هاجس التجديد في الشعر يعني الصراع على حدود مستقبل الشعر و محاولة اقتحام افاقه القادمة او الاسهام الفعال في صنع هذه الافاق بتقديم الابتكار النصي المستمد فعالية جدته ومشروعيته من قدرته التوليدية على صعيد الشكل او المضمون ، وعلى صعيد التواصل والانبثاق من النمط السائد او الراسخ امتدادا الى مساحات شعرية بكر يحقق من خلالها جدلية الصراع بين النموذج والتجاوز، وهذه الجدلية او هذا الهاجس لا يخصب الا في فضاء التجريب المتمثل بالمغامرة والوقوف في النقطة الحرجة من تاريخ الشعر ، أي حيث تنتهي اليه التجربة الشعرية العامة او تؤول اليه ويستقر عنده مشهدها العام . وفي التجربة الشعرية العراقية ـ وعلى امتداد اكثر من نصف قرن ـ كان هذا الهاجس ـ هاجس التجديد ـ طاغيا في اغلب التجارب الشعرية الجادة ، فبعد ان حطم الشعراء الرواد في نهاية الاربعينات من القرن الماضي الجدار الشعري الكلاسيكي المتمثل بنظام الشطرين في القصيدة انكشفت امام الشاعر مساحات جديدة للقصيدة تغري بالاندفاع والبحث والكشف ولا سيما ان معظم هؤلاء الرواد هم عراقيون .. اذن فعلى الشاعر العراقي او على الشعرية العراقية مسؤولية الامتداد في المساحات الجديدة .. فحين جاء الشعراء الستينيون اردوا ان يسوغوا هذه الريادة فنيا ليجيبوا على السؤال الضمني الذي طرحته التجربة وهو ( ثم ماذا ؟ ) أي ماذا بعد الريادة ؟ فاضاؤوا فضاء هذا السؤال بمصابيح التجريب ليعمقوا اثر التجربة الريادية ويثيروها، فخاضوا في شعرية الرمز وشعرية الغموض وشعرية التكثيف وشعرية الفراغ.. الخ ولم يدعوا بابا يؤدي إلى فضاء التجريب دون ان يلجوه.. وهكذا لم تستقر القصيدة العراقية من لهاث التجريب الا في السبعينات حيث رُوضت القصيدة ووجدت لها مساحات هادئة تتهادى فيها ، ولكن هاجس التجديد بقي كالجمر تحت الرماد وبقيت عيون الشعر تترقب أي فرصة زمنية للانقضاض واصطياد غزالة التجديد الهائمة في خيال الشاعر العراقي ، فما ان توسطت الثمانينات او قبل ذلك ، حتى ترجرج المشهد الشعري من جديد حيث لاحت في الافق غزلان قصيدة النثر .. وما ان انجلى المشهد الثمانيني حتى صارت قصيدة النثر مشروعا جديدا تسارع اليه كثير من الشعراء لئلا تفوتهم ثمرة من شجرة الريادة الجديدة برغم ان قصيدة النثر ظهرت في نهاية الخمسينات عربيا وكتبها بعض الشعراء الستينين .. لكنها في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات تبلورت كمشروع شعري رئيس حتى اصبحت قضية شعرية كبرى ، فاذا كانت في الستينات جزء من ( موجة صاخبة ) فانها في نهاية الثمانينات صارت الموجة كلها والمقطع العرضي من الموجة القادمة باتجاه الشاطئ . وما ان استقرت قصيدة النثر واستنفدت ـ او كادت ـ مفاتيح تجريبها حتى ظهرت في اواسط التسعينات محاولة تجريب على الاوتار القديمة ، وفي فضاء القصيدة الام ـ القصيدة العمودية ـ فظهرت القصيدة العمودية الجديدة بدعوى ان هذه الاوتار ـ الاولى ـ لم تكتشف كل اسرارها بعد .. وان الذي غنمناه في ثوراتنا الشعرية الجديدة يمكن ان نعلقه على مشجب القصيدة العمودية الام وان فنون الشعر الحديث مهما طالت او عرضت يمكن ان تطوع الشكل القديم للقصيدة مضيفين لهذه الفنون .. شعرية الايقاع وشعرية القافية .. وهكذا استمِر المشهد بالبحث عن الجديد . ولكن هل هذه الهرولة الحداثوية هي كلها في صالح الشعرية العراقية وفنها وقيمتها التاريخية ام انها قد تعوق من استقرار جماليتها ورسوخ فنها ؟ ِ فاذا اسلمنا باهمية التجريب كونه من ادوات التجديد الرئيسة في الشعر فان هذا التجريب نفسه قد ينسحب على التجربة سلبا بمستوين ، الاول هو مستوى التجربة الشخصية للشاعر او التجربة الشعرية العامة حيث يؤدي الالحاح على الفعل التجريبي الى رجرجة المشهد الشعري وعدم استقراره وتاصله لان القصيدة نفسها كمشروع ادبي فني يتحرك ضمن اطار تاريخي ، يتطلب العمل عليه مدة زمنيه قد تزيد على عمر الشاعر الكتابي لكي توسع افاق التجربة الجمالية وتترسخ جذوره و فعاليته ومستويات الاستجابة لها من لدن المتلقي ثم تاخذ حيزها وعمقها في اطار التجربة الشعرية الكلية حيث ياخذ النص مساحته الامتدادية في المشهد التاريخي من كونه نصا عفويا جديدا دعت اليه معطيات المعاصرة والحداثة والتطلع الى خلق الجديد الى نص مدروٍِِس اثبت صلاحيته وقابليته على التواصل والانسجام مع ايقاعات العصر القادمة وكونه نصا استقر ـ شكليا ـ ولم يستنفد كل امكاناته الشعربة وتطبيق كل فنون الشعر الحديثة عليه وانفتاحه على الاجناس الادبية الاخرى وربما الفنون الاخرى غير الادبية ، فان هاجس التجريب الطاغي يزعزع استقرار هذا النص وبقاءه ضمن منطقة نموه وتفتحه وانتشاره ، فيسحب كاتبه الى منطقة اخرى فيها مغريات ريادية قد تكون وهمية فتقطع سلسلة التواصل مع نمو النص الجديد الاول والسقوط في منطقة استطيع ان اسميها منطقة ( الصفر الريادي ) والسبب هو هاجس البحث عن ريادة والبحث عن بداية وبهذا يبتعد الشاعر او يفقد تاسيساته النصية ويترك بناءاته النصية ـ فنيا ـ من دون اكتمال او من دون تطور متواصل .. وبهذا ينخلق مشهد شعري رجراج منهك بالبحث عن البدايات ـ ريادات ـ او تقاط صفر جديدة تحت مظلة التجديد , اما المستوى السلبي الاخر قيكمن في الفوضى الشعرية التي يمكن ان تتيحها مظلة التجريب فتمر خلال المشهد العام وتشوهه محاولات لا تملك شروط التجريب الشعري الاساسية ولكننا مع هذا سنسمح لها بالمرور بدعوى عدم الوقوف بوجه التجديد ، وهكذا تنطلي على المشهد العاب ( شعرية ) كاضافة رسوم الى القصيدة او اضافة معادلات رياضية او كيمياوية او اضافة طلاسم واوراد سحرية او العاب غنوصية وغموض مفتعل ومعان متراكبة ومتعاضلة او سحب النص الى لغة السرد العادي بدعوى الانفتاح , وغيرها من المحاولات اللا شعرية التي تقحم في المشهد الشعري العام وعلينا ان نسكت اذا كنا نؤمن بالتجديد . ولكن كيف نحصن انفسنا ونحصن المشهد العام من هكذا فوضى تجريبية .. ؟ الجواب يكمن في ان نضع مقياسا دقيقا للشعرية نميز من خلاله قيمة النص ومدى انتمائه الى فن الشعر اولا ، ثم نفحص بهذا الميزان الحساس طريقة صياغة النص سواء كانت قديمة ام جديدة وبهذا لايفلت النص من قبضة التقويم والتقييم ولا ياخذ وقتا محسوبا على مسيرة الشعر العراقي التي عرفت بالانعطافات الشعرية المهمة وعرفت بفتح الافاق واكتشاف المناطق الجديدة والمجهولة في الشعر .. بل ان اسباب عدم استقرار واطمئنان الشعرية الى نمط واحد هي اسباب قد تكون تاريخية مستمدة من العمق الحضاري والريادي للانسان العراقي او اسباب نفسية متعلقة بالذات العراقية واحساسها بالتفوق والقدرة على الخلق والتجاوز او اسباب سياسية تتعلق بعدم الاستقرار السياسي في العراق وخاصة في التاريخ الحديث ولا سيما في العقود الاخيرة .
alikalafalemara@yahoo.com
|