاغ الضريبة، فتعيده إلينا بالبريد بعد أسبوع من إرساله. ومن حين لآخر نراها عند أحد نوافذ الدور الأرضي كأنها تمثال في محراب تنظر أو لا تنظر إلينا وهذا ما لم نستطع البت به. كان واضحا لنا أن أميلي أغلقت الدور العلوي للبيت. هكذا كانت تنتقل من جيل إلى آخر عزيزة، منيعة، لا مفر منها، نقية ومنفلتة.
وأخيرا ماتت. مرضت في بيت تملؤه الظلال والغبار، لا أحد معها غير زنجي عجوز متهالك يقوم على خدمتها. ونحن لم نعرف بأنها كانت مريضة، فقد تخلينا منذ زمن بعيد عن متابعة أخبارها وسؤال الزنجي عنها، والذي لم يكن يتحدث مع أحد، بل ربما لم يكن يتحدث حتى معها، لأن صوته صار جافا خشنا وصدئا من عدم الاستعمال.
توفيت أميلي في إحدى غرف الدور الأرضي في سرير فخم مصنوع من خشب الجوز، وكان رأسها الأشيب يرقد على وسادة صفراء متعفنة بسبب قدمها ونقص ضوء الشمس.
استقبل الزنجي طلائع النساء المعزيات عند الباب الرئيسي، وكن يحذرن بعضهن بالتزام الهدوء، بينما كانت عيونهن تتحرك بفضول شديد في أرجاء المكان. تركهن الزنجي وتحرك مبتعدا إلى الداخل حيث اختفى ولم يره أحد ثانية.
حضرت ابنتا عمها في نفس يوم وفاتها، وأقامتا مراسيم الجنازة في اليوم التالي، فحضر الجميع لإلقاء النظرة الأخيرة على الآنسة أميلي وهي ترقد في كفن مجلل بالورود، ووجه والدها في الصورة التخطيطية يطل عليها بنظرته التأملية العميقة، والنسوة من حولها يتهامسن وهن في حالة رهبة وفزع، وعدد من الرجال كبار السن جدا، بعضهم في بزاتهم الاتحادية، تجمعوا في الرواق أو في الحديقة يتحدثون عن الآنسة أميلي كما لو كانت تنتمي لجيلهم، معتقدين بأنهم رقصوا معها وربما غازلوها أيضا، وقد تداخلت واختلطت عليهم الأزمنة كما يحدث لكبار السن عادة، والذين يبقى الماضي بالنسبة لهم أكبر من كونه طريقا باهت الألوان، بل هو مرج أخضر مترامي الأطراف لم يدنو منه أو يلمسه شتاء، يفصله عنهم طريق ضيق أشبه بعنق زجاجة متمثلا في سنوات العمر الأخيرة.
وعرفنا بأنه يوجد غرفة واحدة في الدور العلوي لم يدخلها أحد منذ أربعين عاما، فانتظروا حتى انتهاء مراسيم دفن الآنسة أميلي كي يفتحوها.
الاقتحام العنيف لباب الغرفة جعلها تمتلئ بالغبار المتطاير. وكان هنالك حجاب من القتامة، كما لو في القبر، يبعث على الكآبة، يغلف أرجاء الغرفة المعدة لليلة عرس، وينتشر فوق الستائر ذات اللون الزهري الحائل والمصابيح وطاولة الزينة وأدوات زينة رجالية مغلفة بطبقة من الفضة الصدئة، وقد أخفى الصدأ حروفا حفرت عليها، وإلى جانب تلك الأدوات كانت هنالك ربطة عنق وياقة كأنهما خلعا للتو، عندما رفعناهما من موضعهما، تركا هلالا شاحبا من الغبار. وفوق كرسي وضعت بدلة طويت بعناية، وتحت الكرسي حذاء وجوربين.
وكان الرجل نفسه يرقد في السرير.
لبرهة من الزمن وقفنا في موضعنا هناك نتأمل تلك التكشيرة العظمية. كان واضحا أن الرجل منذ رقدته الأولى وهو في حالة عناق، لكن النوم الطويل على ما يبدو قد أزاح عنه كل ما له علاقة بالحب. وما بقي منه كان متفسخا تحت ما تبقى من بيجامته، متحولا إلى جزء غير قابل للفصل عن السرير الذي يرقد فيه.
ثم لاحظنا وجود انبعاج في الوسادة الثانية يشير إلى استخدامها من قبل شخص آخر. والتقط أحدنا شيئا من على تلك الوسادة. عندما انحنينا لتفحصه، واخترقت خياشيمنا رائحة الغبار الحارقة، تأكد لنا بأنها شعرة طويلة رمادية اللون.
أبو ظبي 25 / 05 / 200 |